فن العنف.. نيكولاس ويندنج ريفن
“أنا أحب التطرف، وأحب وجود عدة عناصر متطرفة في نفس الوقت، لأن هذا يثير مشاعر داخل المشاهد لم يكن ليستطيع تحديدها قبل ذلك. يصبح الأمر لاشعوريًا. ذلك اللاوعي يقوده للتبصر، والتبصر يقوده للخبرة، والخبرة تقوده للتفكير.”
طفولة دنماركية خجولة، ثم مراهقة نيويوركية متمردة، والعودة في مطلع الشباب إلى كوبنهاغن مرة أخرى. تلك الانتقالات لم تكن فقط مكانية، فالتغيير الذي صنعه السفر في فكر وعقل المخرج “نيكولاس ويندنج ريفن” هو ما جعله المخرج الذي هو عليه الآن. الطفل المصاب بالديسلكسيا –تعسر القراءة- والمخرج المصاب بعمى الألوان الذي استطاع الوصول بأفلامه لمهرجان “كان” واقتنص منه جائزة أفضل مخرج عام 2011. قدم له الجائزة “روبرت دي نيرو” وتصورها البعض كتحية من سائق التاكسي الشهير “ترافيس بيكل” إلى المخرج الذي قدّم سائقًا جديدًا متميزًا في فيلم Drive. ثم مشاركته كعضو تحكيم بدورة المهرجان عام 2014، وأخيرًا مشاركته بالمهرجان العام الماضي بفيلم The Neon Daemon.

بداية واقعية
في سن الثالثة والعشرين وقع “ريفن” في اختيارٍ حاسم بين دراسته في مدرسة السينما الدنماركية –التي قبلته ضمن عددٍ محدودٍ جدًا- أو التفرغ لصناعة فيلم سينمائي حقيقي دون دراسة، واختار الفيلم. قدّم فيلمه الأول مروّج المخدرات – Pusher كتجربة فريدة في واقعيتها ونافذة على عالم الجريمة في كوبنهاجن. يركض أبطاله في الطرقات وتركض ورائهم كاميراته ليقدم أسبوعًا في حياة مروّج المخدرات “فرانك” والتصاعد الدرامي المثير للتوتر لمصيره.
عاود “ريفن” خوض مغامرة Pusher من جديد بعد ثمانية أعوام بجزئين متتالين جعل محوريهما الشخصيتين الثانويتين من فيلمه الأول. الأعوام الفاصلة بين جزأي الثلاثية الأولين قدم فيهما فيلمًا دنماركيًا واقعيًا آخر بنفس أبطال فيلمه الأول بعنوان النازف – Bleeder، لكن بقصتين مختلفتين. ثم خاض تجربة الإخراج في أمريكا وقدم فيلم الخوف – Fear X الذي تسبب في إفلاسه.
لم تكن أفلامه تشبه كثيراً تلك التي عشق مشاهدتها في مراهقته وشبابه بنيويورك. سبع سنوات قضاها في مانهاتن من عمر العاشرة، ولكونه يتسم بالخجل والهدوء، كان التمرد الوحيد القادر على ممارسته هو مشاهدة أفلام الرعب والعنف الرخيصة كأفلام المخرج “داريو آرجينتو”. تلك الأفلام الغارقة في الدماء والأشلاء زرعت فكرة العنف بداخله، وانتظرت سنواتٍ ليعالجها ويقدم رؤيته الخاصة لها فيضفي المزيد من الغموض والجودة الفنية على الدم ومشاهد القتل التي تتضمنها أفلامه.

أبطال أم مجرمون؟
الشخصيات الرئيسية التي يقدمها “ريفن” كأبطال لأعماله، لا تمثل صورة البطل الاعتيادية في السينما. هما في الأغلب مجرمون، أو مختلون، أو أشخاصٌ اضطرتهم الظروف لاستخدام العنف كلٍ لأسبابه الخاصة. هم ملائكة الانتقام الواقفون في المنطقة الرمادية المشتركة بين الشر والخير، وقد يميلون أكثر للشر. يتكرر الأمر بين أكثرهم. أولهم هو “برونسون” – Bronson الذي كتبه كمعالجة درامية لقصة حقيقية لواحدٍ من أكثر مجرمي بريطانيا عنفًا وإثارة للشغب، والذي قضى أغلب حياته في السجن الانفرادي. يتتبع الفيلم حياة “مايكل بيترسن” في سردٍ فريد يمزج جنون تحوّله إلى “تشارلز برونسون”، بجنون “ريفن” وممثله “توم هاردي”، وبحبكة تجعله واقفًا يحكي على المسرح للمشاهدين، يبدل بين ملابسه، ولا يخجل من أن يتخطى حدود العنف أحيانًا إلى الرعب، دون قطرة دماء واحدة، وبتحوله في لحظة إلى مهرج كوميدي يثير الخوف والقشعريرة أكثر مما يثير الضحكات. الكثير من الغرور والخلل النفسي ونزعة مدمرة للوصول إلى الشهرة، حتى لو كانت شهرته عبر العنف وتدمير الذات.
على النقيض من نزعات “برونسون” للشهرة وجنونه الواضح، نجد بطل فيلم قُد – Drive الذي يعمل كسائق هروب للصوص ورجال العصابات ليلاً، وممثلاً بديلاً في مشاهد القيادة الخطرة نهارًا، إلى جانب عمله في ورشة لإصلاح السيارات. يتسم السائق –الذي لا نعرف اسمه- بالهدوء الشديد والثبات النفسي الذي جعله متميزًا في عمله. لا يتحدث إلا فيما ندر وكردٍ على سؤال مباشر. ويفاجئنا بالعنف غير المتوقع، وباستخدامه لهذا العنف فيما يراه دفاعًا عن الأبرياء، أو انتقامًا لإفساد حياته الهادئة. يرتدي سترة من الستان الأبيض اللامع طُرز عليه عقربٌ عملاق ذهبي اللون. هذا الاستخدام الخاص للملابس يضفي المزيد من الأيقونية على شخصيته الغامضة.
صُور الفيلم في طرقات “لوس أنجلوس” التي لم يكن “ريفن” يعرف عنها شئ قبيل عمله في الفيلم لكنه خاض المغامرة بمساعدة بطله “رايان جوسلينج”، والذي رشحه منذ البداية لاخرج الفيلم. لاحقًا سيخوضان مغامرة أخرى في تايلاند لتصوير فيلم Only God Forgives.

أيقونية القصص المصورة
في عددٍ من أفلامه، ربما الأخيرة تحديدًا، استطاع “ريفن” أن يحدد لنفسه منطقته الخاصة التي يكتب ويخرج فيها. من السهل أن تميز أفلامه سواءًا بألوانها وموسيقاها، أو بأبطالها وطبيعة الشخصيات والحكاية المقدمة. تميز الألوان يأتي من اصابته بعمى الألوان، حيث لا يرى الأطياف المتوسطة، ما جعله يلجأ في أكثر الأوقات إلى الألوان الزاهية القوية، ويعتمد على التناقض القوي بينها، يساعده بالطبع فريق التصوير الذي يرى الألوان على حقيقته، ويصل بها للنتيجة التي يبحث عنها “ريفن”.
في فيلم “الرب وحده من يغفر” – Only God Forgives ضابط الشرطة التايلاندي “تشانج” لم يجد مهنته كفاية للاقتصاص من المجرمين، فتحوّل ليلاً إلى ملاك انتقام يقتص على طريقته، يستل سيفه ويقطع الأيدي ويطيح بالرقاب. يتقاطع خطه الدرامي مع الأمريكي “جوليان” الذي قتل أخاه بتحريضٍ من “تشانج”. تطالبه والدته بالانتقام، ويحركه حب وارتباط مخيف بها لتنفيذ رغبتها، رغم قناعته باستحقاق أخيه للقتل. تتسع حلقات الانتقام والمطاردات الغارقة في الكثير من الدماء والعنف الذي يمارسه أبطال الفيلم بأيديهم العارية، على خلفية موسيقية مثيرة، واستخدام أقل قدر من الحوار أو السرد الصوتي، ليترك “ريفن” المساحات واسعة ليتماهى مشاهديه مع أبطاله وعنفهم.
استخدام الأزرق والأحمر الزاهيان يجعلان المشاهدة حادة ومقلقة، ويثيران قدرًا متناقضًا من المشاعر في اللحظة ذاتها. تقف “جيس” بطلة فيلم “شيطانة النيون” The Neon Daemon خائفة إلى حد الرعب في إضاءة حمراء مقلقة، وعلى الجانب الآخر من المشهد تقف عارضة أزياء منافسة لها في إضاءة زرقاء هادئة تحمل سكينًا عملاقًا وتستعد للهجوم على “جيس” في ثبات وإصرار. المشهد يبدو كرسوم القصص المصورة، والفيلم بموضوعه تناسبه الألوان والإضاءات المصطنعة والأداء التمثيلي الزجاجي بعض الشئ، فبطلات الفيلم يعملن كعارضات أزياء، الجمال والتناسق هو سلعتهن. تفتخر إحداهن بجمالها الطبيعي المثالي، وتتتباهى أخرى بعمليات التجميل التي أقدمت عليها مؤخرًا. غواية الجمال هي نواة الفيلم، وكيف يحوّل فتيات بريئات إلى شيطانات تبعن أرواحهن لأجل عرضٍ هام أو جلسة تصوير خاصة.

الموسيقى وأغان البوب
كالعديد من صناع السينما، يستخدم “ريفن” مكتبته الموسيقية في أفلامه. يهوى التوفيق بين أغانيه المفضلة وبين مشاهده لتتوائم الصورة والصوت في مشاهده الهامة، وقد يستمع لعشرات الألبومات باحثًا عن أغنية واحدة تحقق له لحظة التنوير التي يبحث عنها. يستغني بالأغنية عن الحوار أحيانًا، وقد يستخدم أغنية هادئة في مشهد شديد العنف كما في أول فيلم “برونسون” أو مشهد المصعد في فيلم “قُد”.
الأغاني التي يختارها ليست في العادة مألوفة للأذن، والاختيارات في الغالب فريدة سواء كانت لفرقٍ ومغنين قدامى أو جدد. لا يعني هذا أن الفيلم لا يحتوي سوى تلك الأغاني، لكن إضافة إلى اختياراته الغنائية، فإنه استعان أكثر من مرة بالمؤلف الموسيقي “كليف مارتينيز” ليقدم له مزجًا من موسيقى الإلكترو التصاعدية الحادة في نغماتها، والتي في امتزاجها بصورة “ريفن” وألوانه، تمنح الفيلم مزيدًا من إحساس القصص المصورة وأجواء الأفلام التجريبية.
قد لا يكون “نيكولاس ويندنج ريفن” قد صنع ما يمكن اعتباره علامة سينمائية مميزة حتى الآن، لكنه بالتأكيد يمتلك كل ما يجعله مخرجًا سينمائيًا مميزًا، ففي عمر السابعة والأربعين قدم المخرج الدنماركي عشرة أفلام حتى الآن، ويخوض تجربة الإخراج للتلفزيون. ببصمته المميزة في رواية أفلامه بصريًا، ينتظر محبو السينما جديده دومًا واثقين أنه سيمتعهم بشكلٍ أو بآخر.