عبد العظيم عبد الحق.. مغمور يصنع تاريخا في الموسيقى والمسرح والسينما

“حاجات كتيرة هترخص وتبقى بسعر التراب، أنا وأنت والأستاذ وحضراتكم أجمعين… يا جبناء ياللي صوتكم ميعلاش إلا في الفارغة.. خليكم في اللي أنتم فيه ربوا العيال وروقوا نفسكم يوم الخميس.. جتكم ستين نيلة”.

هكذا قدم عبد العظيم عبد الحق أوراق اعتماده باعتباره ممثلا قديرا في نحو دقيقة واحدة من فيلم “الإرهاب والكباب” الذي أخرجه شريف عرفة (1992). لكن لهذا الرجل تاريخا كبيرا في عالم التلحين، ويكفي أن نشير إلى أنه ملحن أغنية “تحت الشجر يا وهيبة” لمحمد رشدي.

لقطة لعبد العظيم عبد الحق في فيلم الإرهاب والكباب مع عادل إمام

عبد العظيم.. شغف فني في عائلة صعيدية مرموقة

ولد عبد العظيم عبد الحق في قرية أبي قرقاص بمحافظة المنيا عام 1905، وقد عشق التمثيل والطرب منذ أن كان بالمدرسة الابتدائية، فتعلم الموسيقى على يد مدرس الموسيقى شحاتة أفندي حتى تمكن من العزف على مجموعة من آلات النفخ والآلات الإيقاعية، وقد قابل سيد درويش وهو في ابن 11 عاما، وغنى أمامه بعض أغانيه المعروفة، فأعجب بأدائه وشجعه على الاستمرار.

واجه عبد العظيم معارضة عائلية لاشتغاله بالفن، فقد كان ينحدر من أسرة صعيدية معروفة، كما أن أحد إخوته كان وزيرا للأوقاف والآخر وزيرا للمواصلات. وكان شقيقه عبد الحميد باشا عبد الحق أحد أعضاء حزب الوفد البارزين في العهد الملكي، وكان وزيرا في ثلاث وزارات، وتولى رئاسة نقابة المحامين.

الملحن والممثل عبد العظيم عبد الحق

كما تولى أخوه وزارة الشؤون الاجتماعية بين 1943-1944، ووزارة الأوقاف بين 1942-1944 في عهد حكومة الوفد برئاسة مصطفى باشا النحاس. ثم تولى أيضا وزارة التموين بين 1948-1949 في حكومة إبراهيم باشا عبد الهادي، فضلا عن توليه رئاسة اللجنة المالية بمجلس النواب.

عارضت عائلته أن يعمل في الفن بشدة، وأجبره والده على الالتحاق بكلية الحقوق بالقاهرة، لكنه بالتزامن مع دراسة الحقوق كان يتدرب على الغناء في فرقة الشيخ محمود صبح وفرقة الشيخ زكريا أحمد، فقضى مع كل منهما أربع سنوات.

وبعد تخرجه في كلية الحقوق تقلب عبد العظيم عبد الحق -الذي يعتبره بعض الناس مجرد ممثل هامشي فقط- في وظائف عدة منها مدير الهوايات بوزارة الشؤون الاجتماعية، ومدير التفتيش المالي والإداري والمناقصات بوزارة العمل.

وفي 1948 التحق -وهو في سن الأربعين- بالمعهد العالي للموسيقى العربية، بناء على نصيحة الدكتور أحمد الحفني، فزامل عبد الحليم حافظ وكمال الطويل وإسماعيل شبانة، وتخرج في 1952 حاملا الدبلوم، وكان قد تزوج قبل ذلك بعامين، لكنه لم ينجب أطفالا، فكان يعتبر إنتاجه الفني بديلا لأولاده.

حاول توسيط رائدة الحركة النسوية هدى شعراوي لدى والده لرأب الصدع، لكن والده دبر له وظيفة محاسب في مطار المنيا، فتصادق مع الطيار محمد صدقى الذي كان يصطحبه خلسة للقاهرة في طائرته، ليذهب إلى صالات ومحافل الفن.

“تحت الشجر يا وهيبة”.. مخاض عسير لمولود استثنائي

بدأ عبد العظيم عبد الحق حياته الفنية عن طريق المذيع علي خليل، فدخل الإذاعة بلحن الصيادين “هو.. هو.. الرزق بإيده هو”، من غناء كارم محمود وكلمات مأمون الشناوي، ونجح اللحن. وكان من ألحانه الكثيرة الناجحة أغنية “تحت الشّجر يا وهيبة”، وقد علت بشهرته وشهرة عبد الرحمن الأبنودي إلى آفاق بعيدة.

في أحد أدواره السينمائية

يتحدث الأبنودي عن قصة الأغنية قائلا: أغنية “تحت الشجر يا وهيبة” واجهتها ظروف صعبة، ولم تخرج للنور بسهولة. فأذكر أن الأستاذ الشجاعي لم يُبدِ ارتياحا لكلماتها وأعادها إلي، مؤكدا أن الموسيقار منير مراد وغيره من الملحنين رفضوها، لكونهم لم يستوعبوا كلماتها، فاقترحت عليه أن يعطيها للملحن الصعيدي عبد العظيم عبد الحق، لأنه مثلي وسيفهم معناها، فاستجاب الشجاعي لطلبي، وبالفعل لحنها عبد العظيم عبد الحق ببراعة.

أعجب بها الشجاعي وسألني: من الذي في رأيك يمكن أن يغنيها؟ فأجبته على الفور قائلا: هو شخص واحد فقط، الذي غنى أدهم الشرقاوي، فقال لي الشجاعي: ولكن هذا المطرب تعرض لحادث أثناء سفره للسويس لإحياء حفل هناك، فقد انقلبت به الحافلة وماتت في الحادث المطربة نادية فهمي ولا يستطيع الغناء الآن.. فقلت له: الحادثة كما أعرف كسرت ذراعه وساقه، ولكن هل كسرت صوته؟ فقال لي: إذا عليك أن تذهب وتبحث عنه وتحضره طالما أنك مُصِر عليه.

على الفور توجهت إلى معهد الموسيقى العربية لأحصل على هاتفه، ولأنني كنت شخصا مجهولا، فقد أذاقوني الأمرّين ورفضوا إعطائي رقم هاتفه، وأمام إصراري طلبوه لي ليحادثني هاتفيا.

شعر محمد رشدي بمللٍ شديد وعدم ارتياح، ورفض إعطائي هاتفه، وبعد إلحاح شديد مني أعطاني موعدا في مقهى التجارة الشهير بتجمع المطربين والموسيقيين في شارع محمد علي. وحينما ذهبت إليه وجدته يعاملني بتعالٍ وأسلوب ضايقني جدا.

قدم عبد العظيم عبد الحق أكثر من 500 لحن شرقي

كان جسدي نحيلا جدا وملابسي كانت متواضعة للغاية، ومنظري كله يوحي لمن يراني بأنني إنسانٌ معدم، فشعر هو أنني دخيل على الشعر وأسعى لفرض نفسي عليه، فما أكثر من كان يلتقي بهم على هذه الشاكلة.

وحينما شعرت بهذا التجاهل منه وعدم إبداء أي رغبة لديه في الاستماع لي، قلت له بحدة إنني قادم له من عند الأستاذ الشجاعي، وكان معروفا بلقب “بعبع الإذاعة”، فاعتدل في جلسته وأجلسني واستمع إلي وطار فرحا بالكلمات.

أذكر أنني قضيت هذه الليلة معه، حدثته عن نفسي ومعاناتي ولماذا أعجِبت به، وطلبت منه الهروب من لقب “مطرب الأفراح” الذي كان مشهورا به، ودون أن نشعر صارت بيننا صداقة، واستمع للحن عبد العظيم عبد الحق وأعجِب به بشدة. وهكذا بدأنا مسارنا معا، وحققت الأغنية نجاحا مدويا وأصبح اسمانا على كل لسان، ووجدتني فجأة مؤلف أشهر أغنية في مصر.

ألحان الأغاني.. مكتبة زاخرة بالأعمال الموسيقية الناجحة

لحَّن عبد العظيم عبد الحق فيما بعد أغاني كثيرة منها:

“وحدة ما يغلبها غلاّب” لمحمد قنديل. “الصّيادين” لكارم محمود. “قلبي حبك” لإسماعيل شبانة. “الشّمعتين”، و”ليالي الأندلس” لحورية حسن. “يا مشمش” لعبد اللطيف التلباني. “يا شاغل فكري” لليلى حلمي. “غاوي عتاب”، و”في قلبي غرام”، و”هدي” لمحمد عبد المطلب. “يابو الضفاف السندسية” لعائشة حسن. “مصر العظيمة”، و”أمرك عجيب” لسعاد محمد. “يا أم القوام مياس” لسيد إسماعيل. “مشوارنا طويل ياهل بلدنا مش وقت كلام” لأحمد سامي. “بجد بجد حنبني السّد”، و”ثورتنا” للمجموعة. “سحب رمشه ورد الباب”، و”حل السواقي”، و”يا علي”، و”حلواني”، و”الفرحة تمت علينا”، و”هدي الخطاوي”، و”اتمد يا عمري اتمد” و”رمان يا رمان” لمحمد قنديل.

كما لحَّن كثيرا من الأغاني الدينية، ومنها:

“بشاير” لسيد إسماعيل. “رسول السلامة” من غناء سيد مكاوى في بداية حياته الفنية. “فجر الإسلام” لفايدة كامل. “في حب الله” لكارم محمود. “كتاب الله” لعائشة حسن. “ألفين صلاة عالنبي” لمحمد قنديل.

إلى جانب ذلك قدم عددا من الأعمال الإذاعية، مثل:

أوبريت “عين الغزلان”. “المسامح كريم”. “الأستاذ رمضان”. “صفحات المجد”.

وقد سُجِّلت جميعها بمصاحبة التّخت الشّرقي، فقد كان صاحب بصمة شرقية بحتة تشعر بها بوضوح في جل ما قدمه من ألحان.

موسيقى المسلسلات.. أعمال رائد المقدمة الغنائية

قام عبد العظيم عبد الحق في بداية عمله الفني بوضع موسيقى لعدة مسلسلات تلفزيونية، ويعتبر أول من أدخل المقدمة الغنائية، ومن تلك المسلسلات:

“‏الرحيل”. “هارب ‏من الأيام”. “الضحية”. “النصيب”. “القاهرة والناس”. “الشهد والدموع”. “عروس اليمامة”. “الساقية”. “ليالي الحلمية”. الحلقات الإذاعية “كلمات مضيئة”.

كما وضع ألحان عدد من الأفلام منها:

“تحت سماء المدينة”. “مخلب القط”. “جيش أبرهة”.

عالم السينما.. إحباط في الإذاعة يدفع إلى الشاشة الكبيرة

اتجه عبد العظيم للتمثيل بالسينما في سن متقدمة، بعد إصابته بالإحباط من الإذاعة لرفضها كلمات أغنية ألّفها لنصر 6 أكتوبر 1973، فمثّل في أفلام منها:

“يحيا الحب” (مع محمد عبدالوهاب). ” لصوص خمسة نجوم”. “الفاس في الراس”. “الأراجوز”. “الدرجة الثالثة”. “بنت من ذهب”. “حلوة يا دنيا الحب”. “المومياء”. “طريق الانتقام”. “السيد البلطي”. “مراتي مجنونة مجنونة”. “السمان والخريف”. “آخر فرصة”. “الإرهاب والكباب”. “عندما يأتي المساء”. “لمن تشرق الشمس”. “يوميات نائب في الأرياف”. “العلمين”. “مخلب القط”.

كما عمل في عدد من الأفلام والمسلسلات الإذاعية مثل خماسية “تضحيات” وسباعية “لعبة الحياة”، حلقات “الحب والمال والشيطان”، وبعض المسلسلات التلفزيونية مثل: “الشهد والدموع”، و500 حلقة على مدار 11 سنة من مسلسل نقدي اجتماعي قديم كان اسمه “عادات وتقاليد”، وكان يلعب فيه دور الزوج الصبور حسان، رب الأسرة المغلوب على أمره أمام عقيلة راتب، الزوجة الثرثارة الفضولية. ومن أهم أعماله ظهوره في دور “النجاشي” في فيلم “الرسالة”.

لكنّ ذلك التنوع في الاهتمامات لم يمنع عبد العظيم من أن يضع موسيقى تصويرية لأفلام سينمائية وثائقية. وقد حصل على جائزة من إيطاليا تقديرا لإحداها.

“كفى الفنان الأصيل أنه وأعماله ملكٌ للتاريخ”

شغل عبد العظيم عبد الحق وظيفة مدير إدارة الهوايات بوزارة الشّؤون الاجتماعية، ثم ترقى إلى مدير التفتيش المالي والإداري والمناقصات بوزارة العمل، ولما لم يعد يطيق الوظيفة الحكومية استقال.

عُرِف عبد العظيم عبد الحق بصدق عاطفته الموسيقيّة؛ ومع هبوط الذوق الموسيقي وانتشار الفن الهابط ابتعد عن التلحين نهائيا، وبما أن الصّدق هو محور مشاعر الفنّان عامّة، فقد آثر الابتعاد عما سماه موسيقى الغابات الغربية إذا ما قورنت بالسامبا والرومبا والفوكس تروت، أو الزار الشرقي المعاصر الذي يسمى ظلما بالفن، بكلماته المبتذلة وأدائه الرقيع وهدفه الضائع، نتيجة الاحتكار الفني من أناس لا صلة لهم بالفن.

كان سبيل عبد العظيم عبد الحق في تعويض نجاحه في هوايته الأخرى، ينحصر في التّمثيل. ولا شك أن نجاحه في تمثيليات التّليفزيون وبعض الأفلام السّينمائية جعل بعض النّاس ينسى أنّه هو عبد العظيم عبد الحق المُلحّن الكبير، صاحب أرقى الغنائيّات النّاجحة.

لكن ما يلفت الانتباه أننا لا نرى هذا الرجل المبدع المظلوم قد حظي بتقدير ذي شأن يستحقه بعد مماته. كما لم يتصدر اسمه بلقب موسيقار في الإذاعة المصرية، رغم أنه قدم لمصر ولفني التمثيل والموسيقى أكثر من 500 لحن شرقي شجي مترفع الكلمة بامتياز، وهي محفوظة كلها في سجل الإذاعة المصرية، لكنها ما زالت تصدح في قلوب محبيه. وعلى حد قوله “كفى الفنان الأصيل أنه وأعماله ملكٌ للتاريخ”.

حصل عبد العظيم على ميدالية العيد الذهبي للإذاعة عام 1984، ودرع العيد الفضي للتلفزيون عام 1985، كما نال جائزة من إيطاليا عن موسيقى كتبها لفيلم وثائقي، وشارك في التمثيل بفيلمين عالميين. ثم رحل وحيدا دون أن يتذكره أحدٌ من صناع السينما ومؤسساتها في مصر في 3 إبريل/نيسان عام 1993.


إعلان