“همفري بوغارت”.. أعمال خالدة تزين مسيرة بطل الغرب الأمريكي

رغم أن بدأ ظهوره السينمائي رجلَ عصابات، فإن حقيقته كانت بعيدة تماما عن ذلك، فالممثل الراحل “همفري بوغارت” ولد في عائلة ثرية ومرموقة، وحاول والده لسنوات عدة إدراجه في أفضل المدارس، لكنه لم ينجح في الدراسة قط، فما كان منه إلا أن التحق بالبحرية الأمريكية أثناء الحرب العالمية الأولى.

وفي وقت لاحق ساعدته صديقة في العمل، فأصبح مديرا لأحد المسارح في برودواي، رغم أنه حينها لم يكن قد بلغ العشرين من عمره، ومن هناك كانت بدايته الفنية.

مُلتهم السجائر.. بطل الغرب الأمريكي والعصابات

خلال السنوات الأولى من عمله ممثلا مسرحيا بأدوار صغيرة، انهارت صناعة المسرح، إثر تدهور الأحوال الاقتصادية عقب الحرب، وفي الوقت ذاته كانت صناعة السينما في هوليود تنتعش بظهور الأفلام الناطقة، مما جعل الإقبال على السينما يتخطى المسرح بكثير، وجعل هوليود قبلته التي ارتحل إليها، حتى ولو لم يترك المسرح نهائيا.

قدم “بوغارت” عددا ليس بالقليل من الأفلام، منذ بدايته في هوليود عام 1930، وقد بدأ مسيرته بطلا ثانيا في أفلام الغرب الأمريكي والعصابات، أو أفلام الدرجة الثانية التي لم تترك علامة تُذكر في مسيرته السينمائية، وإن جعلته بالنهاية على ما أصبح عليه في الأفلام اللاحقة.

كان يدرك أن ملامحه العادية الخالية من الوسامة، وذلك الجرح القديم أعلى شفته، لن يجعلاه نجما على مقاييس هوليود، فكان يلتهم السجائر التهاما، ويعاقر الخمر طويلا، حتى امتلك نبرة صوة مميزة، وخلق لنفسه شخصية غامضة وفريدة لم ينافسه فيها أحد، تقف في منطقة رمادية ضبابية، حتى وإن بقيت عيناه تحملان نظرة من نوع “من اقترب ورأى”.

“الغابة المتحجرة” و”أعالي سييرا”.. أدوار مميزة

أدى “بوغارت” دورين مميزين في مرحلة البداية بقيا علامة بين أفلامه، أما الأول فهو دوره في فيلم “الغابة المتحجرة” (The Petrified Forest) عام 1936، بعد أن قدم ذات الدور على المسرح، ونال من الاستحسان ما حوّل المسرحية لفيلم، ثم حول لاحقا لحلقة تلفزيونية، والثاني دوره في فيلم “أعالي سييرا” (High Sierra) الذي أنتج عام 1941، وقد جسّد فيه شخصية “روي إيرل” السجين الذي خرج بعد عفو استثنائي، ليشارك في عملية سطو جديدة.

“روي” ليس مجرد لص وقاتل، إنه شخص عادي كان يظن أن حياته انتهت في السجن، فإذا بالفرصة تسنح له من جديد للعيش بحرية، للوقوع في الحب، وللتمرد على الوضع الكارثي الذي ستنتهي إليه عملية السطو.

قد لا يكون التشابه واردا بشدة بين شخصية “روي إيرل” وبين شخصية “دوبز” التي قدمها مع المخرج “جون هيوستن” عام 1948 في فيلم “كنز السييرا مادري” (The Treasure of the Sierra Madre)، لكن الدورين جسّدا براعة “بوغارت” في أداء شخصيات فريدة عصيّة على القولبة بين الخير أو الشر.

لم يكن “فريد دوبز” المتشرد الفقير في شوارع المكسيك شخصا شريرا بطبعه، لكنه شخص ضعيف استسلم للغواية، قد لا يحبه المشاهد، لكن يسهل تفهم دوافعه وتقبل شخصيته بعيوبها وأطماعها، فكل شخص بالنهاية معرض للغواية، وتحت الشمس الحارقة لصحراء المكسيك قد يُقدم المرء على أي شيء.

“الصقر المالطي”.. سواد وبياض في شخصية المحقق الخاص

لم يكن فيلم “أعالي سييرا” مجرد فيلم ناجح ومختلف عن عصابة ولص، بل كان بداية شراكة استثنائية بين “بوغارت” وكاتب الفيلم “جون هيوستن” الذي كان على مشارف البدء في إخراج أول أفلامه، وقد اختار “بوغارت” لبطولته.‏

الفيلم هو “الصقر المالطي” (The Maltese Falcon)، ويمكن اعتبار شخصية المحقق “سام سبايد” هي الأساس الذي بنيت عليه شخصية المحقق الخاص في عدد من أفلام النوار لتلك الفترة.

مجددا لم يكن “سام سبايد” محققا مثاليا على الصعيد الإنساني، لكنه ذو شخصية أخلاقية ويؤمن بالصواب والخطأ، حتى ولو لم يبدِ من الانفعالات العاطفية ما يكفي. لا يبدو على “سبايد” الحزن أو الغضب المناسبان للموقف حين يُقتل شريكه في العمل، لكنه في النهاية يثأر له بإخلاص تام.

“النوم الكبير”.. أيقونة الجاذبية والحرارة في كلاسيكيات “النوار”

أفلام النوار (أفلام الدراما والجريمة التي أنتجتها هوليود بين بداية الأربعينيات إلى نهاية الخمسينيات من القرن الماضي) التي قدمها “بوغارت” للسينما تتضمنها أي قائمة لأفضل أفلام النوار منذ بدايتها.

ومنها شخصية “فيليب مارلو” المحقق الخاص مرة أخرى في فيلم “النوم الكبير” (The Big Sleep) عام 1946، حيث الحكاية المتشعبة والعلاقات المرتبكة بين عدد من شخصيات الفيلم.

كانت الحبكة عصية على المتابعة إلا بتركيز شديد، لكن عيني “بوغارت” كانتا تحملان -على عكس صوته- اهتماما وعمقا وغموضا، بالإضافة للجاذبية والحرارة التي تشعها مشاهده مع “لورين باكال” زوجته صغيرة السن التي صنعت معه ثنائيا سينمائيا مميزا، وبفضل هذين العاملين فقد أصبح الفيلم يحتل مرتبة بين أفلام النوار.

وقد عاود الثنائي التمثيل معا بعدها عدة مرات، كان أهمها فيلم “كي لارغو” (Key Largo) الذي أخرجه “جون هيوستن” عام 1948.

“في مكان منعزل”.. كاتب عصبي ساخر في فيلم لم يعط حقه

كان أهم أفلام النوار التي قدمها “بوغارت”، فيلم “في مكان منعزل” (In a Lonely Place) الذي أنتجه بنفسه عام 1950 مع المخرج “نيكولاس راي”، رغم أنه لم يحظ بذات الشهرة التي نالها بشخصية المحقق أو رجل العصابات. كان يمثل كاتب السيناريو العصبي الساخر الواقف على حافة الغضب، العنيف جسديا في بعض الأوقات، والمشتبه به في جريمة قتل.

أجواء الفيلم مثيرة للتوتر بين الشد والجذب بين شخصياته، دون ثقة أو يقين في حقيقة الأمر، لكنه لا يدور فقط حول جريمة القتل، بل أكثر ما يميزه هو محاولة سبر أغوار شخصية “ديكسون ستيل” المجبر على كتابة سيناريو لرواية لا يحبها، والحانق على صناعة السينما التي يعمل بها، ومعاقر الخمر العنيد.

وحين يقع “ديكسون ستيل” في الحب تصطدم طبيعته الساخطة المنفرة مع تلك العاطفة الجديدة، فتخلق أحداثا وشكوكا لا تنتهي، وتجعل الفيلم كلاسيكيا سينمائيا ذا طابع خاص.

“الدار البيضاء”.. قصة حب حميمية أثناء الحرب العالمية

لم يكن دوره في فيلم “في مكان منعزل” أول دور يقدم فيه “بوغارت” شخصية العاشق الساخر الذي يخفي طبيعته العاطفية خلف الغضب والسخط، بل إن شهرته الحقيقية حققها في فيلم “الدار البيضاء” (Casablanca) من شخصية “ريك بلاين” مالك الملهى الليلي في مدينة الدار البيضاء.

لم يكن أحد يتوقع للفيلم أن يكون مميزا بشكل خاص، فعملية إنتاجه بدأت مرتبكة، ولم يكن السيناريو جاهزا حين اختير أبطاله، لكن ما بدأ فيلما رومانسيا تقليديا تتخلله حبكة عن الحرب، انتهى بأن صار واحدا من كلاسيكيات السينما.

قصة الحب القديمة التي تظهر للمشاهد فجأة بين بطليه “بوغارت” و”إنغريد بيرغمان”، وتلك الحميمية المتوترة ترافقها رائحة الحرب والتضحية، مع ذات البصمة الساخرة الحزينة التي تصبغ شخصية “بوغارت” والتي أجادها حد الإتقان، فأصبحت جمله الحوارية بالفيلم من أكثر الجمل اقتباسا بين أفلام عدة.

“الملكة الأفريقية”.. دور مركب يحصد الأوسكار الوحيد

كان “بوغارت” يؤكد المرة تلو الأخرى أنه لا يستصعب دورا، وكان يخوض تجارب الإنتاج عبر شركته الصغيرة بنفس روح المغامرة والتجريب التي كان يخوضها في أدواره السينمائي، فجسّد أمام “كاثرين هيبورن” دور صاحب المركب المغامر السكّير “تشارلي أولنت” في فيلم “الملكة الأفريقية” (The African Queen).

وقد حصل في هذا الفيلم على الأوسكار الوحيدة بحياته، كان الدور كوميديا خفيفا، حتى أن علاقة بطليه كانت مليئة بالمفارقات والتطورات الدرامية.

وفي حين غلبت على هذا الفيلم المغامرة، ففيلم “صابرينا” (Sabrina) كان رومانسيا كوميديا مُخلصا لبساطة الحكاية وعلاقات أبطاله العذبة.

قوالب الكوميديا والدراما الكلاسيكية.. أعمال خالدة

هذه المرحلة من تجسيد الشخصيات الرومانسية لم ينغمس فيها بوغارت” بما يمنعه من تقديم أدوار جادة كما في أفلام “تمرد كين” (The Caine Mutiny)، حيث قبطان السفينة الحربية المصاب بجنون الارتياب، ويواجه تمردا بين صفوف بحارته.

ثم فيلم “ساعات اليأس” (The Desperate Hours)، حيث المجرم الهارب الذي يروّع بصحبة مجموعة من الهاربين معه عائلةً بأكملها حين يحل ضيفا ثقيلا على منزلهم.

بين أدواره المختلفة بزغ نجم “بوغارت” سنوات عدة، لكنه رحل مبكرا بعد إصابته بالسرطان، تاركا أعمالا خالدة بين الكلاسيكية والكوميديا والدراما، ومنافسا لأبرع ممثلي السينما منذ بدايتها وحتى اليوم وغدا، وربما لسنوات طويلة قادمة.


إعلان