سيد حجاب.. صانع الأرابيسك

"ليالي الحلمية"، " المال والبنون".. مقدمات غنائية (تِترات) خلدتها كلمات "سيد حجاب"

ياسر ثابت

عندما تختار ليلةً من الجنون كي تموت، سأنصحك: خبِّئ غيابك ليومٍ آخر

وهو اختار التاريخ بعنايةٍ فائقة: 25 يناير

مات صياد الشجن ووجه السماء ملبدٌ وكذا واجهات المحال وعناوين الصحف. طقس لا يرسم سوى الغيوم الهاربة، وأخبار لا تقود سوى إلى الوجوم

سيد حجاب (23 سبتمبر 1940 – 25 يناير 2017) قطعة بديعة ومؤلمة من أرض مصر وتاريخها المعاصر، تسبح الآن في فضاء وفراديس مأهولةٍ بالأمل، مثل وديعةٍ تُردُ إلى أصلها

لم يكن ممن يركضون في أماكنهم ويدورون في حلقات مفرغة، ثم يتساءلون: لم لا نصل؟!

شاعرٌ خفيضُ الصوت، كما لو أنه يهمس للقصيدة، لم ينفض يديه من الوطن، ولم تُربِّت عليه يومـًا يدُ الوهم الكبير

تعلّم سحر النَّاي في مدينتِه، وبصبر وأناة، علَّمَ الحروف كيفَ تقُودُ المعَاني

صاحَبَ الرِّيحَ، حتى كسرتْ مصباحه ذات ليلٍ مُعتم

رفض أن يسلبه الزمن نعمة الدهشة ومنحة الخيال. من يستسلم للعمر يفقد دهشته، وبالتالي يخسر أهم أدوات الإبداع

صانع أرابيسك العامية، ولسان الصيادين والمهمشين، الذي لا يمكنك تعريفه إلا باسمه، ولا تستطيع وصفه إلا بذاته..

وحين تشرق الذات، تضيء الصفات

"سيد حجاب" بريشة معجبيه

في مدينة المطرية بمحافظة الدقهلية بدلتا مصر، كان الأب هو المعلم الأول له في الشعر، إذ كان يشاهده في جلسات المصطبة الشعرية حول الموقد في ليالي الشتاء الباردة وهو يلقي الشعر على الصيادين في مباراة يلقي فيها كل صياد ما عنده

وكان لدى سيد حجاب ما يقوله أيضـًا!

 ظل يدوِّن كل ما يردده الصيادون في تلك الأمسيات ويحاول محاكاتهم وأخفى عن والده الأمر حتى كبرت الشجرة وتدلت منها ثمارها

أطلع والده على أول قصيدة كتبها عن شهيد باسم “نبيل منصور” فشجعه الأب على المضي قدمـًا في هذا الاتجاه.

في المدرسة، وجد ضالته في المعلم الثاني “شحاتة سليم نصر”، مدرس الرسم والمشرف على النشاط الرياضي، الذي علَّمه كيف يكتب عن مشاعر الناس

كان لنشأة سيد حجاب في المطرية، وهي مدينة صيادين صغيرة على ضفاف بحيرة المنزلة ـ تأثيرٌ كبير في شعره، وبدا ذلك واضحـًا منذ ديوانه الأول “صياد وجنيّة”. كان من أصدقائه الفنان التشكيلي عبدا لمنعم السحراوي، شريكه في تجارب إبداعية على الطريق إلى النضج، منها عملٌ لمدينة المطرية بمحافظة الدقهلية تحت عنوان “بلدنا بحيرة ومدنة” أشعار سيد حجاب ورسومات عبدالمنعم السحراوي

في إحدى ندوات القاهرة، التقى حجاب مع الشاعر عبد الرحمن الأبنودى، ونشأت بينهما صداقة بعد هذا اللقاء، ثم تعرف إلى أستاذه الثالث صلاح جاهين، الذي تنبأ له بأنه سيكون صوتـًا مؤثرًا في الحركة الشعرية

في منتصف ستينيات القرن العشرين، ألقى حجرًا في بئر راكدة، فصنع دواماتٍ من دهشة

فقد احتفى المثقفون بأول ديوان له “صياد وجنيّة”، وبعده انتقل إلى الناس عبر الأثير من خلال مجموعة البرامج الإذاعية الشعرية “بعد التحية والسلام” و”عمار يا مصر” و”أوركسترا”، وكان الأبنودي يقدم معه البرنامج الأول بالتناوب، كل منهما يقدمه 15 يومـًا. وبعد فترة انفصلا وبدأ كل منهما يقدم برنامجـًا منفصلًا

كما شارك سيد حجاب في الندوات والأمسيات الشعرية والأعمال التليفزيونية والسينمائية في محاولة للوصول للجمهور، وقدمه صلاح جاهين لكرم مطاوع ليكتب له مسرحية “حدث في أكتوبر”، التي بدت مثل رغيفٍ ساخن له طزاجته المغرية 

دخل سيد حجاب مجال الأغنية بلغةٍ مختلفة ومفردات خرجت للتو من بحيرة موغلة في مصريتها الثرية

هكذا غنى له كل من عفاف راضي وعبد المنعم مدبولي وصفاء أبو السعود، ثم كتب أغاني لفريق “الأصدقاء” الغنائي الذي رعاه الموسيقار عمار الشريعي، ثم أتبعه بألبومين هما “أطفال أطفال” و”سوسة”.

الشاعر الراحل كان واحداً من المبدعين على المستوى الشعري الوطني، حيث كانت القضية الوطنية، والقضايا الاجتماعية والإنسانية حاضرة فى كل أشعاره

بعدها لحن له بليغ حمدي أغنيات لعلي الحجار وسميرة سعيد وعفاف راضي، وقدم معه الحجار “تجيش نعيش” وكتب لمحمد منير في بداياته أغنية “آه يا بلاد يا غريبة” في أول ألبوم له، ثم أربع أغنيات في ألبومه الثاني، ثم كتب أشعار العديد من الفوازير لشريهان وغيرها بجانب العديد من تترات المسلسلات التي عُرِض بعضها في رمضان.

شارك حجاب في إصدار مجلة “جاليري 68” ونشر بها بعض الدراسات والأشعار

على درب الإبداع، ترك أثر خطاه الواثقة

رفض الظل الرخو، وامتنع عن خبز الفناء وماء الذل العطن

افترش أرض القصيدة، فلما حاد عن الطريق.. وجد البريق

سلك كل الدروب، يحمل في راحتيه حبة قمح، وفي روحه بيادر

سار  فوق أرض القصيدة المليئة بشظايا الزجاج

مضى، مُخَلِّفـًا وراءَهُ أَقْنِعَةً إنِسانيَّةً لشعراء “كبار” نالوا الحظوة، وآخرين بوهيميين سرقوا الأوسمة وخبأوا تبغهم المغشوش ودخان حشيشهم في جيب الوطن

سرى في دمنا مع أشعاره في “الأيام”، “الوسية”، “الشهد والدموع”، “المال والبنون”، “حدائق الشيطان”، “ناصر”، “غوايش”، “أحلام لا تنام”، “الأصدقاء”، و”الأراجوز”

في “ليالي الحلمية”، دس تحت وسادة تتر البداية كلمات تحمل توقيعه:

«ما تسرسبيش يا سنيننا من بين إيدينا/ ولا تنتهيش ده احنا يا دوب ابتدينا/ واللي له أول بكرة حيبان له آخر/ وبكرة تُفرج مهما ضاقت علينا”

 

 

وفي “أرابيسك”، تلاعب بالكلمات حتى أسكرنا المذاق:

“وينفلت من بين إيدينا الزمان

كأنه سَحبة قوس في أوتار كمان

وتنفرط الأيام.. عود كهرمان

يتفرفط النور.. والحنان.. والأمان”

 

 

وفي “بوابة الحلواني” نهض بوطنٍ كامل على ظهره مثل سيزيف:

“بندق ندق بوابة الحياة بالإيدين قومي

قومي، افتحي لولادك الطيبين قومي

اللي بني مصر كان في الأصل حلواني

وعشان كده مصر يا ولاد حلوة الحلوات

وادي وبوادي وبحور وجسور ومواني

توحيد وفكر وصلاة تراتيل غنا وابتهالات

وكل دا في مصر ياولاد

مصر يا ولاد حلوة الحلوات”

 

 

اختزن في قلبه لغة الكفور والنجوع من مشارف بحري حتى أقاصي الصعيد، فجاء شعره مصريـًا صميمـًا صادقـًا في كل لهجةٍ أبدع بها دون افتعال أو ادعاء 

كتب ديباجة دستورٍ، تنكّر له اللئام، وهو الذي وضع قبل ذلك دستورًا آخر في قصيدته “السلم والكرسي”، التي قال فيها

“في القانون الانتهازي

للوصول البرجوازي

مادة أولى: بيع ضميرك

ودن طين وعين إزازي

مادة ثانية: اربط مصيرك

باللي فوق برباط فولاذي

مادة ثالثة: دوس في سيرك

ع اللي تحتيك وابقى نازي

والمهم أوزن ووازي

فين تِنِخ وفين ترازي

تئذي مين ومين تجازي

وإمتى تبقى ذليل مسالم

وهس ياد … يا بت هسي 

ده كل سلم آخره كرسي”

في أيامه الأخيرة، كان حكيم المدينة يسير بمشقة، وهو يعض على طرف لسانه، كتلميذ يواجه صعوبة في حل امتحان حاسم

تهاوى الجسد المُتَرَهِّلُ المُتَواري خَلفَ الملابس الفضفاضة، لكن ظِلّه بقي دومـًا أكبر من جسده

الماضي حصالة السنين والزفرات التي تحصينا أكثر مما نطيق

كلماته الأخيرة؟

ربما كانت لشاعر صغير السن، اقترب منه، حتى همس له وهو يُحتضر: لا تصعد هذا السلم المتعرج. في أعلاه جدار لا يفضي إلا إلى العدم، أما الباب المرسوم فهو على سبيل الخديعة

بموتِه تكتمل أسطورته، ذلك الذي يعيش مرفوع الهامة، وفيـًا لأفكاره الخلاقة ورؤاه المبدعة

في الليل المليء بالخناجر والأعداء، لا يبقى سوى المنديل الفقير في أيدٍ مرتعشة لمودعين

الظلال حُرّة، حتى أنها حين ترحل لا يرثيها أحد.


إعلان