سيدني بولاك .. الموهبة الشاملة

عبد الكريم قادري
يُعد المخرج الأمريكي سيدني بولاك واحداً من أهم المخرجين الأمريكيين، الذي تركوا بصمة واضحة على مدونة السينما العالمية، لما أنجزه من أفلام مهمة ومنوعة، على مدار أكثر من 40 سنة كاملة، حيث صُنّفت ثمانية منها في قائمة “قمم الأفلام التي تدر أعلي أرباح التوزيع والإيجار على مر الزمن” حسب مجلة “فارايتي” الشهيرة، ناهيك عن الشهرة الواسعة التي تتمتع بها هذه الأفلام في العالم، أما الأهمية الكبرى التي اكتسبها هذا المخرج، فقد حصل عليها من خلال تجاربه المختلفة، التي سمحت له بأن يحصد أهم الجوائز العالمية وأعظمها، إذ حصلت أفلامه على ستة وأربعين ترشيحاً لجوائز عالمية، من بينها أربعة ترشيحات لجائزة أفضل فيلم، وثلاث مرات رشح كأفضل مخرج، كما فاز فيلمه “خارج أفريقيا” 1985، الذي يُعد الفيلم الـ14 في مساره بسبع جوائز أوسكار، من بينها أفضل فيلم، أفضل مخرج، وأفضل سيناريو.
أهم ما يُميز تجربة هذا المخرج هو التنوع الرهيب الذي عرفته أفلامه، حيث يكاد يخرج من شكل حتى يدخل في آخر، ومن موضوع لموضوع، ومن فضاء لفضاء، يجعلك تحس بأنه لا يكرر نفسه وتجاربه، ويبحث دائماً على ما هو جديد، يمكن أن يسجل إضافة في مساره المُمتد والمتنوع، ولقد سبق وأن قدمه فيه الممثل “كليف روبرتسون” كلمة، عكست بشكل قوي بصمة هذا المخرج ونمط عمله، حيث قال:”سيدني هو هذا المخرج النادر، لا يمكن تحديد هويته بمجرد الربط بينها وبين نوعية واحدة من الأفلام، لو قلنا بأن لديه القدرة على تقديم أفلام الويسترن، لقد أبدع في إخراجها بالفعل، لو تحدثنا على إخراجه أفلاماً عن المدينة الحديثة مثل “توتسي” فله بصماته التي لا ينكرها أحد، أو يمكن أن نشير أيضا إلى فيلميه “الفارس الكهربائي”، وجريميه جونسون”، إنه يملك ما اسميه موهبة شاملة، موهبة فذة تتنوع بمقدار ثلاثمائة وستين درجة، فلديه القدرة على إخراج كل نوعيات الأفلام، وتحقيق أعلى درجات النجاح”.
المخرج الذي كاد أن يصبح طبيب أسنان
أشياء بسيطة تحدث في حياة الفرد لكنها تحمل في طياتها كل الأهمية، ويمكن أن تُصحح سكة حلم أو تُبيده وتمحيه، وكل هذا يخضع لخيارات يصعب الفصل فيها من ناحية المنطق، لهذا يتم دائما استشارة القلب والأخذ بالإحساس لنتغلب على المنطق والأشياء التي نرى بأنها معقولة إلى أبعد حد، واختيار ما يعكسها يصبح جريمة في حق شريحة واسعة من الأسر والمجتمع في تلك اللحظة، لكن بعد فترة، يتبين بأن من كان يجري وراء حلمه وعاكس المنطق، كان فعلا على حق، وتقريباً قد حدث نفس هذا الشيء مع سيدني بولاك، الذي كان ينوي أن يصبح طبيب أسنان، تحقيقا لأمنية والده الصيدلي، لكن صعوبة تحصيل المال لدفع تكاليف الدراسة في الجامعة بصفة دورية، تركه يعيد التفكير ألف مرة، وهذا ما جعله يتوصل إلى اتفاق عملي مع والده، بحكم أن موعد خدمته العسكرية الإجبارية اقترب، إذ اقترح عليه أن يفعل ما يشاء خلال عامين، وبعدها يمكنه من خلال المنحة العسكرية أن يسدد أقساط الجامعة لدراسة الطب فيما بعد، وهذا ما قبله الوالد.
وقد سمح هذا الخيار العقلاني لسيدني أن يُجدد الحلم مع التمثيل الذي كان يجلب له المتعة في مرحلة نشأته، ليسافر بعدها بولاك لنيويورك، وينخرط في مدرسة التمثيل، وزاده في هذا السفر حقيبة، لا يحمل فيها حسب تصريحه سوى مبلغ بسيط من المال، وطقمين من الملابس، وبعض الحاجيات، في المقابل كان حلم التمثيل يستحوذ عليه، دون باقي الفنون الأخرى، لقد كان شغفه الوحيد، وأحد أهم الأسباب التي ترك من أجله حلم والده بأن يلتحق بكلية الطب، إذ كان يبحث عن حجة مقنعة وواقعة ليواجه بها والده ووجدها، “لا أذكر أنني كنت أميل إلى نوع معين من الفن، مؤكد أنني لست مؤلفا، لم يخطر على بالي أبدا أن أكون مخرجا، فهذا الحلم يتطلب معارف واسعة بلا حدود، أما التمثيل فهو الدمية التي لعبت بها وأنا في المدرسة الابتدائية، والمدرسة الثانوية، ربما مثلت هذه العروض المسرحية واستمتعت بها إلى أقصى درجة، لم أخلق صورة وهمية عن ذاتي على الإطلاق”.

انخرط سيدني في الدراسة بشغف كبير، وشرب من معارف التمثيل حتى ارتوى، بحب وجد كبيرين، وبعد انتهاء فترة الدراسة والتحصيل، بدأت الحياة المهنية لديه، والتي دخلها من خلال الأدوار الصغيرة التي كان يلعبها في الأعمال التلفزيونية، ناهيك على أنه أصبح في نفس الوقت يدرس التمثيل في المدرسة التي تخرج منها، ومن هنا أصبح يزاول مهنتين، ليُقرّب الحلم أكثر، ويختصر سنواته التي يمكن أن تطول، بالإضافة أنه كان يشتغل كمدرب ممثلين في العديد من الأعمال، وهي المهنة التي كان يرى بأنها صعبة وشاقة جداً، لأنه وجب الحذر فيها كثيرا، كي لا تتداخل صلاحياته مع صلاحيات المخرج، ومن هنا تبدأ الحساسيات والمشاكل، كان بداية التدريب بالنسبة له مع بعض الممثلين الصغار، الذين سيشاركون في أعمال سينمائية أو تلفزيونية، وهذا بتكليف من المخرجين أو المنتجين طبعا، وهي المرحلة المهمة في بداية سيدني بولاك، بل هي نقطة تحول رئيسية في مسار حياته ككل، للانتقال من عوالم التمثيل، إلى عوالم الإخراج.
التلفزيون محطة تدريب للسينما
أجاد سيدني بولاك عمله كثيراً في عالم تدريس التمثيل وتدريب الممثلين في الأعمال والبرامج التلفزيونية،لهذا بدأ يكسب قلوب العديد من الأشخاص الذين لهم نفوذ وعلاقة كبيرة في عوالم صناعة الأعمال الموجهة للتلفزيون أو السينما، ومن بين الذين كسب ثقتهم المخرج الكبير جون فرنكنهايمر، المحسوب على الجيل الأول من المخرجين، ومن هنا سافر من نيويورك إلى كاليفورنيا بعد أن طلبه، للعمل معه على فيلم “الهمج الصغار”، كمدرب لممثلين مراهقين، وقد كان وقتها وأثناء مزاولته لهذا العمل تحت مجهر بيرت لانكستر، ممثل شركة كولومبيا المنتج للفيلم، إذ كان يسأل سيدني على كل صغيرة وكبيرة في عمله، وعند انتهاء عقد العمل، قرر العودة إلى نيويورك، وهنا اتصلت به سكرتيرة تعمل في شركة كولومبيا للأفلام، حيث ضربت له موعداً مع بيرت، وعندما كان اللقاء، قال له “أنت… يجب أن تصبح مخرجا”، وعليه قام بالاتصالات الضرورية مع أحد أقطاب صنّاع السينما، كي يجهزه جيدا لدخول هذه العوالم مستقبلا، وقد حدث له هذا، حيث خصصوا له أجرة أسبوعية، ومكانا في شركة يونيفرسال، حتى يرى طريقة إخراج الأعمال، بعد هذه التجربة التي سمحت له بالعمل والتدريب مع أكبر المخرجين دخل بولاك عوالم الإخراج عن طريق عشرات الأعمال التلفزيونية التي أخذت منه سنوات فيما بعد، وأصبح من خلالها نجماً، ومخرجاً تلفزيونياً معروفاً.
لكن لا تزال الأعمال السينمائية لم يدخلها بعد، لعديد الأسباب، إلى أن جاءت الفرصة، عندما عُرض عليه مشروع فيلم “الخيط الرفيع” 1965، وبعد أن درس المشروع من عديد الجوانب، وافق عليه وقرر الدخول في هذه المغامرة، وإنجاز هذا العمل، الذي رأى بأنه أقرب إلى الأعمال التلفزيونية التي تمرّس عليها سنوات، وقد شارك في هذا العمل العديد من النجوم، مثل “سيدني بواتيه”، “آن بانكروفت”، “تلي ساقلاس”، وغيرهم من الممثلين الكبار، لكن هذه التجربة لم يرضى عليها سيدني بولاك فيما بعد، لأنه أحس بأنه استعمل أدوات التلفزيون وأسقطها على السينما، مع أن هناك اختلاف كبير بينهما، وقد قال معلقا على هذه التجربة : “من بين الأخطاء التي وقعت فيها في إخراج فيلم “الخيط الرفيع”، هو عدم السماح بوجود فوارق بين السينما والتلفزيون”، وقد كانت هذه الفوارق سبباً كافياً لعدم رضا المخرج عن الفيلم فيما بعد، خصوصا وأنه أول تجاربه في عوالم السينما، لكن فيما بعد أصبحت اختياراته أكثر نضجاً وحكمة.
وبعد سنة واحدة من إخراج فيلمه “الخيط الرفيع”، قُدم له عرض آخر لفيلم تحت عنوان “الأرض المهجورة” 1966، وقد جاء هذا الاختيار من قبل النجمة الكبيرة “ناتالي وود” التي لعبت الدور الرئيسي في الفيلم، مع الممثل الكبير “روبرت ردفورد”، هذا الأخير الذي أصبح علامة بارزة في كل أعمال سيدني بولاك فيما بعد، وأصبح من الممثلين الذين لا يمكن لسيدني أن يتخلى عنه أبداً، إلا في حالات نادرة جداً، وقد نفذ سيدني هذا الفيلم، و نال الرضى عند عرضه، خاصة في أوروبا، وأكسبه تجربة كبيرة، خصوصاً وأنه ليس من السهل التعامل مع نجمة كـ”نتالي”، ونجم كـ”ردفورد “، لتتعمق بعدها تجارب سيدني، ويكسب خبرة أكثر مع مرور الوقت وكثرة التجارب، وأصبح يقف طويلاً قبل أن يختار أي مشروع ويقف عليه.
وعن هذا النقطة كان يقول: “أحاول اختيار مشاريعي بالطريقة التي أزين بها مكتباً، أو بالطريقة التي أقرر من خلالها ماذا سأرتدي هذا الصباح، أنا لا أستطيع أن أفعل غير ذلك، أقصد أن الأمور متطابقة، فأنا أختار ما يعجبني، لكن كيف تفسر ما يعجبك؟، إنها مسألة مجهدة جداً، لو افترضنا جدلاً أنني أحاول تحليلها، فأنا متأكد أننا سنكتشف العلاقة بينها وبين محاولة تصوير الحياة مع أناس لمدة تزيد على عام، وهي المدة التي تستغرق إنجاز الفيلم، قرأت الكثير من الأعمال التي تجذب انتباهي لمدة ساعتين، وبعدما انتهي منها اسأل نفسي، هل سأذهب لمشاهدة هذا الفيلم وامنحه ساعتين من عمري، هل أتحمل الحياة مع هؤلاء البشر، هل أرتضي دعوتهم إلى العشاء، هل أريد أن أصبح صديقهم، لا يمكنني قول هذه الكلمات علناً، لكن هذا ما أقوله لنفسي لا إرادياً وأنا أقرأ أي عمل، هل أنا اهتم به فعلاً؟، كل هذا لأنني سأعطيه رعايتي واهتمام حوالي عام كامل”.

عن فساد هوليود وتميّعها
تحدث المخرج سيدني بولاك كثيراً عن حياته الشخصية والمهنية، في العديد من القنوات والجرائد، لكن من بين أهم تلك الحوارات التي أجرها، كانت مع الفنان روبرت جي إمري، صاحب البرنامج الشهير “المخرجون”، وقد بث الحوار على أجزاء، لينشر فيما بعد في كتاب تحت عنوان “المخرجون/كلاكيت أول مرة”، وقد ترجم للعربية من طرف نهاد إبراهيم، ونشر عن طريق المركز القومي للترجمة، ولقد جاء تضمين ما في هذا البورتريه من هذا الحوار، ومن بين الأسئلة المهمة التي طرحها روبرت جي إمري على ضيفه سيدني بولاك جاء عن أحوال صناعة السينما وهل تغيرت، فكان رده قاتماً جداً، حيث قال: “أعتقد أن من أكثر الأمور التي تحزنني في كل وقت، أن اقتصاديات هذا البزنس قد تغيرت بشكل ما، فكل أستديو أصبح ملك لأحد التكتلات الكبرى، جرت العادة أن ترتبط هذه التكتلات ببيزنس نفوذ الإعلام، مع المطالبة بإصدار تقارير فصلية، والنتيجة إجبار صناعة السينما على تقديم سلع أخرى مهما كانت، مثلها مثل هذه التكتلات، في الوقت الحالي يتنقل جزء كبير من الأفلام المتوسطة إلى التلفزيون، إن صناعة فيلم بتكلفة ستين مليون دولار من أسهل ما يمكن في هوليود، مقارنة بإنتاج أفلام بتكلفة خمسة عشر مليون دولار، فالشركة التي لا تسعى للربح ستنتهي إلى إنتاج أفلام بميزانيات يبلغ حدها الأقصى عشر أو اثنتي عشر أو خمسة عشر مليون دولار، كل إنسان يبحث الآن عن فيلم يحصد 200 مليون دولار، وهو عبارة عن ساعتين من التسلية، ثم يتخلصون منه بالبيع ويذهب في طي النسيان، أنا لا أقول أنك يجب ألا تصنع أفلاماً للتسلية، فهذا هو الغرض الأساسي منها، لكنني أشعر الآن أن الأمور تنحصر في كونها ضغوطا اقتصادية، يستحيل معها تأمل الطريقة التي تناسب قدراتك ولو مرة واحدة”
عايش سيدني بولاك المراحل الكبرى التي مرت بها صناعة السينما في هوليوود، وأخذ عنها تصوراً شاملاً، لهذا أصبح واعياً جداً بما يحيط بها، ويعرف أكثر من غيره جوهر السينما وعمقها، ومعنى أن تفكر في إخراج فيلم سيراه الجمهور والنقاد في كل نقطة من العالم فيها، لكن السؤال الذي يطرح، هل شكّلت الأعمال التي أخرجها سيدني بولاك رضا الجمهور والمخرج؟، وعليه يمكن أن نقول بأن الجمهور سجل رضاه بشكل كبير وواسع، والدليل طبعاً ما تحققه وحققه أفلامه على مر التاريخ، والجوائز التي تحصل عليها، أما رضا المخرج فأعتقد بأنه كان يبحث عن طريقة أخرى في إخراج الأفلام، بعد أن تعب من الميزانيات الكبرى، والشروط الجديدة لهذه الصناعة، لهذا بات يبحث عن فيلم لا ينتقل خبره إلى كل العالم، حيث يفكر فيه أو يصدره، نعم إنه تفكير مختلف من مخرج كبير، وقد قال في هذا الصدد: “لا أعرف لو كنت سأحصل على فرصة حقيقية لإخراج فيلم صغير، لقد تعبت من إخراج الأفلام ذات الميزانيات الضخمة، حيث تكلف كل ثانية آلاف وآلاف الدولارات، ولو لم تحصد مئات الملايين من الدولارات سيُعلن عن فشلها في الحال، لم تواتني هذه الفرصة مطلقا إلا في الأيام التي شهدت وجود أفلام بميزانيات معتدلة، أو أن أخرج فيلما مثل أي إنسان آخر، بحيث لا ينتبه إليه البشر جميعا، أما اليوم فكل فيلم تتولى إخراجه يطير الخبر إلى كل إنسان….لهذا أحب أن أفوز بفرصة لإخراج فيلم قليل التكلفة، أصغر مما قدمت لأرى كيف سيكون، فربما أكرهه، لكن ربما لا أكرهه”.