“شاروناس بارتاس”..نهاية السينما السردية

” لقد كانت سينما بارتاس موجودة منذ الأزل. ولكن أين كنا نحن؟ إنه يحاول أن ينقذ، من زمننا، ما يمكن إنقاذه “
ليون كراكس
حمّادي كيروم
تتميز سينما “شاروناس بارتاس”، بكونها سينما تؤزم الحداثة السينمائية. وتشكك في صحة ومصداقية المسار الذي قطعته السينما إلى اليوم. تتضح أهمية هذا التيار الذي أسسه “بارتاس” مع مخرجين آخرين أمثال “إليخاندرو ألونسو” و” وانغ بينغ” و” بيدرو كوستا” و”بيلا تار” و”داريجان اوميرباياف” و”اوتار اوسيليانو”، في كونه يعيد تشخيص فلسفة الجمال (الاستطيقا)، الذي طرحه “هيجل” في القرن الثامن عشر حول مسار الفن، والذي يعتبر فيه أن ” الفن بالنسبة لنا شيء من الماضي “. وقد اعتمده من بعده “فاليري” في مسألة الشعر. وقد أعاد صياغته “موريس بلانشو” حول الأدب: إلى أين يسير الأدب؟ إلى حتفه.
عندما صرح “هيجل” بهذه الحقيقة وهو أمام الكبير “جوته” لم يكن يجهل أو يتجاهل أن هناك أعمالاً كثيرة ستأتي. وكان يعجب بها، أو يسكت عنها. لكنه كان يعرف أن الفن لم يعد قادرًا على حمل الحاجة إلى المطلق. وأن الفن – في عصره – وجّه اهتمامه إلى قضايا أخرى تهتم بما هو جدّي وبحرية الواقع. بهذا لن يكون الفن قريبًا من المطلق إلا في الماضي. أي أن المتاحف وحدها هي التي تملك هذه القيمة وهذه الطاقة الآن. وبهذا سيصبح الفن مجرد لذة جمالية بسيطة، أو مكمل ملحق بالثقافة.

إن سينما “بارتاس” وجماعته تؤكد لنا إن السينما السردية والتشخيصية والتفسيرية، قد وصلت إلى نهايتها. وإنها أصبحت مجرد منتوج سمعي بصري قابل للاستهلاك السريع من أجل الفرجة والتسلية. ونظرًا إلى هذه النهاية المؤسفة تفننت الشركات المنتجة في تنويع شكليات العرض، واختراع تكنولوجيا الإبهار لربح الوقت، ودفع صناعة الفُرجة إلى أجل غير مسمى.
“شاروناس بارتاس” هو الابن الضال لمخرجين كبار، أمثال “تاركوفسكي” و”بارادجانوف”. ورث وطنًا لم يعد له وجود، فاكتفى منه ببقايا أدوات تقنية صنع بواسطتها استوديو داخل غابة، قرب نهر. ثم دعا كل أصدقائه لصناعة الأفلام التي يحبونها. أخرج “بارتاس” اثني عشر فيلما من أهمها ” ثلاثة أيام ” و”الممر” و”شيء منا” و”البيت” و”الحرية ” و”سبعة رجال غير مرئيين” وآخر أفلامه “اتومارك ” سنة 2016.
يعرض “بارتاس” في أفلامه الأولى وضعية الفقر في أقصى حدوده. ويصور أشخاصه في وضعية ثابتة بدون أدنى حركة. تحمل هذه الشخصيات وجوهًا بدون تعبير، وأفواها بدون كلام. كأنها بكماء منذ الأزل. تحدق في الفراغ العائم فوقها. يصور “بارتاس” شخصياته بدون أسماء في وضعية القرفصاء من زوايا متعددة. وكأنه نحات استقى مادته من “رودان” أو “مايكل أنجلو”. تتخذ هذه الأجساد العارية وضعية الجنين الذي يحنّ إلى العودة إلى الرحم وإلى الأصل، بعدما اكتشف قسوة العالم وبرودة العلاقات البشرية. تجسد هذه الوضعية التراجيدية الممثلة “كاترينا كولوبيفا” في فيلم “peace to us in our dreams” الذي عرض مؤخرًا بمهرجان “كان”. تتقدم هذه المرأة القرفصاء نحو مرآة الغدير الهادئ الذي يشغل نحو ثلثي إطار الشاشة وتقفز فيه. يتحول الماء إلى دوائر لا محدودة، تسير نحو ديمومة لا نهائية. تحيلنا شعرية هذا المشهد مباشرة إلى شعرية قصيدة “الهايكو” لـ “باشو”:
الغدير العتيق
تتقافز الضفادع
صوت الماء

تأخذ اللقطة في أفلام “بارتاس” بعدًا تشكيليًا استثنائيًا عميقًا، تُعطي الإحساس بأنها منجزة ومكتملة. كما نشعر – في نفس الوقت – إنها في طريق الإنجاز. يمنح “بارتاس” من مادة تتجاوز المعايير المعروفة. معايير الإطار ومعايير سنن العلاقات البشرية المعروفة ومعايير الحوار. يبحث “بارتاس” في أفلامه – وهو يؤسس أسلوبًا جديدًا للكتابة – عن وضعية غير مسماة، أو بدون اسم. يخلقها دراميًا من خليط من “اللاحدث” والكثير من الصمت والبطء والتمهل. إنه يكاد يخلق لغة ممكنة للتواصل في وضعيات غير ممكنة في منطق تمثيل الإحياء.
تعيش شخصيات “بارتاس” في عزلة قصوى. لا يعيشون وحدهم ولكنهم يظهرون دائمًا كأشخاص أو كأفراد وحدانيين. قلة معزولة في أمكنة معزولة، قليلاً ما يتفاهمون مع بعضهم البعض. كان هناك لولب قدري يجرّ هذه الشخصيات إلى خارج الكون. يُجسد فيلم “Few of us” هذه الوضعية بامتياز، من خلال علاقة الفتاة بالرجل العجوز في بيت معزول وكأنهما يستعدان أن يقولا شيئًا ما على شفا حوار. ولكنهما يحتفظان بقدرة خارقة على ألا يدخلا في هذا الحوار المؤجل داخل الحيز المكاني الذي يفصل بينهما. إن كتابة “بارتاس” هي نوع من البحث عن “لا مرئي نسبي” ينتمي إلى عالم فيزيقي مختلف ونادر، يحتاج إلى انتباه مضاعف لإدراكه وملاحظته حتى لا ينفلت من بين أصابع أسلوب مكونات المادة الفيلمية. مثل الضوء الذي يجعلنا نرى ذرات الغبار المتراقصة والفراغ الذي يجعلنا نحسّ بامتلاء الزمن والفكر وإمكانية عيشه بامتلاء.

إذا كنا نجد أغلب الشخصيات في أفلام “بارتاس” عازفة عن الفعل، فإن فعل النظر يعوض الفعل الدرامي التقليدي. ولتقوية هذا الفعل ودعمه تتموقع هذه الشخصيات غالبًا قرب الأبواب والنوافذ والممرات باعتبارها شخصيات العتبة التي “تعيش فقط قابليتها للعيش”.
“هذه الكائنات التي تغرق شيئًا فشيئًا دون أن تصرخ ودون أن تطلب الإغاثة من أحد، وتعيش في أقصى عزلة من العالم. هذه الشخصيات تنظر إلينا وتحدق فينا لكنها لا ترانا. لكننا نحن وبفضل سينما “بارتاس” نراها ونعرفها. إنها بكل بساطة نحن!”