مايكلأنجلو أنطونيوني .. مخرج مثقل بالرؤى

عبد الكريم قادري

عايش مايكلأنجلو أنطونيوني “ Michelangelo Antonioni“(1912-2007) أهم المُنعرجات التي مر بها الشعب الإيطالي والعالم بأسره، منها أجواء الحرب العالمية الثانية وما نتج عنها من مشاهد دامية، عكستها وحشية وطموح هتلر للسيطرة على العالم، بأبشع الوسائل وأقساها، وامتداد نفوذه إلى ايطاليا كدولة محور، عن طريق فاشية موسوليني، الذي يدق عنق كل من يحيد عن رأيه، واضطراب العالم كله.

 كان شاهدا على صعود هؤلاء ونزولهم المدوي، وعايش مرحلة التفاف العالم في خندقي الشيوعية والرأسمالية،  تأثّرت مشاعره التي نشأت معه وهو طفل من كل هذا، وواجه حقيقة العالم وسباقه المُستميت من أجل الاستحواذ والتملّك، عرف بأنّ هناك خيرا وشرا، جمالا وقبحا، جمال تمثله الطفولة التي عاشها، من خلال أنامله التي تعلم بها الرسم والعزف على آلة الكمان وهو في التاسعة من العمر، حيث لم ير في هذه الطفولة سوى الحب والرعاية ، وفي هذا الجانب يقول عن نفسه وعن أسرته التي سايرت طموحه وشجعته ” طفولتي سعيدة، وأمي كانت امرأة ذكية ودافئة المشاعر، وكانت عاملة في أيام الشباب، أما أبي فقد كان رجلا صالحا هو الآخر، ولد في عائلة تنتمي للطبقة العاملة، ونجح في الاستحواذ على وضع مريح من خلال الدورات التدريبية الليلية والعمل الشاق، لقد أطلق والدي ووالدتي لي العنان لفعل ما أرغب فيه”[1].

اتبع أنطونيوني مفهوم بير باولو بازوليني "الذاتي الحر الغير مباشر" في نظريته سينما الشعر

 

عرف حقيقة هذا العالم وزيفه، وشعاراته التي تفسر على معنيين، ظاهري وباطني، حقيقي وكاذب، تولّدت في شخصيته أحاسيس بالنقيضين، ترك بعدها بلدة فراري Ferrari، التي ولد بها في إيطاليا، وتنقل إلى روما، أين درس الاقتصاد في أحد جامعاتها، ومن ثمة عُيّن موظفا في أحد البنوك، لكن طموحه كان في الفنّ، لذا عاود الدراسة في أحد معاهد السينما، ليبدأ مرحلة أخرى مع الصورة، لكن من خلال كتابة النقد السينمائي، وبعد فترة جمعته علاقة تواصل مع المخرج الكبير روبرتو روسيليني Roberto Rossellini (1906-1976) وهذا سنة 1942، أين تعرف على طموح هذا الشاب، ورؤاه الفنية للسينما، مما أشركه في كتابة سيناريو فيلم “رجوع الطيار” Un pilota ritorna ، كما عمل مساعد مخرج مع انريكو فولكجينوني  Enrico Fulchignoni في فيلم I due Foscari.  ، وبعدها سافر إلى فرنسا، من هنا بدأ أنطونيوني حياته السينمائية، بعد أن ساعده روسيليني في وضع قدمه فيها، لكن مع تجارب قليلة لم تكن لترضي طموحه الفني وحلمه في الفن السابع الذي ترك من أجله وظيفته في المصرف، وبعد فترة دخل في تجربة أخرى حين سافر إلى فرنسا سنة 1943، حيث عمل  مساعدا  مع المخرج الفرنسي مارسيل كارنيه  Marcel Carné (1906-1996) ، من خلال فيلم “زوار الليل” Les visiteurs du soir ، لكن المساعدة وحدها لم تكن طموحا لدى أنطونيوني، ولا وسيلة كافية للتعبير عما يختلج صدره من أفكار حول السينما، لذا دخل في تجارب أخرى في مجال صناعة الأفلام القصيرة، التي بدأها بفيلم  Gente del Po ، أفلام تندرج في إطار الواقعية الجديدة، حيث تلامس بواقعيتها الطافحة الفيلم الوثائقي، لكنها تبقى تجربة ناقصة، والتي أكملها من خلال توقيعه لإخراج أول أفلامه الروائية، بعد أكثر من سبع سنوات على البداية،  لكن هذه المرة لم يكن تابعا لأحد، ولم يكن مضطرا أن يعطي رأيه بطريقة مجانية دون أن يكون له الفضل، وهذا عن طريق فيلم ” حكاية قصة حب” Story of a Love Affair 1950، ومع أن الفيلم كان عاديا وقتها، غير أنه كشف عن ميلاد مخرج جديد في السينما، يحمل بصمة وتوجها فنيا في الواقعية،  تلتها بعده العديد من الأعمال، “الخاسرون” The Vanquished 1952، “السيدة دون أزهار الكاميليا”Camelias The Lady Without 1953، “الصديقات” The Girlfriends 1955، “الاحتجاج” The Outcry 1956، “المغامرة” The Adventure 1960، وتصنّف هذه الأعمال في بوتقة السينما الإيطالية الواقعية.

 كرس من خلالها المخرج مايكل أنجلو أنطونيوني بصمته الإخراجية ببراعة، والمتمثلة في اللقطة الطويلة، وعدم ترابط المشاهد، وكسر خيط السرد وتصاعد الأحداث، والمونتاج الاعتباطي، إذ يمكن لهذا المخرج أن يقطع لقطة ما من مشهده وهي في أوجّ حالاتها، كما أنه لا يهتم بالحالات الانفعالية لشخصياته، ولا يحترم مبادئ تغيير حالتها النفسية وفقا لكل حالة وموقف للأحداث، وفي سنة 1964 دخل أنطونيوني تجربة سينمائية جديدة، من خلال فيلمه “الصحراء الحمراء Red Desert” الذي شكّل وعيا جماليا وفنيا لدى هذا المخرج، خاصة وأنه استعمل الألوان في الفيلم لأول مرة، بعدما كانت أفلامه وأعمال غيره محصورة في الأبيض والأسود. ومن هنا كان الفيلم بمثابة الطريق الجديد في السينما، عكسته التقنيات المتبعة، واشتغال كبير على الشكل الذي ولّد شعرية طافحة” وقد وظّف اللون في الفيلم توظيفًا دراميًا رائعًا وغيّر في درجات الصورة السينمائية بما يلائم حالة شخصياته النفسية”[2].

العملاقان أنطونيوني وبيرلوتشي

وقد اتبع أنطونيوني مفهوم بير باولو بازوليني “الذاتي الحر الغير مباشر” في نظريته سينما الشعر، كما انعكست الألوان كحقيقة نفعية معبرة عن عمق الفكرة بشكل كبير، بعد أن “وظّف أنطونيونى الألوان في الفيلم وفق مشاريع أبطاله وبخاصة جوليانا حيث إن المتجر الوحيد في حي المصنع ملون باللون الأزرق والأخضر الباهت الذي يعكس الحالة النفسية للبطلة واللون الأحمر والأصفر لون الصحراء والنار المنبعثة من فوهات المصنع والمختلطة بالدخان الأسود المنبعث من تشغيل المصنع وهو الجو العام إلا أنه يتسامى إلى الباهت وتمتزج الألوان إلى الرمادي الداكن وهو إحساس البطلة ووجهة نظرها عندما تكون وحيدة”[3].

 ومن ناحية أخرى تمتد فكرة الفيلم إلى مساحات أوسع من الألم والرؤى الوجودية الباهتة، التي تعكس عمق الوجع، والمحيط المتهاوي، والبيئة التي لم تعد تقول شيئا، و” واضح هنا أننا أمام فيلم همه الرئيس من خلال شخصياته ولا سيما من خلاص شخصية جوليانا – أن يتحدث عن هذا العالم الذي نعيش فيه، والذي يتطور يوماً بعد يوم من الناحية المادية، ولكن من دون أن يكون التطور الروحي والعاطفي فيه موازياً لذلك التطور. إنه فيلم يرصد، من خلال جوليانا والعالم الغريب المحيط بها – حكاية عالم بات شديد القسوة، ولكن أيضاً بات من الغباء بحيث لم يعد في وسعه أن يشاهد الكون الذي خلقه. ومن هنا حتى وإن كانت شخصية جوليانا تبدو ملتبسة وكالمصاب بمسّ، سنلاحظ في سياق الفيلم وموقعها منه، أنها الوحيدة التي تأمل”بالشفاء” طالما أنها الوحيدة التي تعي حقيقة هذا العالم والتي تشعر في عمق أعماقها بالاستلاب الذي يجابهنا العالم به” [4]. وقد حصد الفيلم جائزة الأسد الذهبي بمهرجان البندقية السينمائي سنة 1964.

كان فيلم بلو آب هو أول فيلم ناطق بالإنجليزية لأنطونيوني

بلو آب/ مدارك الموجة الجديدة وإفرازاتها

بعدها بسنتين دخل أنطونيوني تجربة سينمائية جديدة، من خلال فيلم “اللقطة المكبرة Blow up“سنة 1966، الذي واكب من خلاله سينما “الموجة الجديدة” ليحاكي تجارب السينمائيين الشباب، ويكسر قاعدة السرد السائد، بعدما كانت تقنية التقليد سائدة في كل سينمات العالم، الفيلم المذكور تم تصويره في بريطانيا، يحكي قصة مصور شاب يشتغل على الموضة في معارض الأزياء، وعن طريق الصدفة يكون المصور قد صور جريمة، يتصاعد الصراع وتتوسع القصة عبر الحادث. وقد حقّق الفيلم رغم بساطة القصة نجاحا كبيرا، بعد أن أبان مخرجه عن أدوات عمل جديدة، وقد نال هو الآخر السعفة الذهبية بمهرجان كان السينمائي سنة 1967.

تجربة العمل في هوليود

لم تمر هذه النجاحات مرور الكرام على هوليود، التي أغرته ليسافر لها ويبدأ مرحلة سينمائية جديدة فيها، وهناك اشتغل على تجارب متفاوتة، عكستها أفلام “المهنة مراسل Profession reporter 1975، وقد سبق هذا الفيلم تجربة أخرى عكسها فيلم “زابريسكي بوينت Zabriskie Point، هذا الأخير ورغم أنه لم يحقق نجاحا تجاريا، غير أنه كان مثقلا بالرؤى.

وإن لم يحقق الفيلم نجاحا تجاريا، وهو همّ هوليود الأول، لكنه عكس مرحلة جيدة من السينما الجادة، بعد فترة لم يتعود المخرج الإيطالي مايكلأنجلو أنطونيوني على الحياة في الولايات المتحدة الأمريكية، وعاد إلى بلده ايطاليا، وهناك جدّد عهده بالسينما والحركات الفكرية التي توازيها وتعتمد عليها، ليخرج فيلما جديدا بعنوان ” تحديد هوية امرأة” Identification d’une femme 1982 ، بعدها جافاه الحظ إذ أصابته جلطة، والتي حالت دون أن يُواصل مشواره السينمائي، والذي توقف عن ممارسته مرغما لمدة تزيد عن عشر سنوات، ليتجدد الحلم من جديد، وهذا سنة 1995، من خلال تقديمه فيلم ” وراء الغمام” Par-delà les nuages، ليوقع آخر فيلم في حياته السينمائية سنة 2002، من خلال فيلم “إيروس”  Eros.

فيلم الصحراء الحمراء Red Desert" شكّل وعيا جماليا وفنيا لدى هذا المخرج، خاصة وأنه استعمل الألوان فيه لأول مرة.

وهب أنطونيوني حياته كلها للإخراج والسينما، وعن هذه المهنة كان يقول “إن مشكلة المخرج تنحصر في أنه يتعين عليه أن يمسك بالواقع – للحظة – قبل أن يتجلى ويكتشف في نفسه، ثم تقدم هذه الحركة، وهذا المظهر، وهذا الحدث بوصفه إدراكا جديداً لهذا الواقع، فهذا الذي يقدمه المخرج ليس صوتاً – سواء أكان هذا الصوت متمثلاً في كلمات أو ضوضاء آو موسيقى، وهو ليس ضرورة سواء أكانت هذه الصورة متمثلة في منظر أو تعبيراً أو حركة، بل هو كل متكامل لا يقبل التجزئة”

كانت حياة أنطونيوني حافلة بالإنجازات والرؤى، ومُفعمة بالسينما الحقيقية، وقد كلل هذا المسار من خلال نيله أهم الجوائز العالمية، من بينها الدب الذهبي بالبندقية عن فيلم “الصحراء الحمراء”، والسعفة الذهبية ب”كان” عن فيلم “اللقطة المكبرة”، وجائزة لجنة التحكيم، وأوسكار قدمته له أكاديمية فنون وعلوم الصورة المتحركة 1995 عن مجمل الأعمال، والأسد الذهبي مرة أخرى عن مجمل الأعمال بمهرجان البندقية سنة 1997.

المراجع


[1]  يوسف شيخو، أنطونيوني..عين أدمنت اغتصاب العذارى، موقع الأوان، 2011، أغسطس

النسخة الإلكترونية: http://www.alawan.org/article10208.html

 [2] منى النمرسي، المخرج الإيطالي مايكل أنجلو أنطونيوني من المخرجين المهمين، جريدة المدينة، 2012، 14 أذار.

[3]  نفس المرجع.

ابراهيم العريس، ” الصحراء الحمراء” لأنطونيوني مصانع وامرأة وضباب وصمت، جريدة الحياة ��لسعودية، عدد 16195 سنة 2007، 7 سبتمبر [4]


إعلان