أنور وجدي.. المتماهي مع حلمه والمحترق بناره

لا يمكن اختزال أنور وجدي الممثل والمخرج والمنتج وصانع السينما في أعماله السينمائية فقط، فقد جسّد المبدع الراحل تلك الحالة التي يتماهى فيها الشخص مع حلمه فيحترق بناره ليبقى الحلم ويفنى الإنسان. ولعل استعراض بعض تفاصيل حياة أنور وجدي يعيد إلى الحياة تلك الأسطورة التي انطلقت من الصفر أو أقل لتصل إلى عنان السينما، ومن ثَم يكتشف صاحبها أن الهدف لم يكن تحقيق الحلم ولكنه الطريق إليه.
كان أنور وجدي مفلسا وجائعا لا يجد مكانا يقضي فيه الليل، ويقطع شارع عماد الدين في نهاره، وحين امتلك المال ظل جائعا، فقد حرمه المرض من الطعام، وحرمته الآلام من النوم.. هذه هي المفارقة التي عاشها ومات بها أنور وجدي الذي رحل في 14 مايو/أيار 1955 عن عمر ناهز 51 عاما، وقد ولد معه جنونه بالفن والأضواء، ذلك الجنون الذي بدأ جامحا لحد الحلم بهوليود باعتبارها نقطة الصفر في أحلامه.
الشارع.. بداية رحلة مريرة
لذلك اتفق طالب الثانوية العبيدية أنور وجدي مع زميلين له بعد أن أقنعهما على الهرب من القاهرة إلى بورسعيد ومنها إلى أمريكا عن طريق باخرة، وهناك اكتشفهم أحد ضباط السفينة قبل تحركها فقام بتسليمهم للشرطة التي أعادتهم للمدرسة. ولأن الزعيم هو أنور وجدي فقد تم طرده من المدرسة، ولم يكن والده أكثر رحمة من المدرسة فطرده من المنزل، ليستقبل شارع عماد الدين صبيا يقف بأقدامه على الأرض وتعانق أحلامه السماء، ويكتب له القدر صفحة لن تغادرها الدموع رغم الضحكات، ولن يحتل الفرح فيها مكانا رغم النجاحات.
ومن شارع عماد الدين كانت البداية لرحلة كفاح مريرة وقاسية عانى خلالها فتى مصر ورجل الصناعة من التشرد والحرمان والإهانة الكثير، وحاول أنور في البداية أن يختصر الطريق، فانطلق إلى الكاتب الراحل مصطفى أمين وحصل منه على خطاب توصية إلى نجم نجوم مصر أيامها يوسف وهبي الذي قرأ الخطاب ثم ألقى به إلى سلة المهملات، وألقى بأنور وجدي إلى الشارع.
ولأن كل الطرق أُغلقت أمام الصبي الحالم، فلا مدرسة ولا منزل يعود إليه، لم يجد سوى شارع عماد الدين وبالتحديد أمام مسرح رمسيس، وصار يقطع الطريق ذهابا وإيابا ويرفع يده بالتحية لكل فنان يراه خارجا أو داخلا إلى مسرح رمسيس، وكان القليل منهم يرد عليه التحية، ولم يستطع أن يلتحق بالعمل في المسرح إلا بعد أن ساعد بشجاعة وجرأة في إطفاء حريق شبّ في المسرح.
استطاع أنور وجدي لفت نظر قاسم وجدي مدير المسرح إليه، فاقترح عليه العمل في رواية “يوليوس قيصر” بقرشين صاغ في اليوم! وطار الصبي فرحا بهذه الثروة، فقد استطاع أخيرا أن يضمن كل يوم ثلاثة أطباق من الفول ورغيف خبز مقابل أن يقف واضعا يده على سيف فوق خشبة المسرح طوال العرض ولا ينطق بكلمة واحدة.

كومبارس صامت
ولم يكن الكومبارس الصامت أنور وجدي يجد بعد انتهاء العرض مكانا يلجأ إليه للنوم، فعقد صداقة مع بواب مسرح رمسيس الذي كان يسمح له بالدخول بعد خروج آخر الممثلين قرب الفجر لينام ويغطي جسده بألواح الخشب في عزّ البرد.
واستمر أنور في رحلته صامتا لا يحق له إلا أن يأكل دون احتمالات لملابس جديدة أو منزل يأوي إليه، لكن الطعام كان عزيزا للغاية لدرجة أنه عاد مرة أخرى إلى مصطفى أمين يطلب منه أن يكتب عنه ليرتفع أجره إلى خمسة قروش، لكن الكاتب الكبير محمد التابعي رفض نشر المقال في مجلة “آخر ساعة” متسائلا عن “أنور وجدي” هذا، وكيف ينشر عن كومبارس؟!
لكن أجر أنور ارتفع إلى خمسة قروش ثم عشرة، فقد كان يحفظ أدوار كل الممثلين والممثلات في الرواية ويفرح كثيرا إذا غاب أحدهم، حتى إنه في إحدى ليالي العرض غابت ممثلة صغيرة، ولم يجد يوسف وهبي بديلا لها، فارتدى أنور ملابس امرأة ووضع المكياج وقام بأداء الدور، ولم يعرف الجمهور يومها أن الفاتنة التي كانت على خشبة المسرح هي أنور نفسه.
كان أنور يندفع كشلال هادر باتجاه أحلامه الفنية لا يعنيه إذا تحوّل إلى نار تأكل نفسها، حتى إنه مع بدايات عمله في السينما تقاضى ستة جنيهات لأول مرة في حياته فاشترى بها ثلاث بدلات، وكان يؤمن بالأناقة سبيلا للوصول إلى أحلامه حتى إنه كان يقول دائما: سأصعد سلم المجد عن طريق “الترزي”.
وفي الليلة نفسها التي دفع خلالها الجنيهات الستة للترزي أُصيب أنور وجدي بحالة إغماء وسقط في شارع عماد الدين، فاجتمع حوله المارة واقترح أحدهم نقله إلى أقرب مستشفى، وفيما يتم نقله أفاق متسائلا عن المكان الذي يحملونه إليه، فقال أحدهم سننقلك للإسعاف، فردّ: لا..انقلوني لأقرب مطعم.
الفتى الجائع
وقد حفظ نادل مقهى الفيشاوي ذلك الفتى الذي يعمل ممثلا ويأتي لينام على أحد المقاعد دائما، فكان يطرده في البداية، لكنه أشفق عليه فيما بعد فأصبح يتركه لساعات قليلة ثم يقوم بطرده بعد انصراف رواد المقهى. ورغم كل ذلك كان صمود أنور وجدي بحثا عن أحلامه لا يهتز.
وكان أنور المطرود من منزل أبيه يلتقيه أحيانا، فيشفق الأب على ابنه فيدعوه إلى البيت، وحين يصل تمتد مائدة الطعام التي كان أنور يلتهمها كصقر جارح، بينما والده ينصحه بالابتعاد عن الفن الذي حوّله إلى متسول، وكان الفتى الجائع يبدي موافقته أثناء الطعام، وحين ينتهي يعلن العصيان فيُطرد مرة أخرى.
أما حبيبته “نيلي” عاملة المانيكير التي كانت تقيم في “غمرة” بالقاهرة، فقد كان يحلو له أن يزورها ثلاث مرات يوميا في مواعيد الطعام، ولكن غيرتها الجنونية كانت تصور لها أنه يأتي من أجل جارتها، فكانت تتشاجر معه حتى طردته، فعاد إلى الجوع مرة أخرى، وكانت أقصى أحلام أنور في هذه الفترة أن يصل راتبه إلى خمسة عشر جنيها لينفق منها عشرة جنيهات على ملابسه وثلاثة على الطعام واثنين للسكن.

أحلام في سماء هوليود
ورغم قسوة الأرض كان الفتى يحلق بأحلامه في السماء.. سماء هوليود. وقد حدث مرة أن قرر يوسف وهبي أن يسافر إلى أمريكا بأحد عروض فرقة رمسيس، واختصارا للمصاريف قرر أن يصطحب كبار الممثلين فقط، وعلم أنور وجدي فسارع إلى يوسف وهبي يلحّ عليه في الطلب، لكنه رفض فبكى أنور، فاشترط يوسف وهبي عليه أن يعمل ممثلا وفراشا ونجارا وفي إدارة المسرح أيضا ولا يتقاضى أجرا، فوافق الفتى الحالم وطلب أن يأكل وينام فقط، لأنه كان يتصور أن فيه شبها كبيرا بمعبود النساء في أمريكا أيامها “روبرت تايلور”، وكان يتوقع أنه فور أن تطأ قدماه أرض أمريكا ستسارع إليه هوليود، لكنه اكتشف الحقيقة هناك فعاد إلى البؤس والفقر والتشرد راضيا إلى حين.
وكانت زينب صدقي نجمة المسرح القومي تقيم ولائم لكبار الممثلين والصحفيين، فدعته في إحداها وذهب فرحا لأن وجبة مجانية بانتظاره، وأثناء الطعام تساءلت زينب عن الصحة والمال وأيهما أهم، فكان أن قفز الشاب أنور وجدي محتجا متسائلا “صحة إيه يا ست زينب”؟ ثم جلس قائلا “يارب نصف مليون جنيه وسرطان”، فصرخت زينب في وجهه “اسكت يا مجنون”. وسكت المجنون، لكن الله استجاب الدعاء، فقد مات أنور وجدي مصابا بالسرطان وثروته نصف مليون جنيه.
وكان دعاؤه إلى الله هو البداية للفصل الثاني في ميلودراما أنور وجدي الإغريقية، وبدأت تنهال عليه أدوار الفتى الشرير والنصاب والمحتال في السينما حتى إن أي مخرج يقرأ رواية ويجد فيها دورا شريرا كان يحجزه فورا لأنور وجدي. وابتسمت الدنيا وفرح أنور الذي لم يرَ حتى الآن أنيابا خلف الابتسامة، وتزوج من الممثلة إلهام حسين، ثم طلقها لأنه لم يجدها “تصلح زوجة مليونير”.
ولم يقتصر أنور على العمل بالتمثيل، لكنه عمل مخرجا وكاتب سيناريو، وقد كان مساعدا للمخرج الراحل كمال سليم في فيلم العزيمة عام 1939، وأسس شركة إنتاج بعد أن طارده المنتجون حيث نجح في أدوار الفتى الأول. وكان المتعهدون العرب يوقعون على أي فيلم يرون في أوراقه عقدا لأنور وجدي.
وفي عام 1944 شارك يوسف وهبي بطولة فيلم “غرام وانتقام”، وأنجز في تلك الفترة عددا من الأفلام التي جعلت نجمه يلمع بسرعة شديدة، لكنها فيما بدا كانت النبوءة بصعود الشهب وسقوطها بنفس سرعة الصعود. ورغم ذلك فقد شكّل في حينه ظاهرة خاصة في عالم التمثيل، فقد ظل الشاب المولود في 11 أكتوبر/تشرين الأول 1904 فتى الشاشة الأول بلا منازع، وعمل في معظم المهن السينمائية، وكان أول عمل من إخراجه هو “ليلى بنت الفقراء” عام 1954.

بين ليلى مراد وليلى فوزي
وأحبّ أنور وجدي ليلى مراد بجنون، وتقدم للزواج منها ورفضته، لكنه طاردها، فاشترطت عليه للقبول بالزواج منه أن تعمل مع المنتجين كافة وليس معه فقط، على أن يدفع أجرها مقدما في حالة العمل معه وأن يظل حسابها في البنك مستقلا عن حسابه. وبعد الزواج كتبت الصحف عن أسعد زوجين في العالم، وكان الفتى الذي بدأ جائعا ومفلسا أصبح يعيش مثل أصحاب الملايين، ويبدو على بيته الفخامة والأناقة، لكنه كان كمن يخفي دمعة حزينة خلف كل ابتسامة، وكان يعيش كشخص يطارده الجوع رغم الغنى الظاهر عليه، ويتصور أن كل شيء في حياته مؤقت؛ الثروة والنجومية، كان كراكب قطار اقترب من محطة الوصول.
وفشل في إخفاء تعاسته بالزواج من ليلى مراد التي حاول أن يجعل منها امرأة خاصة به تسمع له وتطيعه، ويصبح هو الآمر الناهي لها، وأن يرزق منها الأطفال، لكنه لم يُنجب، ولم تخضع ليلى مراد لأوامره بالعمل معه فقط، وحاول أن يضغط عليها لأقصى حد، فطلقها لتخضع، لكنه لم يصبر على فراقها فركع، ولم يحتمل الركوع فطلقها نهائيا، وجُنّ حين تزوجت فطين عبد الوهاب وأنجبت منه بعدما كان يظن أنها عاقر.
كان أنور وجدي غيورا على ليلى مراد الأنثى والنجمة، كان يريدها “الست أمينة”، وفي الوقت نفسه يرغب في أن تكون نجمة التمثيل التي تدرّ على شركته الأرباح. وكان يقول دائما “لا أستطيع أن أعيش معها، ولا أستطيع أن أعيش بدونها”. وحاول “أنور وجدي” أن ينسى، واشترى أرضا ليبني عليها عمارته الشهيرة وسط القاهرة، وما أن بدأ البناء حتى هاجمته الآلام.. آلام المرض الخبيث، واحتار الأطباء كيف يخبرونه، وأخبروه بنصف الحقيقة، فقد فقالوا إنه مصاب بفشل كلوي، ولكنه أصيب بسرطان في الكليتين.
ووقع في الحب من جديد، عاد إلى قصة حزينة كان قد نسيها، حيث بدأت العلاقة بينه وبين الفنانة ليلى فوزي عام 1944، وكان يكبرها بعشرين عاما، وحين بدأت هذه العلاقة كانت ليلى قد ظهرت في نحو أحد عشر فيلما، بينما كان أنور يتنقل بين الأدوار الثانية ولم يصل للبطولة بعد. وتقدم لطلب الزواج منها لكن والدها رفض وزوّجها لعزيز عثمان الذي كان يكبرها بثلاثين عاما.
دارت الأيام وطُلقت ليلى فوزي وطَلق أنور وجدي ليلى مراد، فكانت عودة الحب القديم حيث التقى أنور وليلى عام 1953 في فيلم “خطف مراتي” مع صباح وفريد شوقي. ورغم مرض أنور وجدي الذي ظهر به عام 1954 فإن الزواج بينه وبين ليلى فوزي تم، وسافرا لقضاء شهر العسل في أوروبا بعد الزواج بفترة قصيرة، وعادت ليلى فوزي برفقة صندوق يضم جثمان أنور وجدي.

“خذوا فلوسي وأعيدوا صحتي”
وكان قد عاد إلى “الفول النابت” مع بدايات اكتشاف مرضه، وكان يقول “كنت فقيرا لا أجد ثمن الرغيف، وكانت صحتي حديد، وعندما انهالت عليَّ الفلوس أصبحت لا أستطيع تناول لقمة خبز”. ولم يتحدث أنور عن المستقبل بعد إصابته بالمرض، كان يستعرض ذكريات الماضي كأنه يستعد للرحيل، وكان يصرخ “سأعطي نصف مليون جنيه لمن يعطيني كلية.. خدوا فلوسي وأعيدوا لي صحتي وشبابي”.
وأصابته هستيريا بعد أن انكشفت أمامه خدعة الحياة، فكان يتصور أنه لن يعيش فقرر إنفاق كل أمواله، وفي غمرة المتعة يتصور أنه استردّ قواه، وكان سلوكه أشبه بمحكوم عليه بالإعدام ينتظر التنفيذ ويأمل تأجيله. كان طيبا يثور ويغضب ويبكي ثم يضحك، يُهدد بقتل ناقدٍ هاجم أحد أفلامه ثم يدعوه للعشاء. كان طيبا لكن الحرمان ترك آثارا لا تُمحى على نفسه وجسده وعلى حياته كلها.
ورغم الرحيل بقي أنور وجدي الممثل الظاهرة والمخرج الظاهرة والسيناريست المختلف ورجل صناعة السينما ورائدها الذي نقلها إلى مرحلة البلوغ الصناعي، وبقي الإنسان والعبرة والإرادة التي تمت حتى اللحظة الأخيرة.