مارلين مونرو.. الضاحكة رغم الوجع
– لماذا تبدين بهذا الحزن؟ إنك أكثر فتاة حزينة رأيتها في حياتي.
– أنت الوحيد الذي أخبرني بذلك، فجميع الرجال يظنون أنني سعيدة.
– يظنون ذلك، لأنك تجعلينهم سعداء.
في فيلم “الأسوياء” (The Misfits) عام 1961 تبادل كلارك غيبل الحوار السابق مع مارلين مونرو، وهو حوار قام بكتابته زوجها آرثر ميلر ضمن سيناريو مغاير، يقف عند حافة الشجن ويمدّ قدميه، دون أن يطأ أرض “الحدوتة”، بينما يجيد تجسيد المعاناة؛ معاناة عدد من الشخصيات مصادفة، وشخصية بعينها عن عمد.
“آرثر” في هذا السيناريو كتب “مارلين مورنرو” تلك المرأة الملغزّة التي تنبت ضحكتها من أحراش ألمها المساوي لسنوات عمرها، المرأة التي امتلأت بالحياة لدرجة لا تلائم الحياة، فلم تملك غير خيار المعيشة بين ضفتين، لم تكن الجزيرة بينهما معزولة تمامًا ولا آمنة بالمعنى الكامل.
ولأن السعي إلى الخلاص سمة الصادقين، فلهذا اختارت أن تنهي نزاعها مع الدنيا مبكرا، لأنها وكما تقول على لسان “آرثر ميلر” الذي استنسخ لها تكوينا مقاربا على الورق “أكره الشجار مع الآخرين، فأنتِ الخاسرة في كل الأحوال حتى وإن ربحت، يمكنك الشعور بذلك بوضوح في داخل أعماق قلبك”.
نورما التي أصبحت مارلين
ثمة ناس تلدهم الدنيا بحكايتهم الخاصة، حكاية ممتلئة بالعتمة رغم ضيائها الذائع الصيت، وفصول القسوة فيها متعددة غير متمهلة، حكاية محبوكة تماما لتحتمل خطة قدرية عجيبة من الأسى.
وكما كان “تشارلي تشابلن” معذبا في طفولته، كانت “مارلين مونرو” -أو “نورما جين”- فتاة يتيمة متناثرة على كل البيوت، لأن والدتها الوحيدة المرهقة عقليا لم تمتد يدها بما يكفي رغم كل المحاولات لتؤمّن لهما منزلاً صغيرا ينطبق سقفه على بعض الدفء الضروري لطفل في مثل هذه السن.
الأم مُفارِقة إلى المصحة، والبنت من بيت تبنّ إلى آخر، متأهبة دوما للانتهاكات الجنسية والنفسية، ينطبع الذل فوق قلبها ويدمغ إحساسها، فلم يكن الأمر يتطلب مزيدا من الشقاء كي تكره “نورما” جزءا من ذاتها، على الرغم من أنها تعرف حق قيمتها، وهذا التضاد ليس غريبا، وإنما هو مزيج من كل صنوف المعاناة التي صنعت “مارلين مونرو”.

أزمة انتماء
كلما كانت فطرتنا يقظة إزاء الوجع، صرنا أكثر حقيقية وهزمنا فينا سطوة المأساة، و”مارلين مونرو” كانت واعية تمامًا لكل ما نهش داخلها، بل كانت أكثر جرأة وبسالة في ملاحظة واستيعاب ما انتهى إليه تكوينها بعد هذا الماضي القاسي، فقد كانت امرأة فريدة في التصالح مع جانبها المظلم، تعرف عن وصماته فيها، وتعي كيف تراقبها، بل وتجيد توصيفها أكثر من أي شخص.
تقول في مذكراتها: يغمرني شعور دوما كما لو أني كنت شخصين، أحدهما “نورما جين” ابنة المَيْتم التي لا تنتمي إلى أحد، والأخرى كانت شخصا لم أكن لأعرف اسمه؛ لكن كنت أعرف إلى أي مكان تنتمي، كانت تنتمي إلى المحيط وإلى السماء وإلى العالم بأسره.

المرهفة التي لوت عنق الفن
لست بصدد الحديث عن “مارلين مورنرو” الممثلة، لأن حالة “مارلين” مع الفن أهم وأكثر قيمة من قدر موهبتها، فالشعور المتواري الذي دفع الملايين لحبها لم يكن له صلة بما لديها كممثلة، ولا حتى كامرأة مثيرة كما يقول الكثيرون، وإنما يرتبط برهافة تكوينها الإنساني، وتفرُّد منظومة إحساسها، وذكائها الحاد في قراءة البشر ومفردات الحياة.
كل هذا أثراها دون إرادة منها، وخلق لها جاذبية تفرض نفسها على الرغم من كل شيء، فبدت دوما ذات حضور شفاف أخاذ، يلوى عنق الفن حتى يجعله يتغاضى في أحيان كثيرة عن حقوقه الكاملة فيها كمؤدية محترفة، مكتفيا منها بما تقدمه له من مزيج غير مألوف من النجومية التي لن ينساها التاريخ أبدا.
وقد لخصت “مارلين” الأمر في جملة دونتها في مذكراتها؛ قاتمة ولكنها واقعية للغاية، والأجمل أنها تنطوي على كل سر “مارلين مونرو”، فقالت “كان هناك شيء ما مميز فيّ، وعرفت ما هو، فقد كنتُ صنف الفتاة التي وجدوها في حجرة نوم ضخمة وفي يدها زجاجة فارغة كانت تحوي أقراصا منومة”. هذا التناقض الحي والمسافة الصاحية بين الحياة والموت بداخل “مارلين”، هو عين سحرها ومدد شوفه.
مارلين التي هزمت نورما
بينما كانت “مارلين مونرو” المشرقة تنشر عبقها في العالم، بقيت “نورما جين” القاتمة هناك في الظل، فلم تسمح لها “مارلين” بالظهور في البقعة المضيئة منها، ولكنها رغم ذلك بقيت بداخلها في كل الأحوال، فقد أقامت فيها، وكانت من المنغّصات التي تطرأ من حين لآخر.
وفي فيلم “أسبوعي مع مارلين” (My Week With Marilyn) عام 2011 المبني على قصة حقيقية رواها الكاتب كولين كلارك عن تجربة قرّبته من “مارلين” خلال فترة تصويرها لفيلم “الأمير وفتاة الاستعراض” (The prince and the show girl) عام 1957، حكى “كلارك” من غير وعي عن نزاع “مارلين” و”نورما”؛ عن الهالة الفاتنة التي تلف “مارلين”، والدماء المسمومة التي تنزفها “نورما”.
تحدث “كلارك” عن “مارلين” التي تبعث فيك نوعا غريبا من البهجة والأمل، وعن الأخرى نظيرتها التي تجيد التصرف بشذوذ مفاجئ، وتتأخر عمدا عن مواقيت التصوير، وتجد صعوبة بالغة في حفظ النص، وتنتحب لعدم ثقتها بموهبتها أو بنفسها كامرأة قد يميزها شيء آخر غير الجمال.
وقد باحت “مارلين” في مذكراتها عن مسألة تأخيرها قائلة: أنا أتأخر عن المواعيد بشكل ثابت لا يتغير، أحيانا أتأخر ساعتين كاملتين، فحين يكون علي أن أذهب لعشاء ما في الثامنة فإنني أتمدد في حوض الاستحمام لساعة أو أكثر، فتأتي الثامنة وتذهب وأنا ما أزال في الحوض، أواصل سكب العطور في الماء، ثم أدع الماء يخرج من صرف الحوض، وأعيد ملأه بماء جديد.
ثم تضيف: أنا أدرك أحيانا حقيقة ما أفعله، تلك التي في الحوض ليست مارلين مونرو، وإنما هي نورما جين، أنا أهب المتعة لنورما جين، تلك التي اعتادت في الماضي أن تستحم في ماء قد استُخدم من قبِل ستة أشخاص أو ثمانية.
نجم هوى بإرادته
ماتت النجمة مارلين مونرو منتحرة، ولكن عند تأمل نهاية “مارلين”، وعلى العكس مما قد يتأوّله البعض في حصر أسباب انتحارها بانتصار “نورما”، فإن “مارلين” هي من ربحت الجولة، فقد عاشت وحِملُ “نورما” يثقل عاتقها، ولكنها نجحت واستحالت إلى تلك النجمة المتوهجة في السماء بالمعنى الحرفي وليس المجازي، تلك النقطة المشتعلة لسبب غامض، والمنطبعة في ذاكرة الناس والفن.
أرادت “مارلين” أن تموت وهي مكتملة محتفظة بذاتها نقية جريئة صريحة خبيرة بمواطنها الهشة، وقد اختارت أن تموت وهي حية قبل أن يحيا الموت في عيشتها، أما “نورما” فلم تملك سوى أن تكون جزءا مسلوب الإرادة من” مارلين” لم يعلم عنه أحد شيئا، وإن تطرق إلى المسامع خبر عنه فإنه سيتبخر في مواجهة “مارلين” التي تملأ العالم بسيرتها وضحكتها العنيدة المعلقة في ذيل أغلب صورها الفوتوغرافية الموثقة.