ستيف ماكوين.. أيقونة هوليود ذو الوجه الواحد

عُرفت السينما الأمريكية طوال تاريخها بتقديم النجوم على مستويات مختلفة، ما بين التمثيل والإخراج والتصوير، لكن يبقى ستيف ماكوين أيقونة السينما الأمريكية بحق على مر العصور، فلا يزال هو مرجع فن التمثيل للشباب الآملين في البحث عن فرصة داخل عالم هوليود.

ماكوين.. ملك الجاذبية

حصل ماكوين على الكثير من الألقاب التي لم يحصل عليها غيره من أبناء جيله أو الأجيال التالية له، من بينها “ملك الجاذبية” (The King of Cool) حيث كان يتمتع ماكوين بالجاذبية وليس فقط الوسامة التي كان يتمتع بها معظم النجوم الذين عاصروه، كما حصل على لقب “رجل على حافة المخاطر” (Man on The Edge) حيث كان يعشق رياضة التسابق بجميع أنواعها عشقا وصل حد الإدمان.

 ظل ماكوين النجم الأعلى سعرا طوال فترة عمله بالسينما حتى مع الأفلام التي لم تلق النجاح المُتوقع منها، واحتفظ بمكانته المتميزة جدا بين أبناء جيله وبشهرته حتى وفاته في نوفمبر 1980.

ستيف ماكوين الذي جسد أدوارا مختلفة طوال حياته في السينما الأمريكية، كان أيضا بطلا حاضرا في الأفلام الوثائقية والتقارير التلفزيونية التي تناولت حياته الشخصية بالرصد أو حياته العملية بالتحليل.

من أهم هذه الأفلام “ستيف ماكوين.. رجل على حافة المخاطر” (Steve McQueen.. Man On The Edge) إنتاج عام 1999 للمخرج جين فيلدمان. ويعد هذا الفيلم مثالا للفيلم الوثائقي التقليدي الذي يعتمد بشكل أساسي على شهادات من عاصروا ماكوين ومن تعاملوا معه عن قرب، مع تدعيم هذه الشهادات بما يناسبها من الأرشيف الفوتوغرافي والسينمائي لماكوين.

كما هو الحال مع فيلم “ستيف ماكوين.. جوهر الجاذبية” (Steve McQueen -The Essence of Cool) إنتاج عام 2005 من إخراج ميمي فريدمان الذي دعم الفيلم ببعض المقابلات مع بعض الشخصيات التي لم تكن موجودة في الفيلم الأول والتي أثرى وجودها جوانب جديدة من شخصية ماكوين لم تكن ظهرت في الفيلم السابق بشكل واضح مثل ظهور الممثل أليك بولدوين الذي عرض وجهة نظره كممثل في موهبة ماكوين التمثيلية والعناصر المميزة له كممثل.

أما فيلم “أنا ستيف ماكوين” (I Am Steve McQueen) إنتاج عام 2014 للمخرج جيف رينفرو فركز بشكل كبير على جانب هام من جوانب شخصية ماكوين وهو عشقه للسباقات وقيادة الدراجات البخارية وسيارات السباق حتى إن معظم لقاءات الفيلم تمت في الكراج الخاص بمقتنيات ماكوين من دراجات بخارية وسيارات سباق.

ولكن يعتبر آخر فيلم تم تقديمه عن ماكوين “ستيف ماكوين الرجل وسباق لومان” (Steve McQueen The Man & Le Mans) إنتاج عام 2015 والذي شهد عرضه العالمي الأول في قسم الأفلام الكلاسيكية بمهرجان كان السينمائي الدولي عام 2015 ويعد أكثر هذه الأفلام اختلافا وتفردا حيث خصص المخرجان جابريل كلارك وجون ماكينا الفيلم لعرض تجربة ماكوين وإصراره على صناعة فيلم كامل عن لومان سباق السيارات الفرنسي الأشهر على مستوى العالم الذي صادف إنتاجه الكثير من المصاعب على صعيد التنفيذ والتصوير والإنتاج وكبد ماكوين خسارة مادية فادحة حيث تصدى لإنتاج الفيلم عبر شركة الإنتاج الخاصة به في بادئ الأمر.

ماكوين.. طفل غير مرغوب فيه

نشأ ماكوين في كيان أسري شديد الاضطراب والتخبط لأم صغيرة جدا في السن وفقيرة، لم تكن ترغب في الإنجاب، لذلك فقد كان ستيف بالنسبة لها شخصا غير مرغوب فيه يذكرها دائما بحجم الخطأ الذي ارتكبته في حق نفسها واعتقدت أنه السبب الرئيسي والمباشر لبؤسها وشقائها في الحياة.

ترك والد ستيف والدته ربما قبل أن تنجبه ورحل، ولم يعلم هو أو أمه عنه شيئا، فتزوجت الأم من رجل آخر رفض بقاء ستيف معهم في المنزل، فانتقل للعيش مع عمه كلاود الذي انتشله من مصير بائس كان ينتظره وعاش معه ستيف أجمل سنوات طفولته وظل يعترف بفضله عليه.

 طُلقت الأم وعادت للصورة مجددا بعد أن أدمنت الخمر ثم سرعان ما أودعت ستيف دارا لتربية المراهقين المتمردين، فشعر ستيف بأن حريته سُلبت منه لتظهر عليه أولى بوادر التمرد. فهرب من هذه الدار عدة مرات إلى أن قرر الالتحاق بقوات المارينز بالجيش الأمريكي كي يهرب من هذه الحياة ويبدأ مرحلة جديدة من حياته.

فلسفة ماكوين الخاصة تمثلت عن فن التمثيل بأنه ليس المبالغة في الأداء وإنما البساطة والهدوء والثقة والفهم العميق لدوافع الشخصية النفسية

من المارينز إلى السينما

أثرت تلك النشأة المضطربة التعيسة على شخصية ماكوين، فقد ظل يبحث في كل من يقابلهم من رجال يكبرونه في السن عن الأب الذي لم يره، وهو ما أثر بشكل واضح على علاقته مع المخرجين الذي عمل معهم.

 فأنجح أفلامه “العظماء السبعة” و”الهروب الكبير” وكانا من إخراج المخرج الشهير جون ستورجيس الذي استطاع أن يحتويه وأن يكون له بمثابة الأب الذي افتقده في طفولته وصباه.

كما جعلت تلك النشأة ستيف يعيش في جو من الانعزالية والشعور بالوحدة دفعه إلى الزواج في سن مبكرة والاستقرار وتكوين أسرة ينعم من خلالها بالدفء الأسري الذي حُرم منه في طفولته.

 البداية الصعبة التي صبغت حياة ماكوين خلقت روح التمرد عليها، ليصبح شخصية ناجحة ومتفردة، لذلك فإنه أتقن كل شيء أحبه بداية من فن التمثيل وحتى الهوايات، فلم يرد أن يكون مجرد شخص عادي كحال الكثيرين الذين يخرجون من نفس البيئة التي خرج منها.

وبعد أن حصل ماكوين على الاستقلالية من خلال التحاقه بالمارينز شعر أنه لابد أن يمتهن مهنة تجعله محط أنظار الجميع، لذلك أدرك سريعا أن غايته لن تحققها مهنة سوى مهنة التمثيل، فانتقل إلى نيويورك والتحق بأستوديو الممثل الذي كان يشرف عليه “لي ستراسبرغ”.

 تطور أداء ماكوين سريعا فأذهل كل من تعامل معه في هذه الفترة، وقدم أول أدواره التمثيلية في المسلسل التلفزيوني “شخص ما هناك يحبني” (Somebody Up There Likes Me) إنتاج عام 1956.

وبعد تلك التجربة الأولى التي حققت له انتشارا لا بأس به، أخذ ماكوين مهنة التمثيل على محمل الجد وبدأ التخطيط لمستقبله المهني الذي ضم أفلاما تعتبر علامات في تاريخ السينما بشكل عام وفي تاريخه المهني بشكل خاص منها “العظماء السبعة” (The Magnificent Seven) إنتاج عام 1960 وفيلم “الهروب الكبير” (The Great Escape) إنتاج عام 1963، والفيلمان من إخراج المخرج جون ستورجيس.

استطاع ماكوين عبر هذين الفيلمين أن يثبت نفسه وأن ينتزع الصدارة ممن سبقوه إلى عالم النجومية في هوليود مثل يول براينر وجيمس غارنر وتشارلز برونسون وبول نيومان، وذلك عن طريق الاجتهاد الشديد في تجسيد الشخصيات بكل تفاصيلها، فأكثر ما ميز ماكوين على مدار مشواره المهني هو قدرته على أن يجعل الشخصية السينمائية شخصية حية وحقيقية.

 

وليس أدل على هذا أكثر من مشهد “العربة” مع النجم يول براينر في فيلم العظماء السبعة وهو المشهد الذي لم ينطق فيه بحرف واحد ولكنه استطاع بعدة حركات قام فيها بتجربة البندقية التي يحملها والرصاص الذي بداخلها أن يسرق الاهتمام من يول براينر نجم وبطل الفيلم الذي كان يحتل صدارة المشهد.

كما فعل في فيلم الهروب الكبير حينما انسحب من الفيلم بعد أن أيقن أن دوره غير مؤثر في مسار الأحداث ولم يعد لاستكمال الفيلم إلا بعد أن اشترط أن يستأجر كاتب سيناريو ليُعيد كتابة دوره من البداية، وهو ما حدث فعلا، ثم اشترط أيضا إضافة مشهد هروبه على الدراجة البخارية الذي قام بتنفيذه بنفسه لتكون أطول وأشهر مطاردة بالدراجة البخارية في تاريخ السينما العالمية.

التمثيل بين المبالغة ورد الفعل

تمثلت فلسفة ماكوين الخاصة عن فن التمثيل بأنه ليس المبالغة في الأداء وإنما البساطة والهدوء والثقة والفهم العميق لدوافع الشخصية النفسية التي ستحدد ردود أفعالها. فكان يقول دائما إنه ليس ممثلًا ولكنه رد فعل، ولذلك وفي كل أدواره تقريبا كان يُصر على إلغاء الحوار أو تقليله ويكتفي فقط بالتعبير عن الحوار المكتوب عبر نظرات عينيه.

كما كان يتم الاستشهاد بمشاهد تمثيلية بعينها أداها ماكوين في أفلامه كدليل على مدى فهم الممثل للشخصية التي يؤديها خاصة في تعامله مع الحركات الجسدية والجسمانية للشخصيات على اختلافها وتنوعها مثل مشاهده في فيلم “بوليت” (Bullitt) إنتاج عام 1968.

 

قدم ماكوين تجربة تمثيلية مختلفة وشديدة الخصوصية في فيلم “حصى الرمال” (The Sand Pebbles) إنتاج عام 1966 من إخراج روبرت وايز حيث قدم شخصية ضابط بحري يعشق مهنته إلى حد التقديس، الأمر الذي جعله يقضي معظم وقته بصحبة محرك السفينة التي كان يعمل عليها، هذا الفيلم هو الفيلم الوحيد الذي رُشح عنه ماكوين لجائزة الأوسكار وجاء في حيثيات الترشيح “أنه أبدع كممثل في تجسيد قصة تعلق رجل بآلة”.

يُمثل فيلم “قضية توماس كراون” (Thomas Crown Affair) إنتاج عام 1968 للمخرج نورمان جيوسون؛ نقلة في مسيرة ماكوين السينمائية حيث شكل تغييرا ملحوظا في نوعية الأدوار التي أداها ماكوين. فبعد أن اشتهر كبطل لأفلام الغرب الأمريكي يظهر في هذا الفيلم المعاصر كرجل ثري وأنيق يلعب الشطرنج في بيئة مختلفة تمامًا عن بيئات أفلام الغرب الأمريكي، وهي الحركة التي اعتاد أن يقدمها، حتى إن مخرج الفيلم عندما أبدى له ماكوين رغبته في تقديم الدور قاله له “أنت لم ترتد ربطة عنق في فيلم من قبل فكيف ستؤدي هذا الرجل؟!”، وبالفعل أصر ماكوين على أداء هذا الدور وأثبت للجميع أنه قادر على أداء مُختلف الأدوار، ومن بعدها تنوعت أدواره وقدم أدوارا لم يكن قدمها من قبل مثل ضابط الشرطة والمحقق.

لومان”.. حلم تحول إلى كابوس

يعتبر فيلم “لومان” (Le Mans) إنتاج عام 1971 من إخراج مايكل ديلاني علامة فارقة في تاريخ ماكوين المهني، فقد أراد أن يصنع فيلما مختلفا ومغايرا يسجل فيه سبقا في تاريخ السينما العالمية عن رياضة سباق السيارات عبر رصد تفاصيل أشهر سباق سيارات على مستوى العالم.

 رفض ماكوين أن يصنع هذا الفيلم بالطريقة التقليدية التي عادة ما تتصدر فيها قصة حب تجمع بطل السباق مع فتاة جميلة وأن يأتي السباق في خلفية قصة الحب، ولكنه أصر على أن يحتل السباق والسائقون وكل ما يحدث في هذا السباق من إثارة وخطر مقدمة الفيلم، وأن يأتي أي شيء آخر على الهامش.

 كان ماكوين يريد أن يظهر هذا الفيلم بمثابة فيلم وثائقي عن السباق وعن هذه الرياضة بشكل عام، وأن يدشن من خلاله نوعا سينمائيا جديدا لم يكن مطروقا من قبل، ولكن تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن.

 تعرض الفيلم للكثير من الأزمات بداية من عدم وضوح سيناريو الفيلم، فلم يتمكن أهم وأكبر كتاب سيناريو هوليود في ذلك الوقت من كتابة فيلم على هذا القدر من الاختلاف ولا يخضع لتقاليد هوليود الصارمة في كتابة السيناريوهات، يضاف إلى ذلك طول فترة التصوير التي زادت ثمانية أسابيع عن المدة المقررة نتيجة للحوادث الكثيرة التي حدثت أثناء تصوير الفيلم، وأخيرا إفلاس ماكوين حيث تصدى لإنتاج الفيلم من ميزانيته الخاصة في البداية ليبدأ تقريبًا من الصفر بعد هذا الفيلم، كما شهد الفيلم بداية اضطراب علاقته الزوجية ثم انفصاله عن زوجته نيل أدامز.

ماكوين “الطفل” لم يكبر

يبدو أن طفولة ماكوين “الصعبة” ظلت ملازمة له طوال حياته، حتى بعدما أصبح نجما يعرفه الجميع، لاسيما وأن تلك المرحلة رسمت ملامح شخصيته التي اتسمت بنوع من التعقيد الذي لم يمنعه من استمرار رؤية العالم بأعين الطفل.

 طباع ماكوين اتسمت بعدم الاتزان أيضا، تراه هادئا أحيانا، وكثيرا ما تنتابه حالة من الحدية والجنون، مُحب للحياة خاصة حياته الأسرية في بداية زواجه وحياته المهنية قبل الشهرة.

كان رجلا مُحبا للإثارة والمخاطر، الأمر الذي دفعه لإدمان الاشتراك في سباقات الدراجات البخارية والسيارات إلى أن تعرض أحد السائقين المحترفين الذين شاركوا في فيلم لومان إلى حادث مُفجع أثناء تصوير الفيلم أدى إلى بتر قدمه، فدفع هذا الحادث ماكوين لترك هذه الرياضة الخطيرة واتجه إلى تربية الخيول حيث ذهب إلى مدينة ريفية بعيدة وسكن منزلا بسيطا جدا تحيط به مزرعة خيول كان يقضي بها معظم وقته حتى دهمه مرض سرطان الرئة قبل وفاته بعدة أشهر.

ماكوين الوفي لا يتقبل الخيانة

الولاء الشديد إلى أصدقائه وعدم تقبله للخيانة خاصة من المقربين منه كانت أهم صفة أكد عليها كل من عاشروا ماكوين وتعاملوا معه، وهو السبب الذي دفعه إلى قطع علاقته نهائيا بالمخرج جن ستورجيس المخرج الذي قدمه في أهم أدواره التي صنعت منه نجما أيقونيا للسينما، وذلك لأنه ترك فيلم لومان أثناء التصوير نتيجة للتخبط الشديد أثناء تنفيذ الفيلم وضعف سيناريو الفيلم من وجهة نظره، وهو ما اعتبره ماكوين خيانة له ولحلمه بتقديم هذا الفيلم بالتحديد.

 كما قطع علاقته الشخصية وجميع تعاملاته المهنية مع شريكه ومدير أعماله روبرت ريليا أثناء تصوير نفس الفيلم بسبب اتصاله بإحدى شركات الإنتاج الكبرى كي تتولى إكمال إنتاج الفيلم الذي تعدت ميزانية تصويره الميزانية المُقررة له بأكثر من مليون ونصف مليون دولار هو ما اعتبره ماكوين خيانة أيضا.

التنافسية كانت من أهم الصفات التي تمتع بها ماكوين، حيث كان يهتم دائمًا بأن يحتل الصدارة وأن يستأثر بالاهتمام، فكان يهتم بتطوير أدائه التمثيلي، وكان يبذل مجهودًا مضاعفًا حينما كان يشاركه البطولة ممثلون على قدر عال من الموهبة مثل جيمس غارنر الذي شاركه بطولة فيلم الهروب الكبير وداستين هوفمان الذي اشترك معه في بطولة فيلم “بابيون” (Papillon) إنتاج عام 1973.