ساتوشي كون: الإرباك الممتع
رضا حريري
“أنا أتحسر على فقداننا موهبتك، أتمنى لو كان باستطاعتك تركها لنا”.
– مؤسس استوديو “مادهاوس” ماساو ماروياما، من رسالة “الوداع” لساتوشي كون.
بدأت القصة في إحدى المدارس الثانوية في جزيرة هوكايدو في اليابان. حين قرر المراهق ساتوشي كون المولود في العام 1963 أنّ يصير مخرج رسوم متحركة (أنيمي) تحت تأثير مشاهدة مسلسلات كـ”سفينة الفضاء ياماتو”، و”كونان: صبي المستقبل” (المعروف بالعربية باسم “عدنان ولينا)، و”هايدي، فتاة الألب”. فور تخرّجه من الثانوية دخل جامعة “موساشينو للفن” لدراسة التصميم الغرافيكي في العام 1982، وخلال دراسته هناك بدأ بنشر رسومه في المجلات، وشارك في عددٍ من مسابقات المانغا وحاز على عدّة جوائز. في الفترة نفسها شاهد أفلاماً أجنبية عديدة وتأثّر بأفلام مخرج الخيال العلمي البريطاني تيري غيليام.

تخرّج ساتوشي كون من الجامعة في العام 1987، وبدأ حياته المهنية بالعمل ككاتب ورسام ومصمم في أفلام ومسلسلات أنيمي مختلفة. لكنّ الفرصة الحقيقية الأولى لم تسنح له قبل العام 1995: كتابة سيناريو “الوردة المعدنية”، فيلم قصير يشكّل مع فيلمين قصيرين آخرين ثلاثية خيال علمي بعنوان “ذكريات”. في القصة التي كتبها كون يصل أربعة رواد فضاء إلى سفينة فضائية مهجورة بعد أن أتتهم منها إشارة استغاثة. عند دخولهم يجد الأربعة غرفاً مصمّمة بفخامة ومجهّزة بأثاث يعود لحقبات قديمة، لكن دون أيّ إشارة لوجود حياة فيها. قبل أن يكتشفوا أنّ السفينة تعود لمغنية أوبرا مشهورة اسمها إيفا فريدل اختفت بشكلٍ غامض بعد وفاة خطيبها. بعد ذلك تقع عدد من الحوادث الغريبة، أهمها الظهور المتكرّر لإيفا التي تحاول العبث بذكريات ووعي أحد الرواد لحجزه في سفينتها.
تنمحي الحدود بين الذكريات والواقع والخيال في هذا الفيلم، وتظهر لأوّل مرة الأفكار والأسئلة التي ستحتل الحيّز الأكبر في أعمال كون اللاحقة: أي حياة نعيش؟ تلك اليومية التي نراها بأعيننا أم الكامنة في عقولنا؟ هل من حواجز بينها؟ وكيف يؤثّر اختلاطها على حياتنا وعلى نظرتنا إلى أنفسنا؟
وفي العام 1997 ابتدأ ساتوشي كون رحلته كمخرج في استوديو “مادهاوس”، الذي سينتج له كلّ أفلامه، مع فيلم “برفكت بلو” (1997)، ثم “ممثّلة الألفية” (2001)، و”عرّابو طوكيو” (2003)، و”بابريكا” (2006)، إضافة إلى سلسلة قصيرة من ثلاث عشرة حلقة بعنوان “عميل البارانويا” (2004).

في “برفكت بلو” نتتبّع انتقال الشابة ميما من عالم موسيقى البوب إلى عالم التمثيل، هذا الانتقال يتبعه تحوّل في شخصية الشابة من البراءة والعفوية والطفولة إلى النضج وعالم الكبار المليء بالمساومات والأخطاء. أما في “ممثّلة الألفيّة” يذهب المخرج والمنتج جينيا تاشيبانا للقاء الممثلة اليابانية الشهيرة شيوكو فوجيوارا، لندخل في رحلةٍ بين الأزمنة منذ أن بدأت عملها في مجال التمثيل أيام المراهقة مروراً بمراحل حياتها كلّها والأفلام التي مثّلت فيها. في “عرّابو طوكيو” نتعرّف على ثلاثة مشرّدين حين يجدون في ليلة عيد الميلاد طفلاً مُلقىً في مستودع للنفايات، وفي مسار البحث عن عائلته نتعرّف على هذه الشخصيات الثلاث. بينما يبدأ “بابريكا” بسرقة آلة اسمها “دي.سي. ميني” تسمح للمعالجين النفسيين بمشاهدة أحلام مرضاهم، لنتتبع رحلة ثلاثة معالجين في سعيهم للقبض على السارق.
تداخل العوالم والأزمنة
بقدر ما تختلف أفلام ساتوشي كون عن بعضها البعض بقدر ما تبدو متشابهة. إذ على الرغم من اختلاف الأطر الزمانية للأحداث وكذلك اختلاف الشخصيات ومشاكلها، إلّا أنّها أفلام نفسية بالدرجة الأولى تبدو أشبه برحلات تتنقّل شخصياتها بين عالمين مختلفين، عالمين يتغيّران بتغيّر الفيلم. طوّر ساتوشي كون فكرة الفيلم داخل الفيلم المستعملة في السينما، ونقلها إلى مستويات أعلى وأشدّ تعقيداً فمن ثنائية الوعي واللاوعي في “برفكت بلو” إلى ثنائية الماضي والحاضر في “ممثلة الألفية”، وصولاً إلى ثنائية الحلم واليقظة في “بابريكا”.

يربك تداخل هذه العوالم شخصيات كون، كما مشاهديه، ويصير التمييز بين ما يجري فعلاً في الواقع وبين ما يجري في العالم الثاني صعباً جدّاً، وتتشارك الشخصية كما المشاهد هذا الإحساس. يتيه رجل التحرّي في “بابريكا” بين ما يجري في أحلامه وبين ما يجري في حياته اليومية، فيما تصاب المغنية ميما بالفصام في “برفكت بلو”، أما المصوّر المرافق للمنتج تاشيبانا في “ممثلة الألفية” فيبقى غير قادرٍ على فهم كيفية انتقاله هو ومديره إلى قلب الأفلام التي كانت تمثّلها فوجيوارا كلّما بدأت الأخيرة بالحديث عنها.
في مقابلة أجريت معه بعد صدور “برفكت بلو” يشير كون إلى رغبته بخلق حالة الإرباك هذه لدى المشاهدين لجعلهم يفكّرون أكثر ممّا يسمح لكل واحد فيهم بخلق خلاصته الشخصية مستعيناً بمخيلته الخاصة.
تنعكس حالة الإرباك والتوتر والخوف بصرياً من خلال المشاهد الكثيرة التي نرى فيها الشخصيات وهي تركض. تتنوّع أسباب الركض هنا، بين الهرب من الخطر (هرب ميما من المهووس الذي يحاول قتلها) وبين البحث (ركض المتشردين الثلاثة بحثاً عن الرضيع بعد خطفه منهم) أو محاولة اللحاق بأحد لغرضٍ ما (الركض المتواصل لشيوكو فوجيوارا بين الأزمنة بحثاً عن شاب الذي التقته في مراهقتها).

النساء كشخصيات رئيسية
اختار ساتوشي كون النساء دائماً كبطلاتٍ لأفلامه، من المغنية ميما (“برفكت بلو”) والممثلة شيوكو فوجيوارا (“ممثلة الألفية”) إلى المتشردة ميوكي (“عرّابو طوكيو”) والطبيبة النفسية بابريكا/ شيبا أتسوكو (“بابريكا”) مروراً بتسوكيكو ساجي (“عميل البارانويا”). وإن كان من الممكن ملاحظة حضورٍ أكبر للشخصيات الذكورية مع تتالي الأفلام إلّا أنّ البطولة ظلّت للنساء. يُرجع المخرج في مقابلة أجريت معه في العام 2002، بعد صدور فيلمه الثاني “ممثلة الألفية” ميله للشخصيات النسائية إلى كون كتابتها أسهل من شخصيات الرجال. يقول: “مع شخصية الذكر لا يمكنني أن أرى سوى الجوانب السيئة. لأنّني رجل فأنا أعرف جيّداً كيف يمكن لشخصية ذكر أن تفكّر. حتّى ولو كان من المفترض أن يكون رائعاً جدّاً، فأنا يمكنني أن أرى الجانب السيء منه. هذا ما يجعل خلق شخصية ذكر أمراً صعباً جدّاً. من جهة أخرى إذا كتبت شخصية أنثى فإنّني أستطيع أن أسقط أفكاري عليها وتوسيع النواحي التي أريد وصفها، ذلك لأنّهم جنس معاكس ولا أعرفهم بقدر ما أعرف الذكور”.
يظهر ذلك بوضوح في الأفلام، ففيما يرسم لنسائه صورة مثالية تحظى بتعاطف المشاهدين رغم أخطائهن، فإنّه يرسم رجاله بصورة بشريّة يُبرز فيها جانبيها السيء والجيد، مع إظهار دائمٍ لأخطائهم وصفاتهم السيئة، هذا هو حال المتشرد جين في “عرّابو طوكيو” على سبيل المثال والذي يدمر حياته عائلته بسبب إدمانه للقمار.

الرسم والتوليف
اعتمد كون في أفلامه الأولى على الرسم اليدوي بشكلٍ تام دون أيّ لجوء إلى رسوم الكومبيوتر، قبل أن يستعين بشكل جزئي في أفلامه اللاحقة، وتحديداً في فيلمه الأخير “بابريكا”. يتحدّث كون في مقابلة أجريت معه بعد صدور الفيلم عن ذلك: “فكرنا كم يمكننا توسيع أفقنا في حال لجأنا لرسومات الكومبيوتر. لذا كان لها دور أكبر في هذا العمل من الأعمال السابقة. التحدي الأكبر كان في الفرق الكبير بين الرسمين الثنائي والثلاثي الأبعاد والرسم اليدوي. في كل الأعمال التي شاهدتها، كان من الصعب دمجها بتناغم. أنا شخصياً أفضل الرسم اليدوي، لذا كان التحدي بالنسبة لي هو مزجهم في بنية متماسكة”.
يبقى التوليف العامل الأكثر أهمية في أعماله، هو الذي يعتبر إتقان المونتاج العامل الأهم في عمل أيّ مخرج. يرى كون أنّ هناك بعض التشابه في توليف الأفلام الحيّة وأفلام الأنيميشن، لكنّها في الجوهر مختلفة تماماً عن بعضها البعض. يقول: “إذا حصلت على الفرصة لتصوير فيلم حيّ، سيكون التوليف سريعاً جدّاً على المشاهدين ليتمكنوا من اللحاق به”. يظهر ذلك بشكلٍ جلي في أفلامه، إذ يلجأ إلى طرقٍ من الصعب استخدامها في الأفلام الحيّة.

يلجأ كون كثيراً لاستعمال الـ”ماتش كات”. على سبيل المثال في أحد المشاهد في “بابريكا”، نرى بابريكا وهي ترفع حقيبة لتضرب بها المحقق كوغاوا توشيمي على رأسه، لكنّ اللقطة تستكمل ونحن نرى غيتاراً يتحطّم على رأس المحقق وهو في مكان وزمن آخرين. كما يميل لاستخدام الشخصيات للانتقال بين المشاهد، في “برفكت بلو” مثلاً، يمرّ أحد العاملين في المسرح أمام الكاميرا فننتقل من رؤية المغنية إلى رؤية مساعدة ميما في مكانٍ آخر.
لا يستعمل كون هذه اللقطات عن عبث، فهي تخدم الفيلم وتساعده على التنقّل بين الأزمنة والأمكنة والعوالم المتوازية التي تعيش فيها شخصياته إلى حدٍّ كبير. بالنسبة له من السهل للمشاهدين أن يستوعبوا هذا التكثيف في الأنيميشن.
لم يحظَ كون واستوديو “مادهاوس” يوماً بالشهرة التي حظي بها مخرج الأنيمي الياباني الآخر هاياو ميازاكي واستوديو “جيبلي”. إن كان الثاني غيّر نظرة العالم لأفلام التحريك من الاعتقاد بأنّها أفلامٌ للأطفال فقط إلى أفلامٍ يُمكن لأيٍّ كان أن يشاهدها، فإنّ الأوّل خلق أفلام تحريكٍ “لا تصلح إلّا للكبار”، بشخصياتها وثيماتها وطرق معالجتها أو تصويرها.
تقوم أفلام كون على العوالم النفسية والذهنية لشخصياته الراشدة بمجملها، في غيابٍ تام للأطفال عنها، مبيّناً في الوقت نفسه علاقتها بالمدينة، طوكيو، المرسومة بعناية، وبمحيطها الاجتماعي.

نجح ساتوشي كون بالجمع بين عالم الأنيميشن والعالم الحقيقي الذي نعرفه كما لم يفعل أحدٌ من قبله ولا من بعده. لم يتوقّف تأثيره على مخرجي الأنيميشن، بل امتدّ إلى مخرجي الأفلام الحيّة. كما تأثّر هو بأفلام ديفيد لينش وتيري غيليام، أثّر كون على دارين أرنوفسكي، الذي يبدو فيلمه “البجعة السوداء” مقتبساً من “برفكت بلو”، وعلى كريستوفر نولان الذي ألهمه “بابريكا” لينجز “إنسبشن”. على الرغم من ذلك لم يحظ ساتوشي كون حتّى الآن بالتقدير الذي يستحقه، رغم مشاركة فيلمه الأخير “بابريكا” في المسابقة الرسمية لمهرجان البندقية في العام 2006. ربّما كان لوفاته المبكرة في العام 2010، عن 47 عاماً، تأثير على ذلك. ففي أيار من ذلك العام وبينما كان منهمكاً في العمل على فيلمه الخامس “آلة الأحلام” علم بإصابته بسرطان البنكرياس، ثم مات بعدها بثلاثة أشهر، تحديداً في الرابع والعشرين من آب أغسطس، دون أن يتمكن من إنجاز الفيلم.
في اليوم التالي لوفاته نشرت على مدونته رسالة وداعية طويلة ومؤثّرة قام هو نفسه بكتابتها، يقول في أحد مقاطعها: “أنا لم أكن أنتظر الموت بدون أن أفعل شيئاً، حتى الآن يفكر عقلي المنهك في طرق تجعل العمل (المقصود فيلم “آلة الأحلام”) يحيا حتّى بعد رحيلي، لكنها جميعها أفكار ضحلة (…) أشعر بالأسف على أن الرؤى الغريبة التي أراها، وقدرتي على الرسم بأدق التفاصيل سيتم فقدانها، لكنّ ذلك لا يساعد في شيء. أنا أشعر من أعماق قلبي بالامتنان لأنّ السيد ماريواما أعطاني الفرصة لأُظهر للعالم هذه الأشياء. شكرا لك كثيراً. ساتوشي كون كان سعيداً كمخرج أنيمي”.
هكذا عاش ساتوشي كون شغوفاً بعمله وعاشقاً له من البداية وحتّى وفاته، قبل أن يرحل تاركاً خلفه عدداً محدوداً من الأعمال وفيلماً لم يكتمل حتّى الآن.