توم فورد: المخرج الظاهرة
رامي عبد الرازق
“أنا لا أحب كلمة مورال أو هدف درامي، بالنسبة لي فإن الهدف الدرامي من وراء الحكاية هو أن تفكر في الحكاية نفسها، إن الأفلام من الممكن ان تكون مسلية، ولكن إذا خرجت من باب السينما دون أن يبقى معك شيء من الفيلم، دون أن يطاردك هذا الفيلم، أو دون أن يتحداك الفيلم، فهذا هو الفشل بعينه في رأيي ،إن كل ما أتمناه هو صناعة أفلام تدفع المشاهد إلى التفكير“
يقدم خبير الموضة والمخرج الأمريكي توم فورد -(55 عاما) من مواليد هيوستن تكساس- في هذه الكلمات القليلة خلال مقابلة أجراها بمهرجان فينيسيا عقب عرض فيلمه (حيوانات ليلية) طاقة للمتفرج كي ينفذ منها إلى الأرضية المشتركة التي يمكن أن يقف عليها مع أفلام هذا المخرج الظاهرة.

لم ينجز فورد سوى فيلمين فقط في مشواره السينمائي القصير والزخم جدا (رجل عازب 2009 وحيوانات ليلية 2016) وذلك بعد سنوات من البريق الخاطف للأنفاس في مجال الموضة والأزياء تحول فيه اسمه إلى ماركة مسجلة على واجهة 100 متجر من كبريات متاجر الأزياء في أنحاء العالم.
” لقد تلقيت القليل من التدريب قبل أن أخوض في مجال الموضة ولكنني لم أتلق أي تدريب من أي نوع فيما يخص صناعة الأفلام، لقد أقدمت على الكتابة والإخراج دون دراية سابقة، فقط محملا بالرغبة والتحدي الذي أريده أن ينتقل للمتفرج عند مشاهدة أفلامي“
في مارس عام 2005 أعلن خبير الموضة الشهير إطلاق شركة الإنتاج السينمائي الخاصة به والتي حملت اسم”FADE TO BALCK” أي إظلام تدريجي وهو اسم واحد من أشهر مصطلحات المونتاج/التوليف السينمائي، ويعتبر واحدا من عدة تكنيكات مونتاجية في فن الفيلم وله العديد من الاستخدامات والدلالات الفنية والدرامية.
عقب هذا التاريخ بأربع سنوات قدم توم فورد فيلمه الأول (رجل عازب) عام 2009 من بطولة كولن فيرث وجوليان مور عن رواية الكاتب الأمريكي الإنجليزي “كريستوفر إيشرود” (1904-1986) التي نشرت بنفس الاسم عام 1964 وذلك باقتباس سينمائي كتب له السيناريو فورد بمعاونة كاتب السيناريو الكندي ديفيد سكارس.
ولسبع سنوات كاملة لم يقدم توم فورد أي أعمال سينمائية بل إنه بدا متفرغا لصناعة الموضة وعمله كواحد من أبرز أسمائها الماسية في هذا المجال، إلى أن صدرت رواية الكاتب الأمريكي أوستن رايت التي حملت عنوان (توني وسوزان) فقرر فورد أن يقتبسها للسينما من خلال سيناريو وإخراج ومشاركة إنتاجية ليتشكل سريعا مشروع “حيوانات ليلية” من بطولة جاك جلينهام وإيمي آدمز ومايكل شانون وعُرض الفيلم في عرضه العالمي الأول بمهرجان البندقية في دورته الـ73.

استطاع فورد أن يضمن دوما لممثليه وأفلامه جوائز وترشيحات دولية ذات اعتبار واضح وحيثية تعكس مدى تأثيره وسطوته الإبداعية على نفوس لجان التحكيم والمتلقين على حد سواء، ثمة تلك الروح الكامنة في أفلامه التي تحمل قدرا من التحدي والاستفزاز النفسي والشعوري والفكري.
استطاع فورد أن يجلب للإنجليزي المخضرم كولن فيرث ترشيحا لأوسكار أفضل ممثل دور أول عام 2010 عن دور البروفيسور المثلي في رجل عازب، والذي حاز البافتا عن نفس الدور قبلها بوقت قصير، في حين يترشح هذا العام مايكل شانون عن دور المحقق الذي يعاني من السرطان لأوسكار أفضل ممثل مساعد في حيوانات ليلية بينما يفوز الممثل الشاب آرون تيلور بالجولدن جلوب كأفضل ممثل مساعد عن دور واحد من المغتصبين الثلاثة في الفيلم.
أما فورد فقد ضمن لنفسه جائزة لجنة التحكيم الخاصة في مهرجان البندقية الأخير، وحملت سلة ترشيحات حيوانات ليلية الممتلئة – وصلت إلى تسعة ترشيحات في جوائز البافتا الأخيرة- فئات أفضل مخرج وأفضل كاتب سيناريو وأفضل ممثل وممثل مساعد ومكياج وموسيقى ومونتاج وتصوير.

وتعتبر سلة ترشيحات حيوانات ليلية هي ملحق جديد في سلسلة ترشيحات فورد لجوائز الأوسكار والجولدن جلوب والبافتا وجوائز النقاد الأمريكيين عن فيلمه الأول رجل عازب قبل سبع سنوات حيث شرع في حصد الترشحيات في الجولدن جلوب عن فئات أفضل ممثل لكولن فيرث وممثلة مساعدة لجوليان مور وموسيقى للموسيقار البولندي الشاب قابيل كروزينويسكي وهو نفس الموسيقى الذي حاز له فورد ترشيحا للبافتا هذا العام عن موسيقى حيوانات ليلية.
إن فيلمي توم فورد لا يعكسان مجرد مغامرات فيلمية عابرة لخبير موضة استهواه الإخراج السينمائي ووجد لديه فائضا من المال ومتسعا من الوقت وشهرة لا بأس بها وصلت به إلى أن يصبح أحد مصممي أزياء السيدة الأولى السابقة ميشيل أوباما، ولكنه سينيفيلي حقيقي صاحب أسئلة خاصة يمكن- رغم ما يكسو أفلامه من فضة الغموض اللامعة- أن نستخلص بعضها لكي نبحث خارج الشاشة عن إجابات محتملة وغير يقينية لها لكنها قد تكون ممكنة.

هل يمكن إسالة الزمن؟
لدى فورد دوما تلك المساحة من التفتيت الزمني الذي يختلط في مزيج مثير مع مستويات من الوعي والواقع والحلم، هذا المزيج يحقق له تلك المعادلة البصرية التي تمكنه بسهولة من إسالة الزمن الدرامي وتحويله إلى قطرات يصبها ببطء ودون تعجل في وجدان المتلقي فيشعل في داخله تلك الحماسة المقلقة لمتابعة التفاصيل حتى ولو بدت الحكاية أكثر تعقيدا أو غموضا مما يظن.
في رجل عازب يبدأ الفيلم بمشهد حلم يرى فيه البروفيسور المثلي نفسه يقف فوق جثة رفيقه الذي لقلى حتفه في حادث سيارة، يميل عليه ثم يقبله في هدوء وينام إلى جانبه وكأنها نبوءة أو رغبة شديدة تطفو في داخله للحاق برفيقه في العالم الآخر حيث سبقه إلى هناك.
هذا المستوى من الوعي الذي يتاخم الحلم أو اللحظة المتخيلة في زمنها الخاص – والذي يتكرر مرة أخرى خلال اليوم الواحد الذي تدور فيه أحداث الفيلم- يتداخل بسلاسة مع تقطاعات من الماضي يستدعي فيها البروفيسور الحزين ملامح مكثفة من علاقته برفيقه منذ لقائهما الأول مرورا بتطور علاقتهما وتشعبها الشعوري والغريزي الملح والقابض على وجدان هذا الرجل- تجدر الإشارة إلى أن فورد نفسه يعيش في علاقة مثلية منذ أن كان شابا في الخامسة والعشرين من العمر مع أحد أشهر محرري الموضة وقد تزوجا عام 2013 عندما أقرت أمريكا الزواج من نفس الجنس.

ربما تحمل العلاقة ما بين البروفيسور الناضج المولع بالرجال وضابط البحرية الوسيم – في رجل عازب- ملامح من علاقة فورد بعشيقه الذي كان يكبره ب 13 عاما عندما التقيا عام 86 ولكن الفيلم ينجح في إزاحة تلك العلاقة بعيدا عن التصنيف كواحد من أفلام مجتمع المثليين، وذلك عبر تلك الحالة من إسالة الزمن التي تجعل من اليوم الأخير في حياة هذا الرجل الوحيد – يمكن ترجمة كلمة single على اعتبارها صفة اجتماعية تعني “عازب” أو صفة شخصية تخص وحدة هذا الرجل- هو عينة زمنية تجعل المتلقي يتوقف لوهلة أمام حياته لكي يفكر في طبيعة الخيارات الحياتية التي اتخذها وبالتالي يتحول الفيلم من مجرد مادة جاذبة للمتابعة إلى مادة محفزة للذاكرة كي تراجع خياراتها التي تبدو قدرية جدا في حين أنها جزء من غريزتنا الخاصة في مقاومة الخوف والوحدة والشعور بالفراغ. لا ننسى أن الفيلم يدورعام 1964 على خلفية الرعب النووي وأزمة نشر الصواريخ السوفيتية في كوبا التي كانت تهدد العالم بحرب فناء شاسعة التأثير بين أمريكا وروسيا.
وبنفس منطق إسالة الزمن وخلطه بمستويات من الواقع والوعي يضع فورد عالم فيلمه حيوانات ليلية في منطق زمني متداخل يشبه بيت المرايا فكل حدث في زمن ما يبدو انعكاسا لحدث آخر في زمن آخر لكننا نراهما متقابلين ومتداخلين بشكل يكاد يكون أقرب لمشهد واحد طويل مقسم لعدة لقطات كل لقطة من زمن لكنها تعكس نفس الروح والمشاعر.

في حيوانات ليلية لدينا درجة الوعي الزمني الواقعية التي تخص ليالي من حياة سوزان/إيمي آدمز وهي ليالي الاستيقاظ الطويلة التي جعلت من زوجها السابق إدوارد يطلق عليها أنها أحد الحيوانات الليلية، ولدينا درجة الوعي الزمني المتخيلة الخاصة بالرواية التي كتبها إدوارد والتي تقرأها سوزان وهي الرواية التي تدور حول رحلة أسرة جاك الذي هو نفسه إدوارد وسوزان وابنتهما المراهقة حيث يتعرضون لجريمة اختطاف واغتصاب وقتل على يد ثلاثة من الشباب ثم شعور الزوج بالقهر ورغبته في الانتقام عبر التعاون مع محقق الشرطة الذي يتولى القضية والمصاب بنفس الوقت بالسرطان ما يجعله خارج دائرة المساءلة أو تلقي العقاب.
أما درجة الوعي الزمني الثالثة فهي مساحة من الفلاش باك المتداخل مع المستويين الزمنيين السابقين تراجع فيه سوزان علاقتها بإدوارد وقت تعارفهما الأول وزواجهما وحتى انفصالها عنه بشكل مؤلم وإصابتها له في مقتل باتهامها له أنه أديب فاشل.

إن مستويات الزمن الثلاثة في حيوانات ليلية تكاد توزاي وتساوي مستويات الزمن الثلاثة في رجل عازب وهي مستويات سائلة متداخلة يلعب القطع الحاد والقافز مونتاجيا دورا حيويا في تكوينها على المستوى التقني لكنها ليست لعبة تقنية هدفها الاستفزاز أو نبش الخامل ذهنيا في عقل المتفرج إنما هي روح سرد مغايرة تتسق بشدة مع الحالة الملحة التي تظهر دوما في أفلام فورد وهي سؤال الغريزة- سواء كانت تلك الغريزة هي الجنس أو الخوف- والذي يمكن تلخيصه في استفهام من نوعية (هل تلعب الغريزة بشكلها القدري والمسلط علينا دورا في اختياراتنا أم إننا أحرار فيما نقدم عليه من قرارات حتى ولو قادنا في النهاية إلى هلاك جسدي – كما في رجل عازب- أو روحي كما في حيوانات ليلية ؟)
إن إسالة توم فورد للزمن في أفلامه وتحويله إلى كتلة واحدة ممتدة من المشهد الأول للأخير ووجود درجات من الوعي يتداخل فيها الحلم بالواقع والمتخيل بالحقيقي هي وسيلته لوضع المتلقي في حالة شك دائم وتدقيق وإعادة نظر في مجمل علاقته بالحياة التي تسيطر عليها الغرائز بشكل فاضح تماما كما تفعل شخصياته التي تجد نفسها في دوامة زمنية لانهائية من التداخلات بين درجات الوعي، ولكن في الوقت الذي لا تصل فيه الشخصيات سوى إلى نهايات مغلقة كموت البروفيسور أو مواربة كانتظار الحبيب السابق يستمر المتلقي في الشعور بالشك والرغبة في إنجاز رحلة مماثلة عبر أزمنته الخاصه وذاكرته التي يحفزها سؤال الغريزة المستفز.