منى فتو.. حمامة السينما المغربية

المصطفى الصوفي

يكاد فيلم “سارق الأحلام” (1994) لمخرجه حكيم النوري ومن بطولة كل من رشيد الوالي وفاطمة خير؛ يتشابه إلى حد ما مع فيلم “حب في الدار البيضاء” (1991) لعبد القادر لقطع، وهو من بطولة كل من عبد الكريم الدرقاوي وحمامة السينما المغربية منى فتو التي تألقت فيه بشكل لافت مقدمة شكلا جديدا من التمثيل السينمائي الذي رحل بالمتلقي إلى آفاق فنية ممتعة، وجعل من هذه الفنانة تضع أولى خطواتها على درب السينما بشكل لطيف ووديع.

بالطبع لكل مخرج رؤيته الفنية وطريقته في الاشتغال وتقديم الفرجة السينمائية للجمهور، لكن القاسم المشترك الذي يجمع الفيلمين هو الحسّ الرومانسي الأنيق ونخوة الشباب والحرية في العيش، والتمرد على بعض التقاليد والعادات من أجل مسار حياتي مختلف تتجسد فيه أحلام الشباب بطريقة جذابة وفجائية للغاية.

صورة تجمع منى فتو مع محمد خوي في سلسلة “الدنيا دوارة”

 

مستقبل دافئ لأنثى حالمة

حمامة السينما المغربية بلباسها الفستقي في فيلم حب في الدار البيضاء؛ عرفت كيف تتقمص دور الأنثى الحالمة بمستقبل أكثر دفئا في مدينة كبيرة وشاسعة ومليئة بالمتناقضات مثل الدار البيضاء، ورشيد الوالي -وهو من جيلها- عرف هو الآخر كيف يسرق الأحلام الوردية من فؤاد تلك الفتاة البريئة، كما سرق بطاقة بريدية وبعثها عبر البريد إلى من يحب.

هكذا كانت منى فتو حمامة بيضاء ترفرف بأجنحة الحرية والسينما في تلك الزوايا التي ليست لها حدود، وتسافر من مدينة السحر باتجاه ضفاف المستحيل والأحلام، ألوانها زاهية، وتفرد أجنحتها في سماء ممطرة تبحث عن اسم يطاوعها علّها تستريح في طوق دافئ في تلك الديار.

تبدو هذه المقاطع الشعرية مطلعا لقصيدة طويلة أراد كاتب سيناريو الفيلم الذي لم يُعرض بعد أن ينقلها إلى صور متحركة لممثلة هي من مواليد العاصمة الرباط في سبيعينات القرن الماضي، وَلَجت عالم السينما فأحبته بشكل كبير، لتثمر تجربتها فيضا من الأعمال يذكرها الجمهور بكل اعتزاز وخير.

اشتهرت منى فتو بأعمالها السينمائية المتنوعة، والتي قدمت فيها أدوارا قوية تنوعت بين الأم والزوجة والسيدة، والفتاة التي تحلم بحياة سعيدة رغم كروب الزمان، سواء في المدينة أو البادية، وهو ما منحها سلطة فنية على الشاشة وقيمة اعتبارية واقتراحية سواء من قبل المخرجين أو النقاد.

 

سطوع في أفلام سينمائية

وسطع نجم منى فتو (وهي خريجة محترف عباس إبراهيم بالمسرح الوطني محمد الخامس بالرباط) مع أول ظهور لها في العديد من الأفلام السينمائية، أبرزها “حب في الدار البيضاء” لعبد القادر لقطع، ثم “البحث عن زوج امرأتي” (1993) لحكيم النوري، وبرزت فيه مع نخبة من ألمع نجوم السينما المغربية منهم رشيد الوالي وأمينة رشيد عميدة السينما المغربية الملقبة بـ”لالة حبي” والتي رحلت إلى دار البقاء في شهر سبتمبر/أيلول الماضي.

وتوالت أعمال منى التي كسبت فيها إعجاب الجمهور المغربي من خلال أفلام ممتعة شاركت في مهرجانات عربية ودولية وتُوجت بجوائز قيّمة أبرزها “عبروا في صمت” (1997) لمخرجه حكيم النوري، و”بنات رحمة” لفريدة بورقية، و”نساء ونساء” في السنة الموالية لسعد شرايبي، فضلا عن “عطش” (2002) للمخرج سعد الشرايبي، و”هنا ولهيه” (2005) لمحمد إسماعيل.

ولعل العديد من المتابعين لتجربة الممثلة منى فتو يُجمعون على أن تجربتها مع المخرج سعد الشرايبي كانت الفترة الأكثر خصوبة وعطاء وتألقا، وذلك من خلال الأفلام التي قدمتها، خاصة أنها تطرح قضايا ومواضيع اجتماعية وعاطفية وفكرية في بُعدها الكوني والإنساني.

وشكّل فيلم “جوهرة بنت الحبس” لمخرجه سعد الشرايبي نقلة نوعية في تجربة الفنانة منى، وذلك لأدائها الرائع والمتزن، فهو فيلم مؤثر وجميل صُوّرت مشاهده في سجن حقيقي، ويحكي قصة الطفلة “جوهرة” التي وُلدت في السجن بعد اعتقال أمها خلال سبعينيات القرن الماضي، وهي قصة واقعية حدثت بمدينة الدار البيضاء.

 

طريق النساء الأروع

كما يستذكر الجمهور أفلاما أخرى لمنى، منها فيلم “ماجدة” (2004) لعبد السلام الكلاعي، و”الحي الخلفي” (2006) لفريدة بورقية، و”أبواب الجنة” لصول وعماد نوري، و”أولاد البلاد” لمحمد إسماعيل، و”رحيمو” لإسماعيل السعيدي، و”جوق العميين” لمحمد مفتكر والذي تألقت فيه مع نخبة من الممثلين مثل الراحل محمد بصطاوي ويونس ميكري، كما فاز بعدة جوائز.

وتألقت منى أيضا في فيلم “طريق النساء” لمخرجته فريدة بورقية، والذي تعتبره من الأفلام الرائعة التي لا يمكن نسيانها أبدا، وذلك لقوة أداء الممثلين فيه، عدا النص الجيد الذي كتبه الروائي والسيناريست يوسف فاضل، حيث تعتبر منى دورها فيه استثنائيا نظرا لما يحمله من رسائل ومعان في الحياة، فضلا عن دورها المتميز في الفيلم التلفزيوني “مرحبا” لزكية الطاهري.

وعن موضوع النصوص السينمائية، ترى منى أن أيّ عمل سينمائي ناجح وقوي هو بسبب قوة السيناريو كأساس للعملية السينمائية والكتابة الفيلمية، مبرزة أهمية التأليف السينمائي الذي لا يجب الاستغناء عنه، وهو أمر موكول إلى المخرجين الذين يجب عليهم أن يختاروا نصوصا جيدة وكُتّابا قادرين على صنع الفرجة السينمائية، وذلك من خلال كتابة تكون أقرب إلى مشاعر الجمهور وتطلعاته.

وخلال لقاء سينمائي بمناسبة الدورة الـ13 للمهرجان الدولي لفيلم المرأة بمدينة سلا المغربية؛ سلّطت منى الضوء على الكثير من المحطات التي ميّزت تجربتها منذ ثمانينيات القرن الماضي، حيث ولجت مجال المسرح في بداية الأمر، لكنها لم تجد الأعمال التي تناسبها وترتاح لها، لتدخل مجال السينما من بابه الواسع، فكانت أولى تجاربها مع عبد القادر لقطع الذي منحها دور البطولة في فيلم حالم، لتتوالى أعمالها التي تابعها الجمهور بشغف.

 

تشخيص سينمائي مختلف

وتوضح منى أن “الممثل يجب أن يكون محبا لدوره، وملتزما بفنه وقناعاته، محترما لانتظارات الجمهور، وأن يكون مُجددا في أعماله التي يقدمها حتى لا يدخل في خانة التكرار والنمطية، وهو ما قد يصعب على بعض المخرجين الاعتماد عليه”، مبرزة أن اشتغالها في المجال السينمائي ضيّع عليها العمل في المسرح الذي يستلزم وقتا أطول للتدريب والعرض في إطار جولات.

وعرّجت منى فتو بالمناسبة على الكثير من الإكراهات التي تواجه العملية السينمائية المغربية، أبرزها قلة صالات العرض التي باتت في تناقص مستمر، وكذلك غياب منتجين محترفين يعطون لكل ذي حق حقه، وهو ما قد يعطي في الأخير فيلما جيدا بكل المواصفات، فضلا عن كُتّاب سيناريو متخصصين، وشبح القرصنة الذي يهدّد الكثير من الإنتاجات السينمائية التي تُصرف عليها أموال طائلة.

كما شكّل الفيلم الدرامي التلفزيوني “وليلي” (2017) لفوزي بنسعيدي نموذجا للأفلام الجديدة برؤية إخراجية مغايرة، وقدمت فيه منى فتو وجها آخر من التمثيل السينمائي الذي يمكن اعتباره مختلفا عمّا قدمته سواء مع محمد إسماعيل أو سعد الشرايبي أو حكيم النوري، والذين أخرجوا لها أشهر أفلامها وأكثرها إقبالا من قبل الجمهور.

وخلافا للأعمال السينمائية التي جسّدت فيها منى فتو أدوارا تميزت بنوع من الصرامة والالتزام والحرية أيضا؛ قدمت كذلك أعمالا تلفزيونية خفيفة الظل بحسّ كوميدي مقبول وممتع، منها “ياك حنا جيران” و”ديما جيران” و”كلنا جيران”، وهي عبارة عن سيتكومات (مسلسلات) قدمت خلال شهر رمضان عام 2010 و2011 و2012.

 

حسّ كوميدي جميل

وقد أبانت منى خلال تلك الأعمال الفكاهية التي تعالج قضايا من واقع المجتمع في قالب هزلي عن حسّ كوميدي جميل تفاعل معه الجمهور بشكل لافت، وهو ما كشف القناع عن جانب آخر من عالم التمثيل لهذه الممثلة البارعة التي تقمصت العديد من الأدوار بطريقة غاية في السلاسة الاحترافية، وبعيدة عن النمطية والتكرار والابتذال.

أما على مستوى الأعمال التلفزيونية الدرامية فقد قدمت منى فيضا من المسلسلات التي شهدت متابعة مهمة من قبل الجمهور، وذلك في ظل هجرة المُشاهد إلى قنوات عربية وأجنبية أخرى، وكان آخر أعمالها ظهورها الوازن في مسلسل “الدنيا دوارة”، إلى جانب نخبة من نجوم الشاشة على القناة الأولى المغربية خلال شهر رمضان الماضي، مثل إدريس الروخ وعزيز الحطاب ومحمد خوي والسعدية أزكون وغيرهم.

كما سطع نجمها في أعمال درامية أخرى لا تقل أهمية عن جديدها التلفزيوني، مثل سلسلة “لوزين” التي  عُرضت على القناة الأولى عام 2018 لمخرجته أمينة مونة، وتمثيل كل من عزيز الحطاب ومحسن مالزي ومحمد الخياري ونورة الصقلي وابتسام لعروسي وجميلة الهوني والمقتدرة زهور السليماني، وهو مسلسل مُشوّق يُعالج موضوع الفقر والغنى، ثم “جنان الكرمة” مع فريدة بورقية، ويعد أيضا من أنجح الأعمال التلفزيونية.

كما وجدت منى فتو -التي تألقت أيضا في بعض الأعمال الأجنبية التي صُوّرت في المغرب، وكان آخرها فيلم” سيداتي سادتي” للمخرج الفرنسي كلود لولوش- في عالم التنشيط الفضاء الأرحب لإبراز طاقتها الفنية الجديدة، وذلك من خلال برنامج “جاري يا جاري” الذي تبثه قناة البحر الأبيض المتوسط والمغاربية “ميدي1 تي في”.

وأمام هذا العطاء المتنوع والخصب لحمامة السينما المغربية التي تنخرط في الكثير من الأعمال الاجتماعية والإنسانية؛ تُوّجت وكُرّمت مُنى في الكثير من المناسبات والمهرجانات، حيث كان آخرها تكريم في الدورة الأخيرة لمهرجان سلا الدولي لفيلم المرأة، والدورة الـ24 لمهرجان تطوان لسينما البحر الأبيض المتوسط للعام الماضي. ويُعد هذا التكريم تحفيزا قويا للفنان من أجل تحقيق المزيد من التألق والنجاح، واعترافا بتجربة تركت بصمتها لدى الجمهور بكثير من التميز والانفراد.

وعن الأدوار التي تعشقها منى قالت “الفن إبداع عالمي لا وطن له، ويشرفني أن أقوم بأي دور يناسب اختياراتي ومبادئي سواء مع مخرجين عرب أو أجانب، تعجبني الأدوار في الأفلام التاريخية لأنها تحمل رسالة قوية ومواضيع كونية وتاريخية وحضارية وإنسانية، هذا الدور لم ألعبه بعد وأتمنى أن لا ألقاه، وهذا يشجعني على مزيد من العطاء والاشتغال، وبذل مزيد من الجهد لأقدم الأفضل”.

وعن جديدها تؤكد منى فتو أنها مُقبلة على تصوير عمل سينمائي جديد مع المخرج المغربي فوزي بنسعيدي الذي تم تكريمه الأسبوع الماضي في الدورة الـ11 لمهرجان الفيلم المتوسطي بمدينة طنجة، مبرزة أن الأدوار التي تقوم بها هي أدوار مختلفة بعيدة عن النمطية، وتحمل رسالة إلى الجمهور والعالم، وهذا هو معنى الفن والإبداع السينما.


إعلان