يورجوس لانثيموس .. عرّاف الرعب المُنتظر
فاطمة نبيل

“لا أعرف كيف أصنع فيلما مباشرا” هكذا يصرح المخرج اليوناني يورجوس لانثيموس لجريدة “الإندبندنت” الإنجليزية، بعد عرض فيلمه الأخير “مقتل غزالة مقدسة” واحد من أهم أعمال العام الماضي 2017، وأكثرهم إثارة للجدل، والحاصل على جائزة أحسن سيناريو من مهرجان كان في دورته الأخيرة.
لانثيموس المولود في آثينا عام 1973، والذي ربته والدته وحدها حتى توفيت وعمره 17 عاما، وبعد عامين ألتحق بمدرسة “ستافراكوس” لدراسة السينما، يصف نفسه في تلك الفترة أنه لم يكن مشاهدا سينمائيا محترفا، وكان “بروس لي”، و”آنديانا جونز”، والمخرج الأمريكي “جون هيوز” هم نجومه المفضلين. لكن التغيير الأكبر لأفكاره السينمائية جاء عقب دراسته لأعمال كلا من أندريه تاركوفسكي، وروبرت بريسون.
ستة أفلام روائية طويلة (يُنتظر أن تصبح سبعة خلال العام الحالي 2018 مع عرض فيلم The Favourite) هي حصيلة أعمال المخرج اليوناني بدأها عام 2001 بفيلم My Best Friend، وKinetta عام 2005، لكن شهرته الأكبر جاءت مع فيلميه Dogtooth (2009)، وAlps (2011) ثم فيلميه الأشهر الناطقين بالإنجليزية The Lobster (2015)، وThe Killing of a Sacred Deer (2017).
يقول تاركوفسكي في كتابه الأيقوني “النحت في الزمن”: “بإمكاننا التعبير عن مشاعرنا فيما يتعلق بالعالم من حولنا إما بالطرق الشاعرية أو بالمعاني الوصفية، أنا أفضّل أن أعبر عن نفسي بشكل مجازي وليس رمزيا”.
وإذا ما حاول الدارس لأعمال لانثيموس أن يستخلص سمات يمكن أن تكون مشتركة في كل هذه الأعمال؛ أولها بالطبع هي الحبكة بالغة التعقيد التي يبني عليها الفيلم، في Kinetta يروي الفيلم قصة فندق خالي من النزلاء تقوم فيه خادمة الفندق ورجل مهووس بسيارات البي إم دبليو وثالثهم رجل يعمل في متجر للصور يقرروا معا أفلمة وتصوير إعادة النزاعات بين الرجل والمرأة.
هذه الحبكة ستتطور لا حقا في أعمال أكثر نضجا وحرفية للانثيموس، مؤطرة تحت سؤال هو المُلح في كل أعماله وهو “البحث الفطري للإنسان عن معنى للحياة”.أما الشخصيات منزوعة الأسماء، والكاميرا الثابتة إلا نادرا، فسوف تكون عمودا رئيسيا في سينما لانثيموس لاحقا.
في Dogtooth نحن أمام قصة أكثر تعقيدا وغرابة ورعبا، فالأب هنا رمز مؤسسة العائلة التي ستصبح محل انتقاد كل أفلام لانثيموس التالية – يقرر عزل أطفاله الثلاثة عن العالم حتى تخطيهم أعوامهم العشرين، فارضا عليهم معاني آخرى لكل شئ حتى تفقد اللغة ذاتها معناها المتفق عليه، ويشبّ الأبناء غير مدركين لمعاني كلمات مثل بحر، ونزهة برية، وطريق سريع، وبندقية، معتقدين أن المطرب الأمريكي الأشهر فرانك سيناترا هو جدهم الراحل، ويصبح خروجهم من المنزل رهنا بفقدانهم واحدا من أنيابهم ثم نموه ثانية.
يصبّ لانثيموس لعناته على هذه السلطة الأبوية المتطرفة، وعلى هذا الأب الحاضر – حتى بصورته – في كل ما يخص الأبناء، حتى ممارستهم الطبيعية للجنس، ورغم هذا الحضور الطاغي فإن هذا لم يمنع الأبناء من اكتشاف ذواتهم، وأجسادهم، والممارسات المثلية، وأفلام السينما، وقد جاء خلاصهم على يد فتاة تدعى – للمفارقة المضحكة – كريستين.
من خلال شريط صوتي خال من الموسيقى التصويرية، وكاميرا ثابتة في أغلب المشاهد، واستخدام اللقطات الطويلة دون تقطيع يُذكر، ومكان واحد تقريبا هو المكان الذي تدور فيه معظم الأحداث، وغلبة الأداء الآلي على الممثلين يظهر نقد لانثيموس للمؤسسة العائلية والمؤسسة الدينية.
لكن هذا لا يمنعه أن يبدي شكّه في قدرة البشر على التخلص من المتحكمين في مصائرهم باسم الأبوة، أو الدين. فالابنة الكبرى زعيمة حركة التمرد في هذا المنزل غريب الأطوار، تترك المنزل هربا لتختفي بالسيارة، ما يعني – ولو قليلا – أنها لاتزال تؤمن بأساطير الأب.
مرة آخرى العائلة في Alps لكن هذه المرة عن فريق يجتمع على إحلال أفراده محل المتوفين حديثا لدى عائلاتهم.العائلات في أوروبا الحديثة التي تستخدم كل التقنيات التكنولوجية المعروفة، بينما تئن عمدانها من فرط الوهن.
في Alps تذوب الحدود الفاصلة عند الممرضة وهي واحدة من فريق المتطوعين المذكور، فتخلط بين حياتها الحقيقية والشخصيات التي تؤديها ولا فارق هنا فالبؤس واحد، ولا اختلاف كبير بين بطلة تنس راحت ضحية حادث سيارة، وزوجة شابة توفيت بمضاعفات مرض السكر فالكل واحد، والجميع على استعداد أن يستبدل آخرين بأفراد عائلته الراحلين ما داموا سيرددون نفس الحوار المحفوظ مسبقا.
هذا الاستعذاب النفسي للألم والعنف لا يتوقف عند حدوده المعنوية فحسب- سيبلغ قمته في The Killing of a Sacred Deer – بل يتخطاها حد استعذاب الألم والعنف الجسدي. فالبطلة (الممرضة) تخيط جرحها بيدها، وتحاول أن تحل محل أمها جنسيا في حياة الأب الوحيد، وتحتج على طردها غير المبرر من أداء شخصية بطلة التنس، إذ لماذا تُطرد وهي تحفظ حوار الشخصية عن ظهر قلب!
ومرة أخرى نجد اللقطات المتوسطة والبعيدة، والتقطير في استخدام القطع المونتاجي، والأداء الآلي لممثليه الذين يشعرون بالكاميرا في كل لحظة لهم. وإذا كان لانثيموس هنا قد أصبح أكثر طرحا للأسئلة فإنه أصبح أيضا شحيح الإجابات، غير معني بها، الأمر الذي سيصل لذروته في The Lobster، و The Killing of a Sacred Deer.
يقول لانثيموس في حواره السابق ذكره “أريد أن يشتبك المتلقي مع الفيلم، أحب أن أبني الفيلم بشكل يشعره بالقليل من عدم الراحة، مع ضمانة استمتاعه به أيضا، وافتتانه بتفسير معانيه، آملا أن يبقى معه لاحقا رغبة مُلحة في التفكير فيه”.
في The Lobster يجرّد لانثيموس الحب والعلاقات العاطفية من معانيها التي أكسبتها إياها الحضارة، ويعيدها إلى أصلها الأوليّ قبل التهذيب.
إننا إزاء بشرا إذا لم يعثروا على شريكهم العاطفي خلال 45 يوما تحولوا إلى حيوانات، أما الأزواج السعداء فلهم كل امتيازات المجتمع الحديث. وتصبح ثنائية الفندق (حيث يقيم العزّاب) في فتراتهم الانتقالية في مقابل الغابة التي يفر لها من فشلوا في إيجاد شركاء لهم هي المعادل الموضوعي لما يراه لانثيموس في العلاقات العاطفية والعائلية الحديثة وإن أنكرنا.
هذا الهاجس المُلح عن انهيار المؤسسة العائلية بشكلها الحالي يتبلور في فيلمه الأخير (The Killing of a Sacred Deer).
هنا نحن بصدد معالجة عصرية لأسطورة إفيجينيا التي قتلها والدها تكفيرا عن خطأه بقتل غزال مقدس.
وأما الغزال هنا فوالد مارتن الذي فقد حياته في غرفة عمليات الجراح ستيفن، وأصبح على ستيفن أن يقدم أحد أفراد أسرته فداءً للثأر المزعوم بعد أن حلّ بهم مرضا غير قابل للتفسير أو العلاج، ولا ينشغل لانثيموس أصلا بتفسيره، مازجا الواقع بالغرائبي، غير معنيا بالتفاسير والاستنتاجات.
لكن الكاميرا الثابتة التي كانت دوما سمة مميزة لأفلامه تصبح متحركة عصبية تراقب من أعلى أو من أسفل الشخصيات موحية بأن هناك شئ ما خفي أو غيبي عصيّ على التفسير أو الفهم. مستخدما إضاءة طبيعية وأماكن طبيعية فنحن هنا في أوروبا الحديثة، أو أمريكا، أو إسكندنافيا، أو أي مكان يحفل بالتكنولوجيا الحديثة وتعاسة الإنسان.
أما ممثليه فأدائهم خالي من كل تأثير عاطفي محتمل على المشاهد، متبعين طريقة آلية دوما في نطق الحوار تكسر الحائط الرابع مع المشاهد. في كل أعماله كان لانثيموس مشغولا بالأسرة، وبآثر الحضارة عليها، بالجنس، بالدم، بفكرة العقاب الجسدي المأخوذ من الميثولوجيا الإغريقية.
في كل أعماله يشير لانثيموس إلى رعب أكثر سوف يجئ، مؤسسا مدرسة سينمائية جديدة لا تقل عن سينما تاركوفسكي، و أنطونيوني، وبازوليني ممن بشروا بالرعب قديما.
