لوحات شمس الضحى.. مشاهد تُروى بالألوان

الفنانة التشكيلية المغربية شمس الضحى أطاع الله تُعتبر أول فنانة تشكيلية مغربية تتخرج من مدرسة الفنون الجميلة بتطوان سنة 1960

 

المصطفى الصوفي

الممثلة المغربية المتألقة السعدية أزكون تعتدل في جلستها بطريقة بدوية لا تخلو من بساطة ونخوة نساء بلدة “اثنين اشتوكة” المحاذية لمدينة الجديدة، والتي تبعد عن الرباط نحو 170 كيلومترا غربا. ويكاد المشاهد في فيلم “الشعيبية” الذي لعبت فيه أزكون دور البطولة لمخرجه يوسف بريطل وهو يحكي قصة الفنانة التشكيلية “الشعبية” التي تعد إحدى رواد الفن التشكيلي المغربي المعاصر، وأول فنانة مغربية تدخل أعمالها متحف اللوفر العالمي بالعاصمة باريس؛ يكاد المشاهد وهو يتابع أزكون في دور الشعيبية أن يستنشق عطر القرنفل والسواك من ثنايا تلك الأزياء، وكذلك رائحة الأصباغ التي تتهجى بها الفنانة أولى خربشاتها في زوايا وعالم اللوحة.

هذا الفيلم الطويل استقبله العديد من المتتبعين والمهتمين بالفنون التشكيلية المغربية والعالمية بكثير من الترحيب، خاصة أنه غاص في عوالم فنانة تشكيلية انطلقت من بلدة مهمشة إلى أكبر المتاحف والمعارض في العالم، فأصبحت لوحاتها تُباع في المزاد العلني.

الفن التشكيلي كصورة والسينما كصورة أخرى؛ يجمعهما ودّ قديم وعلاقة جدلية يفهم أسرارها الكثير من المخرجين والممثلين المبدعين، خاصة أن الكثير منهم عالجوا هذه الثيمة في أفلام وثائقية تحكي قصص عدد كبير من المبدعين والمبدعات في عالم الرسم والألوان، ومنهم فان غوخ وبيكاسو ودانتي وغيرهم.

 

شمس الضحى.. رسمٌ كأنه تصوير

الفنانة التشكيلية المغربية شمس الضحى أطاع الله التي تنحدر من مدينة القصر الكبير إحدى مدن شمالي المغرب الزاخرة بمؤهلات طبيعية وتاريخية؛ تُعتبر أول فنانة تشكيلية مغربية تتخرج من مدرسة الفنون الجميلة بتطوان سنة 1960.

هي فنانة محبة للفنون برمتها، بما فيها الفنون التي تنتصر لسحر الصورة وجماليتها كشكل من أشكال الإبداع، بهدف بناء عالم من الأشكال والأفكار وتقديمها للجمهور على شكل صورة، بحثا عن ألق توثيق اللحظة برؤية مغايرة وأسلوب فني متميز، وجعلها صورة حيّة لفيلم قصير أو طويل تتعدد تأويلاته وملامحه وأحلامه، ذلك وفق مستوى قراءة الملتقي لتلك اللقطات التي تتناسل وتتكاثر في نفس اللوحة، والتي غالبا لا تتوقف عند معنى واحد لها.

 

من هنا نجد أن الفنانة التشكيلية -التي افتتحت معرضها الفردي مساء الجمعة 4 يناير/كانون الثاني الجاري ويستمر حتى 17 من الشهر نفسه تحت عنوان “جذور” وذلك بعد معارض وطنية ودولية- تحاول أن تقتحم هذا العالم، وهي تدرك أن الفنون بما فيها السينما والفوتوغرافيا والمسرح والموسيقى وباقي أشكال الفنون هي فن واحد، وكل فن من تلك الفنون له نوع من التناص، لأن النص الإبداعي في مجمله هو هجرة للنصوص إلى نص واحد، ومثاقفة بين مختلف النصوص، وبالتالي تكون الجذور التشكيلية لدى شمس الضحى نوعا من الإحالة الفنية والإبداعية إلى الحديث عن الأصل والتاريخ وماضي الإنسان وطفولته ومشاعره. تاريخ توثقه الفنانة التشكيلية في لوحات مختلفة تُمجد في العمق روح المجتمع والعادات والتقاليد والطفولة وأعراس منطقة الشمال، لكن في قالب يغلب عليه الطابع التجريدي والخيالي، وهي طريقة تريد من خلالها الفنانة إشراك المشاهد في فهم اللوحة ومناقشتها والتحاور معها بدل أن تكون اللوحة صورة مباشرة ولا تتعدد قراءاتها.

هكذا تبوح الفنانة التشكيلية بهذا المعطى، لتكون أعمالها وإن كانت ذات مسحة خيالية وتشخيصية رمزية، إلا أنها تحاول أن ترسم بالصورة وكأنها تصور لقطات متتالية ومشاهد من هنا وهناك، تحتفل فيها بالإنسان في مجتمع يعيش الكثير من الانكسارات والأوجاع، ويحاول من خلال تلك المجسمات اللونية أن يتحرر من ربقة ما يقيد حياته بالطريقة التي يريد؛ بحثا عن الحرية.

شمس الضحى تريد من المتلقي في لوحاتها أن يستخدم طاقته الإيجابية لاكتشاف سحر الصورة في كل زوايا الشاشة اللونية التي تبدعها في زمان ومكان محددين

 

بين الفن التشكيلي والسينما.. علاقة جدلية

الأمر هنا الذي تجسده الفنانة في كثير من لوحاتها بأسلوبها الفني الخاص أشبه بفيلم قصير لا يريد أن يقدم حقيقته ونهايته إلى المتلقي بطريقة مباشرة، بل يريد للجمهور أن يتماهى مع كل مشهد على حدة، ويتفاعل معه وينتج أفكارا، وبالتالي تكون لغة الفيلم للوصول إلى الجمهور هي التعبير بالرمز والإشارة، لأنه في نهاية المطاف نوع من الكتابة أو الرسم الإبداعي الجميل بالصورة والضوء والشخوص، وما تجسده وتوثقه الفنانة في لوحتها، حيث المتأمل للوحاتها يجد الكثير من الملامح الآدمية والشخوص الذين يجسدون أدوارا تراجيدية، وإن كانت خيالية فهي تحاكي الواقع.

شمس الضحى في هذا الصدد تريد من المتلقي في لوحاتها -وهي تعبير عن لقطات فيلمية متتالية لأحداث متسلسلة عن حياة إنسان يعيش في عالم خاص- أن يستخدم طاقته الإيجابية لاكتشاف سحر الصورة في كل زوايا الشاشة اللونية التي تبدعها في زمان ومكان محددين، وهي بهذا تصنع الفارق بين باقي الفنانات التشكيليات اللاتي غالبا ما يطرحن مواضيع مختلفة بطريقة مباشرة، يكون من السهل على المتلقي فهم معانيها. ومن ثمة يكون على المتأمل أو المشاهد تفكيك تلك الرموز في اللوحة التشكيلية، التي هي في الأساس لقطة/صورة، ولا تحتاج إلا إلى الحركة من خلال كاميرا وشخوص.

ما يجمع بين أعمال هذه الفنانة والفيلم الوثائقي كما يبدو من عدد من لوحاتها هو توثيق الكثير من اللحظات التي تشعر بها الفنانة وعايشتها، وتريد من جديد إعادة إحيائها عبر الصورة، فضلا عن عنصر الحركة، ونقصد هنا بالحركة؛ حركة الريشة والألوان والأشكال والملامح في بعدها الفني والجمالي لتتجانس، وحركة الصورة الفيلمية التي تتأسس على الكثير من الصور واللقطات التي أوجدتها الفنانة بتقنية عالية، وهي مشاهد ولقطات تحكي قصصا عن التاريخ والعادات والتقاليد وطقوس أهل الشمال، والعادات والطفولة والطبيعة وما إلى ذلك.

ومن هنا تبرز قيمة أعمال الفنانة التي تصبح في هذا المعطى مثل مخرجة سينمائية ترسم بأفكارها نوعا من الأفلام، تتوافق بطريقة بصرية مع الرؤيا الإبداعية بشكل عام، بحثا عن لحظة انتشاء ومتعة فرجوية وبصرية، وهو ما يتوق إليه المتلقي في كل فن سواء أكان رسما أم سينما.

الفنانة شمس الضحى ترى أن معرضها “جذور” هو وثيقة فنية إبداعية مرسومة تحاكي في بعدها الجمالي والوجداني سلسلة مشاهد توثق لمشاهد تفاعلت معها الفنانة في زمن الطفولة ولا تزال راسخة في ذهنها حتى الآن

 

حضور درامي كأنه سينما وثائقية

الحضور الدرامي في لوحات الفنانة التشكيلية، والمبني على الخيال والرؤيا وتجاوز المبتذل والرديء من التجارب التشكيلية والخيال المجنح والثيمة؛ حاضر بقوة، وتحاول الفنانة هدم تلك الحدود الوهمية التي تباعد بين الرسم وباقي الفنون الأخرى، ومنها السينما وخاصة الوثائقية، ويتجسد ذلك من خلال ملامح إنسانية متفرقة تعيش أوضاعا قاسية ومخاضا عسيرا، وهي صور بليغة تؤثر في المتلقي بشكل كبير، وتطرح أكثر من سؤال عن معاني تلك الشخوص المهزومة، وفلسفة تلك الصور ورمزيتها، وما توثقه من لحظات يعاني فيها الإنسان بشكل كبير كما تعاني الطبيعة وغيرها.

هذا جزء من أحلام تجربة تشكيلية نسائية مغربية عاشقة لثقافة الصورة، ودائما تبحث لها عن بصمة فنية تميزها، ولا تريد أن تعيش في جلباب الآخرين، حيث تقول الفنانة في تصريح بالمناسبة إن اللوحة هي صورة من مشهد من مشاهد الحياة اليومية التي يعيشها الإنسان، ولقطة تحاول أن تحيل المشاهد أو المتلقي عبر تقنية التأمل والفلاش باك (العودة إلى الماضي) على عوالم خفية، وفضاءات ومشاعر ذاتية وموضوعية، وكل ما تحبل به الصورة بضوئها ومختلف عناصرها الجمالية ومؤثراتها البصرية، كالتي يمكن أن تقدمها للمشاهد في فيلم وثائقي يعبر عن حدث أو قضية ما، أو موضوع يستحق توثيقه بالصوت والصورة والشهود.

وتضيف الفنانة أيضا أنها تحاول في معرضها الجديد بعد معارض فردية وجماعية أقامتها داخل البلاد وخارجها منذ ستينيات القرن الماضي وحتى الآن؛ أن تحتفي بطريقتها الخاصة بعدد من الميكانيزمات التي تجدها مهمة في هذه الحياة، ومنها الاهتمام بالبيئة والطبيعية والتاريخ والعادات التي تميز المجتمع المغربي، خاصة على مستوى العرس التقليدي في البوادي والأرياف والحضارة، وخاصة التاريخ الأندلسي وما يرتبط به من شعر أندلسي وعمارة وحضارة إسلامية في شبة الجزيرة الإيبيرية، والتي بدأ فتوحاتها طارق بن زياد، ولا تزال تشكل إحدى روافد التاريخ والحضارة الإسلامية في المنطقة، حيث فتحت شهية الكثير من المخرجين لإنجاز أعمال سينمائية وثائقية عنها، خاصة أن منطقة شمالي المغرب، وبالخصوص مدن طنجة والعرائش والقصر الكبير وأصيلة وتطوان وعدد من مناطق الريف؛ شكلت وتشكل فضاء خصبا للاشتغال التشكيلي والسينمائي والروائي، وذلك لما لها من فيض مؤهلات طبيعية وتاريخية خالدة.

إن ما يجمع بين التشكيلي والسينمائي/الوثائقي من خلال هذه التجربة التشكيلية هو هذا التوافق والتكامل اللذان يلتقيان عند زوايا الضوء والحركة

 

التشكيلي والسينمائي.. توافق وتكامل

وترى الفنانة أن معرضها “جذور” هو وثيقة فنية إبداعية مرسومة تحاكي في بعدها الجمالي والوجداني سلسلة مشاهد توثق لمشاهد تفاعلت معها الفنانة في زمن الطفولة ولا تزال راسخة في ذهنها حتى الآن، وهي مشاهد ممتعة مهما كانت عجائبية وذات اتجاه فلسفي عميق، إلا أن تقنية الضوء في مقابل الظلال والعتمة كعلامتين دالتين هما العنصران المهمان في العملية الإبداعية التشكيلية وحتى السينمائية، حيث تجعل منهما الفنانة نسقا مهما لاكتمال المتعة البصرية وإنتاج المعنى، وشاهدا صوريا على أحداث ووقائع ونبض المشاعر.

وبهذا التوصيف الفني الذي تسلكه الفنانة في مختلف مشاهد وزوايا معرضها، والذي حجّ إليه نخبة من المثقفين والفنانين وعشاق السينما والفيلم الوثائقي؛ تؤكد اهتمامها بشكل بليغ بكل ما هو مجتمعي وإنساني وكوني وتاريخي وتراثي وطبيعي وبيئي، بل إنها تطلق نداء استغاثة لوقف تدمير هذا العالم، والحفاظ على الطبيعة لتستمر الحياة، وينجلي ذلك من خلال جذوع أشجار ميتة مهملة دالة تصارع من أجل البقاء واقفة.

إلى هنا تُطرح الكثير من الأسئلة الفنية والجمالية والفلسفية إزاء توافق المادة الفنية والوثائقية لدى شمس الضحى من خلال ألوان دافئة وأخرى باردة، وعوالمها التي تنتصر لبلاغة الغموض والإبهام، مع صور فيلمية عميقة توثق للحظة ما عاشتها في مكان وزمان ما، في مقابل البساطة واللغة الفنية التقريرية التي تنتهجها الكثير من التجارب. إنها أسئلة جوهرية تحاول فهم النص دون الحاجة إلى فهم التقنية التي توجِد بها الفنانة أعمالها، وهذا ربما هو الأساس، عكس الصورة الفيلمية الوثائقية التي تحاكيها، والتي يبحث فيها المتلقي عن الحدث والرؤيا والحقيقة وشاعرية الفضاء.

إن ما يجمع بين التشكيلي والسينمائي/الوثائقي من خلال هذه التجربة التشكيلية هو هذا التوافق والتكامل اللذان يلتقيان عند زوايا الضوء والحركة والقضايا التي يمكن طرحها ورسمها، بما فيها قضايا كونية ومجتمعية تنتصر لقيم الإنسان والعدالة الاجتماعية والحق في حياة نقية بدون ثلوث، على أرض مغتصبة رغم التهجير والترحيل والحصار، وإن كانت أدوات الاشتغال تختلف من الرسام إلى السينمائي.

الحضور الدرامي في لوحات الفنانة التشكيلية، والمبني على الخيال والرؤيا وتجاوز المبتذل والرديء من التجارب التشكيلية والخيال المجنح والثيمة؛ حاضر بقوة

 

أفق جديد يبحث عن مغامرة

وبهذا فإن الفنانة التي تغرف من معين الذاكرة والموروث الثقافي والحضاري وقضايا المجتمع والمرأة والطفولة، والمنجز الطبيعي الذي تدافع عنه دفاعا عن استمرار الحياة، والعيش في أمن وأمان وسلام، تبقى الصورة المثالية المتناسقة الألوان، في قالب تشخيصي ورمزي شعري، والمشهد الفيلمي الوثائقي الذي يشد الجمهور إلى نهاية الحكاية.

إنها فنانة متمردة مشّاءة بين الفنون، تستحق أن يُنجز عنها فيلم وثائقي يوثق لعلاقتها الحميمة بين اللون والشكل وحركة الريشة لأكثر من 60 عاما، ولوحاتها التي تحاكي قصة عجيبة روتها الكاميرا من زوايا مختلفة، حيث كل تجربة هي بالنسبة لها محطة جديدة للبحث، وطرح إشكاليات وقضايا، وترجمة مشاعر فياضة من زمن الطفولة بصيغة الجمع، كأفق جديد للبحث عن التميز والمغامرة، وتخليص الروح والجسد من الرزايا والهموم والأمراض، وجعل الفن التشكيلي فنا يشافي، له خصوصيته لكنه يتعانق مع باقي الفنون الأخرى ومنها الوثائقي الذي يعالج الواقع والمجتمع والعالم بطريقة فيها الكثير من الخلق والإبداع، إنه نوع من الحلم بالصورة التي تصنع الأمل.

هكذا تنساب لقطات فيلم “جذور” دافئة في أجواء يلفها الصقيع من كل الدروب، حيث تتراءى شمس الضحى بنصف ابتسامة تتأمل لوحاتها المعلقة بابا للرواح العتيق، وهي تعيد شريط ذكريات وحكايات من طفولتها وعوالمها تمر في خيالها، بينما الشمس عند الغسق تهبط في البحر كصحن ليمون بشكل شاعري لا يوصف، تاركة لأشعتها أن تتسلل إلى اللوحات فتضيئها بشكل لافت كجزء من مشهد سينمائي تبدأ معه حكاية فنان جديد يعشق السينما.


إعلان