نادية لطفي.. الصعيدية الأوروبية
معها، لا فائدة من التدرب علی النسيان.
هي صاحبة “النظارة السوداء”، التي وقع في غرامها “سلطان”، وخاضت مغامرة مع سعاد حسني “للرجال فقط”.
الجميلة الساحرة “لويزا” في “صلاح الدين الأيوبي”، والعشيقة المستهترة في “أبي فوق الشجرة”.
ولأن العالم صغير مثل بندقة في يد سنجاب، والزمن له حكمته وحيلته، ها هي نادية لطفي تروض الزمن بهدوء، وتتآلف مع أشباحها، وتشعر بأن الموت صديقها المقرب.
إنها هي نفسها، بولا محمد مصطفى لطفي شفيق، المولودة في 3 يناير/كانون الثاني عام 1937 بحي الوايلي بالعباسية بوسط العاصمة القاهرة لأب مصري وأم بولندية. كانت الفتاة الشقراء الفاتنة، التي حصلت على دبلوم المدرسة الألمانية في باب اللوق بمصر عام 1955، ابنةً لرجل من محافظة سوهاج كان يعمل محاسبا. اسمها الحقيقي هو “بولا”، في حينيدللها والدها كان يدللها باسم “بومبي”.
اسم الشهرة اقتبس من بطلة الرواية الشهيرة “لا أنام”، التي كتبها إحسان عبد القدوس وجسَّدتها على الشاشة في تلك الفترة فاتن حمامة. نادية هي من اختار الاسم عوضا عن الأسماء المقترحة من قبل المنتج رمسيس نجيب -مثل سميحة حمدي
أوسميحة حسين- وهو من اكتشفها وقدمها للسينما في فيلم “سلطان” عام 1958.
تردد وقتها أن إحسان عبد القدوس قد رفع قضية مطالبا بحقه الأدبي، في حين أن الحقيقة أنها كانت مجرد مزحة أطلقها مع
المنتج حينها. قامت نادية لاحقا وعلى مر سنوات بتمثيل أفلام عديدة مقتبسة من روايات إحسان مثل “النظارة السوداء”، “وسقطت في بحر العسل”، كما حضر هو مع فاتن حمامة العرض الأول لأول فيلم لها في ذلك الحين “سلطان”، وقالت فاتن لنادية يومها ضاحكة “لا تنسي أبدا، أنا نادية لطفي الحقيقية”.
ذكرت بولا عن والدها في أحد حواراتها أنه “رجل صعيدي النشأة يتميز بقوة الشخصية والصلابة، لكنه من داخله كان رقيقا ومثقفا يجيد عدة لغات، وكان لهذا تأثير كبير على علاقته بوالدتي التي أحبته بجنون وتركت أوروبا وعاشت في صعيد مصر، وضحت بكل شيء من أجله، فعاشت معه في مسقط رأسه بالصعيد”.

تزوجت بولا ابن الجيران وحُبها الأول الضابط البحري عادل البشاري، وهي ما زالت في سن السادسة عشرة، وقبل حصولها على الثانوية العامة بسنتين، أي قبل أن تبدأ مشوارها الفني تماما، وهو والد ابنها الوحيد أحمد.
استمر زواجهما مدة قصيرة، أنجبت خلالها الابن الوحيد أحمد. وحين هاجر زوجها إلى أستراليا طلبت الطلاق منه بعد أن طالت أعذاره ومبرراته لغيابه الطويل عنها، واحتفظت بابنها معها.
تزوجت مرتين بعد ذلك، مرة من المهندس إبراهيم صادق، ما جعلها هي وهدى ابنة الرئيس الراحل جمال عبدالناصر “سلايف” -لفظة تطلق على زوجات الأخوة- كونها كانت أيضا مرتبطة بأخيه د.حاتم صادق.
تمت هذه الزيجة في أوائل السبعينيات وبعد ستة أعوام من زواجهما شعرت خلالها بحالة من الاستقرار والهدوء، فوجئت بوضع جهاز تنصت من المخابرات المصرية فى منزلها؛ فأرادت أن تعرف هذا لها أم لزوجها المرتبط بعائلة الرئيس عبدالناصر بصلة مصاهرة.
ظلت في حيرة طيلة مدة زواجها من “إبراهيم” فانتابتها حالة من الغضب والتوتر، ما جعلها تطلب الطلاق لتنفصل عنه بهدوء دون أن تنجب منه أطفالًا بناءً على رغبته.
أما الزوج الثالث فكان محمد صبري، شيخ مصوري مؤسسة “دار الهلال” الصحفية، الذي دخل حياتها بمحض الصدفة أثناء قيامها بتصوير فيلم “سانت كاترين”، وكان هو الآخر يستعد لتصوير فيلم له، فجمعهما مكان واحد، وسرعان ما عرض عليها الزواج فتسرعت بالموافقة، وندمت فيما بعد لقصر مدة زواجهما وكثرة الخلافات بينهما، وانتهى الأمر بالانفصال.
تقول نادية لطفي: “لم يكن في البيئة التي عشت فيها شيء اسمه الفن، أو حتى ظل له، كنت سيدة عادية، أعيش حياتي الاجتماعية والعائلية بكل بساطة، ودون أن يخطر لي أبدا أن أكون ممثلة، أو أعرف أن عندي موهبة فنية، ولكن، وبالتأكيد فإن البيئة ليست هي التي تخلق أي فنان، وهكذا فلا بدَّ أنه كان في تكويني الفني والفكري ملامح فنية برزت عندما وجدت فرصتها ومجالها .. وهذا حال المواهب والأحاسيس الفنية التي من الممكن أن توجد في جميع القطاعات، وليس في البيئة الفنية بالضرورة”.
قدمت نادية لطفي العديد من الأفلام وكان رصيد أفلامها على مدار 30 سنة، نحو 70 فيلما، أولها “سلطان” عام 1959، ولكن كانت الانطلاقة الحقيقية لها في أفلام “النظارة السوداء” و”للرجال فقط” (إخراج محمود ذو الفقار، 1964) و”الناصر صلاح الدين” (إخراج يوسف شاهين، 1963).
كما لفتت الأنظار في أدوار أخرى مثل دور الراقصة “زنوبة” في “قصر الشوق” (إخراج حسن الإمام، 1966) وفتاة الليل “ريري” في “السمان والخريف” (إخراج حسام الدين مصطفى، 1967).
وحصلت على العديد من الجوائز أهمها من المركز الكاثوليكي وجائزة ومن المؤسسة العامة للسينما، وجائزة مهرجان طنجة، والتقدير الذهبي من الجمعية المصرية لكتاب السينما.
الطريف أن نادية لطفي قررت تعيين سكرتير خاص بها، لينظم لها مواعيد عملها ويختار لها الفساتين التي ترتديها، بعد أن طلب منها المخرج حسام الدين مصطفى، أن تنقص من وزنها حوالي 9 كيلوجرامات، من أجل دورها في فيلم “النظارة السوداء”.

وبالفعل، قام السكرتير بتنظيم مواعيد الطعام لها، واختيار الأصناف بالإضافة إلى طريقة ملابسها، لتحصل في النهاية على الدور، الذي برعت فيه. قدمت نادية في هذا الفيلم شخصية “مادي” وهي فتاة من الوسط الأرستقراطي، تعيش بلا هدف في الحياة وبسبب ثرائها وتحررها الزائد يجتمع الشباب حولها، إلى أن تقابل (عمر) المهندس الذي يؤمن بأن الإنسان لا يمكن أن يدرك السعادة وهو بلا نفع في الحياة ويعيش على أهواء الآخرين. تجد فيه رفيقًا من نوع جديد يثير اهتمامها، فى حين أن (عمر) يجد فى (مادي) فتاة تافهة ويسعى لإعطائها الأمل في الحياة،
كان فيلم “النظارة السوداء” من بطولة أحمد مظهر ونادية لطفي، وظهر الفنان أحمد رمزي كضيف شرف، وهو من إخراج حسام الدين مصطفى، وتم إنتاجه عام 1963.
كانت تربط نادية لطفي بالسندريلا سعاد حسني علاقة صداقة قوية خلال عقد الستينيات، إلا أن ثمة شيء عكر ذلك فيما بعد.
فقد قرر العندليب عبدالحليم حافظ بدء تصوير فيلم “الخطايا” (إخراج حسن الإمام، 1962)، أحد أهم أفلام السينما المصرية، وكانت الفنانتان متحفزتين للقيام بالدور، وكانت كل واحدة منهما تتمنى الوقوف أمام عبدالحليم حافظ، ومن ثم وقع الاختيار على سعاد حسني، لتبدأ حرب صحفية شرسة على “العندليب والسندريلا”، وتم تداول شائعات كثيرة حول وجود علاقة بينهما.
أثارت هذه الشائعات حفيظة “حليم”، ليقرر بعدها مهاتفة جميع رؤساء التحرير من أجل نفي كل هذا، وهو ما أثار استياء السندريلا، التي قررت رد الصاع صاعين للعندليب، والتهرب منه ومن الدور.
بعد فترة قصيرة قرر “العندليب” أن تكون نادية لطفي هي البطلة التي أمامه، وعندما عرض عليها، ترددت بسبب علاقتها بسعاد حسني، التي سوف تخسرها إن قامت بالدور، ولكنها ضحت بكل شئ واختارت الوقوف أمامه.
كان الشاعر الكبير كامل الشناوي لخص شهامتها ورقتها، قائلًا “إنها نادية ولطفي”، فهي المرأة التي تحمل جمالًا وأنوثة طاغية، وهي أيضا صاحبة العديد من المواقف النبيلة.
أثناء حرب السويس والعدوان الثلاثي على مصر، عام 1956، قامت بدور الممرضة لإسعاف المرضى والمصابين في المستشفيات، ونقلت مقر إقامتها إلى مستشفى قصر العيني للمساهمة في المجهود الحربي.
تعد نادية لطفي، الفنانة المصرية الوحيدة التي اخترقت الحصار الإسرائيلي لبيروت عام 1981، وعاشت مع قوات المقاومة الفلسطينية في خنادقها طوال أيام الحصار الصعبة، وكادت تفقد حياتها عدة مرات برصاص القناصة الإسرائيلية، وسجلت ووثقت تلك الأحداث صوتا وصورة، وساهمت في رفع روح المقاتلين الفلسطينيين باعتراف قادتهم.

جاء قرار اعتزالها منذ 30 عاما تقريبا، ورغم اختيارها الاعتزال فإنها رفضت العزلة والاختفاء مثلما فعلت ممثلات أخريات، فقد كانت حتى وقت قريب، وقبل مرضها الأخير، من أكثر الفنانات نشاطا وحضورًا في المناسبات الاجتماعية المختلفة، كما أنها دائما ما تشارك برأيها حول الأوضاع السياسية.
ترى نادية لطفي أن قرار اعتزالها جاء في الوقت المناسب قبل أن يرفضها الجمهور، خاصة في ظل اختلاف نوعية الأفلام وطبيعة الموضوعات التي تناقشها بالإضافة إلى اعتماد الأعمال الفنية على نجوم شباب. وكان آخر أفلامها “الأب الشرعي” عام 1988، لتقرر التفرغ لنشاطاتها الخيرية والسياسية.