“جان روش”.. عاشق السينما الذي حكى قصة أفريقيا الخالصة

 

عبر كتابة سينمائية جديدة حيوية وعفوية، اخترع هذا الشغوف بأفريقيا طريقة لا سابق لها ليروي قصص الإنسان والعالم. لقد حقق الفرنسي “جان روش” خلال مسيرته المهنية أكثر من 180 فيلما وثائقيا صوّر معظمها في أفريقيا.

تتحول الكاميرا بين يديه إلى أداة جديدة للاستقصاء والبحث عن الإنسان ومعتقداته ومتخيله، فقد أسس هذا الباحثُ والسينمائي -الذي يحتفل العالم هذا العام بمرور مئة سنة على ولادته- بأسلوب متفرد العلاقةَ بين السينما وعلم الإنسان.

ثقافات نهر النيجر.. رحلة من المنبع إلى المصب

شُغِف الفرنسي “جان روش” (1917-2004) بالثقافة الأفريقية منذ صغره، وشكّل ذهابه إلى النيجر للعمل مهندسا للطرقات والجسور منعطفًا في حياته، فحين مات أحد العمال العاملين في ورشته، وكان من قبيلة “سانغاي”؛ لفتت نظر “روش” الطقوس الغامضة التي رافقت عملية الدفن. وهكذا تابع فور عودته لفرنسا دروسا في علم الإنسان (دراسة عادات ومعتقدات الشعوب)، وعاد بعدها من جديد لأفريقيا مسلحا بأداة جديدة للبحث والاستقصاء عن الإنسان وطرق عيشه.

أخذ “روش” يتنقل على هواه والكاميرا لا تفارقه، معتمدا الارتجال والتقاط اللحظة والتواصل مع الناس على نحو ربط معه بطريقة متفردة بين السينما والعلوم الإنسانية. ويعد قطعه لنهر النيجر بين عامي 1946-1947 بطوله البالغ 4200 كيلومترًا من منبعه إلى مصبه في المحيط الأطلسي مأثرة استثنائية.

كان “روش” يذهب في مهمات لأفريقيا ويصور أفلاما ويحضر أطروحة دكتوراه، وكان يدرّس أيضا السينما في فرنسا والولايات المتحدة وأفريقيا. حيوية يحرّكها اهتمام عميق بالقارة السوداء، لقد شكّل من باريس جمعية الفيلم الإثنوغرافي التي كان مقرها متحف الإنسان، وقام بأبحاث ومحاولات سينمائية لإنتاج أفلام قصيرة بدعم من المركز الوطني للسينما بفرنسا.

كانت لأفلامه الأكثر شهرة أصداء كوقع الصاعقة في السينما الفرنسية في فجر الموجة الجديدة. وقد بقي طوال مسيرته المهنية مرتبطا بسينما خفيفة تعتمد كاميرا متنقلة وعملا جماعيا يفسح المجال للخلق.

حكاء كبير ورجل صادق تسكنه روح المغامرة، يكتشف البلدان وأناسها، ويجتذبه غموض تقاليدها وطقوسها، كان يعلن عن تحمله لمسؤولية خياره الذي لا يعتمد الحياد بل الذاتية في علاقته مع هؤلاء الذين يصورهم. أفلامه فيها هذا الإرث السريالي وحس الاستكشاف وأفريقيا في لحظات استقلالها.

اختار “روش” ثقافة شعب السونغايا في النيجر مرتعا مفضلا لدراساته، واعتبر فيلمه “استهلال لرقصات حيازة الأرواح” (Initiation à la Danse des Possédés) من أوائل الأحداث التي ساهمت في بروز مفهوم سينما المؤلف.

 

أداة التوثيق السينمائي.. أعمال تبحر في الثقافة الأفريقية

عمل “جان روش” في أفلامه الوثائقية على توثيق الحيوية الاجتماعية والظواهر والطقوس الدينية في القارة الأفريقية. لم يكن يرغب في أن يكون مجرد مراقب حيادي، وكان الفيلم بالنسبة لهذا السينمائي الإثنوغرافي وسيلة، كغيره من الأدوات التوثيقية كالصور والتسجيلات الصوتية.

سينماه معلمة مفعمة بالصداقة وبهذا التواطؤ المرح القائم بينه باعتباره أوروبيا وبين أصدقائه الأفريقيين، وكان تحقيق أفلامه يمتد على سنوات عدة لالتقاط كل التفاصيل والمتغيرات، غير عابئ بالقيود الإنتاجية والمتطلبات التسويقية.

في فيلم “جاغوار” (Jaguar) مثلا، رصد فوران المدن وتحولاتها وخليط الثقافات فيها متخذا مدينة أغرا عاصمة غانا مثالا، وعلى مدى أعوام من 1954-1968 تابع هجرة العمال القادمين من القرى المعزولة في الساحل للمدن الكبرى كل عام للعمل فيها لمدة أشهر.

وفي فيلم “المعلمون المجانين” (Les Maîtres Fou) الذي أنتج عام 1954 يقدم محاكاة تهكمية ساخرة للسلطات المستعمرة، ويعاين تنقل المهاجرين باستمرار بين مجتمع ذي ثقافة محلية أصيلة ومجتمع يقع تحت تأثير الاستعمار.

أما في “صيد الأسود بالقوس والنشاب” (La Chasse au Lion à l’Arc) الذي نال عنه الجائزة الذهبية في البندقية، فهو يصور من 58-65 طقوس القبيلة كما لو كانت مسرحية جماعية الجميع مسؤول عنها وعن مسرحتها ويبقى في النهاية اسم صانعها مجهولا.

وفي فيلمه الشهير “أنا، أسود” (Moi, Un Noir) الذي أنتج بين عامي 1957-1959 فإنه يترك الكلمة لشاب مهاجر من النيجر إلى أبيدجان في ساحل العاج، ويقدم فيه أطروحات بأسلوب مرح لقضية الهوية، مقابل الأطروحات المتشائمة عن مسألة الاغتراب الثقافي.

“يوميات الماء”.. فيلم لا سابق له في تاريخ السينما

ثمة أعمال أخرى لـ”جان روش” نالت جوائز عالمية مثل “يوميات صيف” (Chronique d’un été) الذي حققه في الستينيات في باريس، مشاركة مع “إدغار موران”، وقد نالا عنه جائزة النقاد في مهرجان “كان” 1960، وفيه يفتح أبواب السينما باعتبارها فضاء للحوار والتأمل الجماعي، حيث يظهر الأبطال كممثلين لحياتهم الشخصية وفيه يسألان “الباريسيين” عن تدبرهم العيش ويطرحان سؤالا بسيطا وجوهريا “هل أنتم سعداء؟”

إنه فيلم يثير قضايا الحب والعنصرية والثقافة، وقد اعتبر فيلما لا سابق له في تاريخ السينما. كما حصد “مدام الماء” (Madame l”Eau) الجائزة الكبرى للسلام في برلين 1993.

كما أن من أفلامه فيلما يعتبره النقاد على حدة، وهو “مقابر في الجرف” (Cimetière dans la Falaise) في جرف باندياغارا في مالي. وقد اشتركت معه في فيلمه هذا عالمة في عقائد وطقوس وأساطير قبائل “الدوغون”، لقد أراد إكمال مشروع معلمه “مارسيل غريول” بتوثيق احتفالات “سيغوي” وطقوس تحدث مرة واحدة فقط كل ستين عاما.

ابتكارات باسم جان روش.. ثورات في عالم السينما

لم تكن سينما “جان روش” كتلة واحدة، بل كانت سلسلة من الابتكارات المتتابعة التي تستفيد من التطورات التقنية. ففي البداية كان يصور لقطات صامتة قصيرة جدا يقطعها بالمونتاج ثم يوحدها بالصوت، وكان الصوت بعدا أساسيا لديه في كتابة الفيلم، وتجتمع فيه التعليقات والموسيقى وضجيج الحياة من حوله، الضجيج الطبيعي وتضاف له المؤثرات الصوتية.

ولذلك اعتمد “روش” المسجلات الصوتية فور ظهورها، وتدين له السينما -ولبعض غيره- بتسجيل الصورة والصوت في آن معا في أي مكان منذ بدايات الستينيات، ثم كان يقوم بإعادة تشكيلهما بطريقة متزامنة. إنها ثورة في التقنية تزامنت مع تحول جزئي في جماليات فيلمه، إذ بات يعتمد اللقطة الطويلة بين الستينيات والسبعينيات، وترك لنفسه لذة التقاط الحدث والتعبير عنه على نحو أفضل بفضل استمراريته.

 

عمق الارتباط بالمواضيع.. أسلوب جديد في تصوير الأفارقة

اعتبرت أساليبه في السرد والتصوير في بعض الأفلام “تحولا تاريخيا” في تاريخ السينما. ففي فيلم “أنا، أسود” صوّر المخرجُ “روش” الشابَّ “عمرو غاندا” المهاجر النيجري في حياته اليومية، ثم أراه الصور وترك له المكان ليعلق.

كانت تلك سابقة فللمرة الأولى وضع موضوع الإثنوغرافي (الشاب عمرو) في موقع المتكلم، وظهر بقوة كلماته كأنه شخصية حقيقية سينمائية، وهو الذي بات فيما بعد أحد أوائل السينمائيين في أفريقيا.

وهناك ثورة أخرى أحدثها هذا السينمائي والعالم الإثنوغرافي حين استخدم في فيلمه “شيئا فشيئا” (Petit à Petit) الذي أنتج بين 1968-1971 لعبةَ مرايا ليظهر عنف المستعمر وعنصرية الأنثروبولوجيا التقليدية، حين يأتي الأفريقي ليواجه الأوروبيين بلا أي خشية وبكل صراحة في ساحة التروكاديرو بباريس.

إثنوغرافيا “روش” قائمة على الود والارتباط العميق بمواضيعه، ومؤسسة على الحوار والألفة والانفتاح المتبادل للتصورات، وقد حقق مجموعة من الأفلام مع أصدقاء له من النيجر.

“باحث في علم الإنسان”.. سينما عابرة للأمكنة

تنقل “جان روش” من الساحل الأفريقي إلى مالي والنيجر، إنه رجل التيه في المدن، مستعد دوما لأي طارئ سعيد، تغذى من تقاليد السريالية، وسخر من ادعاءات حياد العلم، فقد تحمل تماما بكل سرور -كما أشرنا- مسؤولية ذاتية أعماله وعلاقة المشاركة والود التي تجمعه مع هؤلاء الذين كان يصورهم. أرضه التي عمل فيها كانت واقعة في قارة عشقها، بعيدة ولكن أصداء أعماله وتسجيلاته فيها كانت كالرعد في أوربا، كما يصفها العارفون بسينماه.

عن فيلم “أنا، أسود” مثلا قال المخرج الفرنسي السويسري الكبير “جان-لوك غودار”: أيوجد تعريف أو تحديد للسينمائي أكثر جمالا من “باحث في علم الإنسان”؟ لقد أراد “غودار” بدايةً في بادرة إعجاب بـ”روش” تسمية فيلمه الشهير “في النفس الأخير” بـ”أنا، أبيض”.

أما المخرج “جاك ريفيت” فقد أكد على خصوبة وغنى سينما “روش” للجيل الذي تابع أعماله وقال: روش هو المحرك للسينما الفرنسية منذ 10 سنوات وإن أدرك قلائل هذا.

لم يزل “روش” مخلصا لطريقته في العمل مع ميزانية قليلة وفريق تصوير صغير، وبهذا كان لديه الوقت ليبحث ويبحث، كما لاحظنا من مدة تصوير أفلامه التي كانت تمتد لسنوات، وارتبط بالسينما الحقيقية قبل أي أحد آخر. إنه الأمثولة لسينمائيي اليوم الذين يفضلون بدء أفلامهم مع ميزانية ووسائل محدودة، بدل انتظار الحصول على دعم مادي. وفي هذا كان الرائد أيضا.

أودى حادث سيارة بـ”جان روش” في الأرض التي شغف بها، ودفن في نيامي عاصمة النيجر عام 2004.


إعلان