وديع الصافي.. ريّس الأغنية اللبنانية ونبعها الصافي

خاص-الوثائقية

عام واحد فصل بين ولادة لبنان التي تأسست في عام 1920 وولادة الطفل وديع بشارة فرانسيس في قرية نيحا الجبلية عام 1921. ولعل هذا الفارق الزمني البسيط بين الولادتين كان إشارة لتشابك طويل الأمد بين وديع ولبنان ليصير مستقبلا أحد عمالقتها وأعلامها المعروفين.

فهو أحد عمالقة الفن العربي المعاصر، ولد لعائلة متواضعة نزحت إلى بيروت لطلب الرزق حيث التحق هو بالمدرسة ولم يخفِ رغبته في الموسيقى، كان فوزه بجائزة أفضل لحن وأفضل صوت وأداء في مسابقة الإذاعة اللبنانية أيام الانتداب الفرنسي سنة 1938 انطلاقته الأولى إلى عالم الفن الواسع.

 

يحكي هذا الفيلم الذي أنتجته الجزيرة الوثائقية قصة حياة وديع الأغنية اللبنانية الصافي، وينتقل بين محطات حياته المختلفة منذ بداية تكوين هذا الفنان وكيف كان لأسرته دور كبير في انتقال الموهبة إليه.

وينقل أيضا تنقلاته المستمرة بين لبنان ومصر وتجاربه العديدة إلى أن بدأت انطلاقته الفعلية في البرازيل، فإلى رحلة فنية ماتعة مع الوديع الصافي “رَيِّس” (رئيس) الأغنية اللبنانية.

العائلة كانت البداية

عُرف الطفل وديع بجمال صوته في سن العاشرة، وغنى لأول مرة في عُمر الثامنة أمام الست نظيرة جنبلاط بطلب من أبيه، وكان جده هو أستاذه الأول حيث تعلّم منه الميجانا والعتابا، وعلمّه خاله نمر العجيلي العزف على العود وكان يصطحبه معه للعزف في بعض السهرات.

يقول هو عن أبيه وأمه إنهما كانا فنانين متقنين للأغنية اللبنانية الشعبية، وكانا يغنيان الزجل والعتابا وأبو الزلف، وجاء صوته ليكون مزيجا من صوتيهما.

لم يمكث وديع طويلا في قريته، فقد غادرها مع عائلته بعد أن نُقل والده الذي كان يخدم في الدرك إلى جِوار بيروت، وهناك اضطر الفتى اليافع للعمل، ولكن هذا لم يجعله يفارق فنه، ويقول إنه خلال عمله في دكان لبيع الزيت كان رؤساؤه في العمل يخيرونه بين العمل أو الغناء والعزف على عوده الذي لم يفارقه، فكان يختار الثانية.

كان لأخيه توفيق الفضل الأكبر في تشجيعه على التقدم بمسابقة للمواهب الشابة في إذاعة الشرق الأدنى في بيروت، ونصحه كثيرا وأصر عليه. ويروي نجله أنطوان الصافي قصة مشاركة والده في المسابقة، وكيف أنه رفض في البداية قائلا: كيف له أن يشارك وهو ابن الضيعة إلى جانب أبناء بيروت الثقافة والفن.

 

وأمام إصرار أخيه، ما كان من وديع الشاب الفتى ذي الـ16 ربيعا إلا أن تقدم بأغنية من ألحانه في ذلك الوقت، تقول كلماتها:

يا مُرسل النغم الحنون
هيجت في قلبي الشجون
جُث الوتر إني بشرٌ ألِف الشقاء
علّ الغناء يمحو الشجون
يا مرسل النغم الحنون

وغنّاها أمام اللجنة فأشجى أعضاءها حتى البكاء، ثم فاجأه رئيس اللجنة ميشال خيّاط بنجاحه الباهر وتفوقه على كل المتقدّمين للمسابقة، وكانت هذه البداية.

لاسمه منه نصيب

كان عالمه ينحصر بالفن، عودُه معه، وصوته يصدح أينما حل، هناك في العاصمة وفي هذه الفترة كان الفنانون قِلة، وكان من أشهرهم شحرور الوادي عمّ المطربة صباح، فأراد وديع أن يلمع اسمه في بيروت بصوته الندي الصافي، وكان لصفاء صوته السبب في تسميته الفنية بوديع الصافي الذي لازمه طول العمر.

لقد انحصر الإعلام الفني في تلك الفترة في إذاعة لبنان (الشرق الأدنى سابقاً)، فلم يكن هنالك تلفزيون ولا أي وسيلة إعلام أخرى، فكان الفنان صاحب الحظ العظيم هو الذي يخرج للناس من خلال ميكروفونها، وهذا ما ناله وديع الصافي الذي يصفه المؤرخ والناقد الموسيقي إلياس سحاب أن صوته مكتمل المواصفات بشكل نادر، فقد أعطي مساحات متسعة في صوته إلى آخر مدى؛ من أخفض الطبقات الصوتية إلى أعلاها.

 

كما ساهم في انطلاقة وديع الصافي أساتذة وموسيقيون كبار على رأسهم إلياس الخياط وتعلم منهم الكثير، وكانوا يتابعون صوته بكل عناية ويقدمون له التوجيهات بشكل مستمر، وكان يُسمى بلغتهم “النشّاش”، بمعنى أنه لا تمر ملاحظة من ملاحظتهم إلا ويعمل بها ويستعملها في فنه.

ومع وقوع الحرب العالمية الثانية كان وديع الصافي قد شقّ لنفسه طريقا وبدأ الغناء في المطاعم والمقاهي في سوريا ولبنان، وقد بدأ الاحتراف الفعلي في محلة الدورة التي كانت مركز لهو، كما كان يقصدها الناس للتنزه على البحر، وفيها عدد كبير من المقاهي.

وهنا يَذكر عازف القانون كامل طبارة أنه تعرّف على وديع في ملهى يدعى حنا نهرا في تلك المنطقة حيث تفاعل كثيرا مع عزفه وأعجب به.

في البرازيل

بحلول أربعينيات القرن العشرين كانت لبنان تعاني من الانتداب الفرنسي، فيما كانت مصر قبلة الفنانين العرب، فقرّر وديع أن يجرب حظّه في مصر، وكان ذلك عام 1944 حيث ساعدته واستقبلته الفنانة نور الهدى، لكنه لم يوفّق هناك ولم يمكث طويلا، وعاد أدراجه إلى بيروت ورجع يُحيي الحفلات والسهرات ويرافقه عزفاً الشقيقان الشهيران عاصي ومنصور الرحباني.

 

استمر به الأمر على هذا الحال حتى نكبة 1984 المشؤومة، حيث لم يعد للفن مكان ولا اهتمام عند المستمعين، فقرر وديع أن يحزم أمتعة إلى غربة جديدة، كانت المحطة هذه المرة هي البرازيل، وكان في الـ22 من عمره، فبدأ العمل هناك مع جوقته الخاصة وغنّى للوطن والأهل والأرْز:

طل الصباح وتكتك العصفور
سهرنا وطوّلنا بنومتنا
شوفي الشفـق فرّق علينا النور
والشمس منشورة عا خيمتنا
والكون غاشي والفلك مسحور
من سـقسقة مَيّات نبعتنا

فكان خير سفير لبلده حيث قدّم في تلك الفترة ما يسمى بالأغنية الاغترابية التي كانت تحمل في طيّاتها الحنين والدعوة للعودة إلى الوطن، ولعل هذا الحنين كان هو السبب الذي حمله على الرجوع إلى بيروت عام 1950 فتزوج من مالفينا فرانسيس، وعاد إلى الإذاعة اللبنانية من جديد وكانت السبب والنافذة لانطلاقه وحب الجماهير له.

عصر بيروت الذهبي

في النصف الثاني من القرن العشرين لم تعد القاهرة هي مركز تطوير الموسيقى العربية الوحيد، فقد أصبح لها فروع من أهمها النهضة الموسيقية في بيروت والتي قامت على ملحنين عظماء كان لا بدّ لهم من أصوات عظيمة أيضا مثل وديع الصافي الذي تمنّى الكثيرون التلحين له.

وبدأ وديع يشارك في الإسكتشات الغنائية الإذاعية مثل عروس المواسم التي قدّمها مع فيروز وصباح وسعاد هاشم.

وبحلول ستينيات القرن العشرين الذي كان عصر الثقافة الذهبي في بيروت حيث افتتحت المسارح الكبرى وصارت مقصد الشعراء والفنانين العرب؛ أقيم مهرجان الأنوار الذي أشرف عليه وقتها الصحفي الموسيقي المفكر سعيد فريحة، ومنه كانت الشهرة الأولى للدّبكة اللبنانية.

 

لقد كان وديع الصافي أحد مؤسسي تيار الأغنية الكلاسيكية اللبنانية بألحانه البسيطة السلسة، كيف لا وهو العملاق في المَغنى مثلما هو عملاق في الكرامة والإنسانية والأخلاق كما يصفه كامل طبارة الذي كان يستشيره وديع في ألحانه قبل أن يعتمدها.

كان وديع وديعا في علاقته مع أصدقائه وزملائه في العمل ومتواضعا، وهو الذي طلب من المطربة اللبنانية الإذاعية سعاد هاشم مشاركته في الأغنية الحوارية:

ودِّي يا بحر ودي
طوّلنا بغيبتنا

ودي سلامي لبيت جدي
وللتوتة اللي بدارتنا

ودي لأهل الضيعة سلام
وخبرهم عن حالتنا

وشوف لي إن كان بعدها الأيام
بتذكر يا إما نسيتنا

فاشتهرت الأغنية كثيرا وأحبها الناس، كما جمعته صداقة وطيدة مع الكبير محمد عبد الوهاب حيث كان يطلب منه عبد الوهاب الغناء ويستمع إليه بكل شغف وإحساس.

غربة أخرى

في الثمانينيات وعندما مزّقت الحرب لبنان ودفعت الكثيرين إلى الهجرة والسفر، قرر وديع الصافي أن يشدّ الرحال مع عائلته مجددا إلى مصر ثم إلى لندن فباريس حيث استقر هناك، وتمحورت حياته وحياة العائلة حول عمله وغنائه وأعماله الفنية، وهناك لحّن وغنّى الأغاني الوطنية الكثيرة مثل أغنية:

عصفور شق الفجر شو جايبك بكير
تبكي وتتمرمر عشباكي
مـــا في حدا من كل العصافير
قلك أنا من غير شي باكي
خير يا حبيبي طلوب
يا مرحبا وأهلا
ما في على المحبوب
عيني شو بينسمى أغلى

وبقي حتى وضعت الحرب أوزارها في لبنان واستتبّ السلام، فعاد إلى وطنه يحتضن عائلته ويطربها وتحتضنه هي بدورها وتردّ له التحية بالعتابا والأوف.

وديع الصافي قال فيه النّقاد كلاما كبيرا كثيرا، وعلى رأسهم شيخ النقّاد العرب كمال النجمي الذي سمّاه بغاغارين الأصوات الغنائية (وغاغارين هو أول إنسان صعد إلى الفضاء وهو روسي الأصل) وذلك في إشارة إلى علو طبقاته الصوتية التي تصعد بمستمعيه إلى إحساس أعلى وأبعد مستوى.

ورغم مرور السنين وتقدّم وديع الصافي في العمر فإنه ظل يغني ويطرب ويشارك في المهرجانات وعلى خشبات المسارح ويطلّ عبر شاشات التلفاز ويحتضن تجارب فنية متنوعة وغريبة أحيانا.

ولعل أغنية “عندك بحرية يا ريّس: الشهيرة ما زالت تذكرنا وستبقى إلى وقت بعيد بأن وديع الصافي سيظل “ريّس” الأغنية اللبنانية وعميدها.