نابليون.. المجد على هرمٍ من الجماجم

في ظُهر الخامس عشر من أغسطس/آب من العام 1769، وفي أجاكسيو تلك المدينة الصغيرة في جزيرة كورسكا، سُمِع صوت صراخٍ في منزل كارلو بونابارتيه، لقد وُلد للتو طفل لكارلو وزوجته يتيسيا، أسمياه نابوليونيه بونابارتيه (بالإيطالية)، والذي كبر وأصبح فيما بعد اسمه بالفرنسية نابليون بونابارت.

يحكي الفيلم الوثائقي الذي عرضته الجزيرة الوثائقية بعنوان “نابليون.. إمبراطور من عدم” قصة نابليون وأجاكسيو، وهي مدينة صغيرة وادعة يسكنها نحو ثلاثة آلاف مواطن في جزيرة كورسكا التابعة لحكومة جنوة الإيطالية، قبل أن يحتلها الفرنسيون في العام نفسه الذي ولد فيه نابليون.

طفل يهوى قرع الطبول

وتنحدر عائلة بونابارتيه من سلالة أرستقراطية من جنوة وتعيش في كورسكا منذ ثلاثة قرون، وتتقلد العائلة على الدوام مناصب مهمة في هذه الجزيرة منذ أن سكنتها مثل رئاسة البلدية، وكانت عائلة قوية النفوذ بما لديها من أراض شاسعة في الجزيرة، ويعمل لديها آلاف الفلاحين الفقراء، ولقد مثلت هذه العائلة آخر سلالات الإقطاعيين والنبلاء في فرنسا قبل قيام الجمهورية.

أما والدته يتيسيا فقد كانت أما مذهلة بامتياز، أنجبت 12 طفلاً بقي منهم ثمانية على قيد الحياة، وكانت تتعاون مع كل نساء العائلة من جدات وعمات وخادمات على تربيتهم، وكان نابليون هو الثاني من الذكور بعد أخيه الأكبر جوزيف.

في الأزقة الضيقة حول المنزل كان نابوليون هو الأكثر صخبا ومشاكسة في عصابة الأطفال، وكانوا يطلقون عليه “ريبيليونيه المشاغب”. أما أخوه الأكبر جوزيف فكان دائما تحت حمايته من بطش أقرانه. ولم يقتصر بطش نابليون على أقرانه في الحي، بل إن سطوته امتدت لتطال عائلته بكبارها وصغارها، وكان يتصرف على الدوام على أنه كبير العائلة ذو السلطة والنفوذ، وكان يتمتع بقدر كبير من المسؤولية والرجولة.

منزل بونابرت في جنوة بكورسكا
منزل بونابرت في جنوة الواقعة في جزيرة بكورسكا

في كل مساء كان نابليون يذهب إلى القلعة المجاورة ليسمع قرع طبول الجنود وهم يبدلون نوبات الحراسة على القلعة، كانت تلك لذة لا تضاهيها لذة لهذا الصغير البالغ من العمر ست سنوات، ومنذ ذلك الحين كان يحلم بأن يكون جنديا، وأن يتذوق الخبز الجاف الذي يأكله الجنود. ولم يدرك نابليون أن هؤلاء الجنود الفرنسيون الذين احتلوا جزيرته سنة مولده قد أثّروا كثيرا في سلوك عائلته.

حدث ذلك عندما انتزع الفرنسيون جزيرة كورسكا من جمهورية جنوة الصغيرة، وذك لم يعجب كثيرا من الوطنيين الأحرار الذي رفضوا ذلك الاحتلال وقاوموا الفرنسيين بضراوة، ومنهم باسكوالي باولي وكارلو بونابارتيه والد نابليون، وكان أحد الضباط المقربين من باولي، ولكنهم لم يتمكنوا من الصمود أمام الجيش الفرنسي المدجج بالسلاح والذي بسط سيطرته على كامل الجزيرة في مايو/أيار من عام 1769، وصارت تحت سيطرة الملك لويس الخامس عشر.

من مقاومة فرنسا إلى كنفها

نُفي باولي إلى جزيرة في إنجلترا ليواصل نضاله من هناك، بينما آثر رفيق سلاحه كارو أن يبقى في كورسكا، ولكن بعد أن بدَّل ولاءه واختار أن يكون من جنود الملك الفرنسي طمعا في مكاسب ونفوذٍ قد يجنيه لنفسه وعائلته، ومنذ ذلك الحين أصبح اسمه تشارلز بونابارت، وتم منحه لقب “نبيل” بعد مفاوضات مع الجهات الفرنسية في مقابل تقديم فروض الطاعة لهم، فيما أصبح ابنه ينادَى نابليون باللكنة الفرنسية.

ومن ثمار هذا الولاء أمَّن تشارلز لابنيه جوزيف ونابليون منحتين دراسيتين في ظل الملكية الفرنسية، فسافر نابليون وهو في التاسعة من عمره إلى المدرسة العسكرية في بريان المدينة الواقعة في مقاطعة شمباني شمال شرق فرنسا، ليبدأ من هناك رحلة تحقيق حلمه بالمجد الذي تشرَّبه من دراسة سِيَر عظماء التاريخ مثل الإسكندر الكبير ويوليوس قيصر، وليس ذلك المجد الذي يجني المال والشهرة الآنية، ولكنه المجد الذي يخلد اسمه بين صفوف العظماء على مر التاريخ البشري الطويل، وعلى طول وعرض كوكب الأرض.

غير أنه تفاجأ بالصرامة والجدية التي تتميز بها المدارس العسكرية الفرنسية، وأصابته الصدمة لانتقاله إلى أرضٍ لا تشبه أرضه ووجوهٍ لا تشبه وجوه أهله، وتمييز طبقي لم يعهده من قبل، أحس كأنه انتُزِع من حضن والدته لتقذف به الريح بين أبناء الطبقة البرجوازية الفرنسية الذين ما فتئوا يسخرون من لكنته الفرنسية المشوهة، ويرونه طفلا إيطاليا قصيرا ضعيف البنية قادما من أرياف كورسكا.

منبوذ.. عبقري

شعر نابليون أنه طفل منبوذ في هذا المجتمع الغريب عليه، وهذا الشعور بالعزلة والوحدة فجَّر لديه طاقات كامنة بوجهيها السلبي والإيجابي، فقد أصبح حاقدا يملؤه الغيظ على كل ما هو فرنسي. ومن ناحية أخرى انكب على دراسته بنهم، وتميز عن باقي أقرانه بالتحصيل العلمي، وفاقهم في الجغرافيا والتاريخ والرياضيات والفيزياء، حتى إنه كان يحل أعقد المسائل الرياضية في لحظات، وهو ما جعل أقرانه يغيرون من نظرتهم السلبية تجاهه ويعترفون له في كثير من الأحيان بالتفوق والذكاء.

حتى جاءت سنة 1783 عندما ذاق نابليون طعم “المجد” للمرة الأولى وهو في الرابعة عشرة من عمره، فقد صحا التلاميذ الضباط على يوم شتاءٍ أبيض غطى فيه الثلج ساحات المدرسة العسكرية، وكانت تلك فرصة غالية لممارسة لعبتهم المفضلة بتقاذف الثلج على بعضهم البعض، فصار نابليون قائدا لإحدى الفرقتين المتقاتلتين بالثلج، وهناك ترجم كل أحلامه وآماله ودراساته ومطالعاته إلى خطط عسكرية غاية في الذكاء والدهاء وأساليب المراوغة والكر والفر، ومشاهد في الشجاعة والإقدام تنبئ عن مشروع قائدٍ عسكري فذ محنك.

كارلو بونابارتيه والد نابليون وكان من أعيان جنوة
كارلو بونابارتيه والد نابليون والذي كان أحد أعيان جنوة

في عام 1784 تم نقل هذا القائد الفذ إلى المدرسة العسكرية المرموقة في باريس، ليصبح ضابطا في جيش الملك وهو لا يزال في الخامسة عشرة من عمره. هناك التقى وجهاً لوجه ولأول مرة بمدينة الأحلام باريس، المدينة الكبيرة جدا ذات المليون نسمة، وهناك تلقى أول راتب له، وهناك أيضا وصلته الأخبار من كورسكا بوفاة والده ليصبح القائد الفعلي لعائلته على الرغم من صغر سنه.

في المدرسة الباريسية اجتاز نابليون الاختبارات اللازمة للتخرج بنجاح، لم يكن نجاحا باهرا بالنسبة للتلاميذ، فقد كان من ضمن الأربعين الأوائل، ولكن عندما تعلَم أنه أنجز مهمته في سبعة شهور ونجح مع التلاميذ الذين قضوا فترة الدراسة الاعتيادية في المدرسة وهي ثلاث سنوات، وقتها ستدرك مدى الإبهار الذي صنعه هذا التلميذ المميز.

كانت لحظة من الفخر العظيم عندما ارتدى نابليون لأول مرة زي الملازم في جيش الملك لويس السادس عشر، وانتقل إلى “فالانس” ليمارس مهام وظيفته هناك، ولكنه أصيب بالإحباط والصدمة ثانية حين أدرك أن أصوله الإيطالية ستحول بينه وبين طموحه الجامح في تقلد إحدى الوظائف المرموقة في سلك الدولة، والتي كانت مقصورة على أبناء النبلاء ذوي الأصول الفرنسية العريقة، هناك قال قولته الشهيرة “أقسمت ألا أسامح أي فرنسي”، وصارت عيناه تتجهان ثانية إلى كورسكا موطنه الأول الذي تركه منذ تسع سنين.

تبديل الولاء مرة أخرى

ثم جاءت سنة 1789 لتحمل أفكارا وأحلاما متناقضة للفتى الطموح نابليون، فقد اندلعت الثورة الفرنسية ضد القصر والملك، وتم إعلان حقوق الإنسان من قبل الثوار، وبذلك ألغيت امتيازات النبلاء، وبات بمقدور نابليون أن يحقق أحلامه في تبوُّأ منصب رفيع في الدولة الفرنسية.

ومن جهة أخرى كان يتطلع إلى تحرير موطنه الأم كورسكا وأن يصبح رجلا فاعلا في استقلال الوطن، ولم تَطل حيرته فعزم أمره باتجاه كورسكا، وهناك التقى للمرة الأولى ببطل أحلامه الأول الكورسكي الملهِم باسكوالي باولي، ومن دون تردد وبسذاجة سطحية منقطعة النظير عرض على باولي أن يكون ذراعه العسكري في تحرير كورسكا.

ولكن باولي لا ينسى الذين خانوه وتنكروا له طمعا في حظوة لدى الملك، فباولي يعلم أن هذا الفتى هو ابن كارلو الإيطالي أو (تشارلز الفرنسي)، فلم يلتفت لعرضه بل قابلة بازدراء، وبهذا العار الذي ألصقه كارلو بقومه، فقد غادرت عائلة نابليون أرض الوطن إلى غير رجعة، بعد حقبة نفوذ امتدت نحو ثلاثة قرون.

نابوليون كان هو الأكثر صخبا ومشاكسة في عصابة الأطفال، وكانوا يطلقون عليه "ريبيليونيه المشاغب"
نابليون كان الأكثر صخبا ومشاكسة في عصابة الأطفال، وكان يُطلق عليه “ريبيليونيه المشاغب”

هذا الغريب الذي لفظه وطنه الأول، وقبل ذلك لفظته مملكة فرنسا؛ عاش فترة من الشرود والانعزال، يرى أحلامه الشخصية بالمجد تتبدد، ويرى قومه يتنكرون له بعد فعلة والده، لم يعد له سوى الانهماك في العمل حتى يهرب من الأجواء الغريبة التي يعايشها، وبقي على هامش الحياة الفرنسية حتى جاءت سنة 1793 حين تم إعدام الملك لويس السادس عشر وتولى ماكسميليان روبوسبير السلطة في الجمهورية الفرنسية الفتية، حينها قامت كل إمبراطوريات أوروبا برميها عن قوس واحدة خوفا على أنفسهم من الشعوب التي تستلهم من الثورة الفرنسية شعارات التحرر.

في تلك الأثناء فطن قادة الحكومة إلى الضباط حديثي التخرج ممن لم يتشبعوا بحب الملكية السابقة، فأرسلوهم إلى الحدود التي تُنهش من كل جانب، وكان نصيب نابليون (قائد المدفعية) أن يتوجه إلى طولون ليقاتل هناك ضد جنود المدفعية البريطانية، وهناك ظهرت كل معالم نبوغ نابليون القيادية والحربية وحتى السياسية، كان شجاعا مقداما متبلد الإحساس لا يهاب الموت ولا يأبه لموت غيره، وكان يبث رسائل الحماس والتضحية بين جنوده، كان يتقن فن الخطابة والتأثير، وكان بارعا في التخطيط ودقيقاً في التوجيه، ألحق بالأسطول البريطاني خسائر فادحة ودحره عن طولون بهزيمة مذلة، وارتقى إلى رتبة لواء.

دفاع عن الجمهورية.. وانغماس في البرجوازية

في باريس تنبه “بول باراس” السياسي الداهية الذي كان يطمح إلى الإطاحة بروبسبير إلى قدرات هذا القائد العسكري الفذ، فعزم على أن يضعه في حسبانه وأن يجعله ساعده العسكري في الاستيلاء على السلطة، ولكن الملكيين سبقوه إلى روبسبير وأعدموه بقطع الرأس تحت المقصلة، وهنا أحس باراس بالخطر على نفسه وتوجه من فوره إلى نابليون طالبا نجدته لإنقاذ الجمهورية من الملكيين.

وقتها أطلق نابليون نظريته الشهيرة “في الثورات هناك نوعان من الرجال؛ الذين يشعلونها والذين يستفيدون منها”، وأصبح كالمقامر الذي يوازن في المكاسب الشخصية بين أن يكون مع الملكيين أو الجمهوريين، وكان لديه من الثقة بالنفس ما يجعله واثقا من انتصار الفئة التي سيكون في صفها.

في طولون ألحق نابليون بالأسطول البريطاني خسائر فادحة وارتقى إلى رتبة لواء
نابليون في طولون، حيث ألحق بالأسطول البريطاني خسائر فادحة وارتقى إلى رتبة لواء

في الخامس من أكتوبر/تشرين الأول عام 1795 وبعد معركة دامية في شوارع باريس راح ضحيتها 300 قتيل، أرسل نابليون إلى أخيه جوزيف “لقد تدحرج حجر النرد على البساط الأخضر والحظ يحالفني، فالحق بي”، هذا المقامر المغرور أنقذ الجمهورية وحفظ ماء الوجه لبول باراس الذي لن ينسى له الجميل، وسيكافئه فيما بعد ليكون قائدا لباريس وما حولها، يخمد الثورات التي يقوم بها الجياع ضد الطغمة البورجوازية الفاسدة التي قطفت ثمار الثورة لصالحها، واستخدمت هذا اللواء المغرور ذراعا عسكريا لها لتنفيذ المهمات القذرة.

قدّم بول باراس صديقه الحميم وساعدة الأيمن نابليون إلى الصالونات العامة حيث عِلْية القوم من الطبقة الحاكمة وكبار التجار وسيدات باريس الحسناوات، لكن ذلك الفتى القصير الشاحب الوجه النحيف الجسد، لم يستقطب اهتمام هؤلاء الناس الغارقين في نشوة الخمر والسلطة، ولكنه انغمس معهم ولم تمنعه الأهوال القادمة من الاستمتاع بلحظته الآنية حتى الثمالة، فقدمه باراس إلى عشيقته الجميلة جوزيفين دوبوارنييه، إحدى سيدات الصالونات الباريسية، وذلك لتحقيق هدفين، ليستريح من الصداع الذي تُسببه له يوميا، ولرد بعض الجميل لحليفه العسكري.

شعر نابليون بالانجذاب لهذه السيدة اللبقة من أول لحظة، وأصابه ما يشبه داء التبعية للمعشوقة، وأدمن النظر إليها والتردد على قصرها البسيط، وما هي إلا أسابيع حتى تزوجها وكان ذلك عام 1796 في التاسع من مارس/آذار.

ولكن الحياة الباذخة لم تستمر طويلا، فقد استدعاه باراس ثانية لقتال النمساويين والبدمونتيين على الحدود الإيطالية، فتوجه إلى هناك على رأس جيش قوامه 60 ألف رجل، كان عليه في البداية أن يشحذ هممهم المتطامنة إلى الأرض وأن يبث فيهم روح التحدي والاستعلاء وأن يصلح من شؤونهم المادية والجسدية، وكان له ما أراد.

أولى درجات المجد.. فوق سحاب ميلان

أما على أرض المعركة فقد أراد نابليون أن يحدث صدمة ويقلب قواعد الاشتباك ويبعث الإرباك في صفوف الخصم، وأراد أن يثور على أبجديات الحروب التقليدية، أرادها معركة خاطفة، لا يريد تضييع الوقت في أساسيات عفا عليها الزمن، تفتقت عبقريته العسكرية عن حيل أمكن من خلالها ضرب العدو في أكثر من جهة بآن واحد، أحدث زلزالا، وما هي إلا أيام قليلة حتى هزم الجيش الأول ثم الثاني، وفي أسابيع دخل ميلانو عاصمة إيطاليا الشمالية.

الجميلة جوزيفين دوبوارنييه عشيقه نابليون وزوجته

استقبله أهل ميلان استقبال الفاتحين العظماء، وشعر لأول مرة أنه يحلق فوق السحاب، وعاد ليستذكر الدروس التي أخذها في الكلية الحربية عن لحظة الانتصار، وتذوق نخب المجد الذي كان يحلم به، وحينها أحس أن اسمه أصبح كلمة مهمة في تاريخ البشر.

بعدها توجهت عيناه نحو السلطة والنفوذ، وعاد إلى باريس في 1797 بصفته سياسيا، وقدَّم لباراس معاهدة “كامبوفورميو” مع السلطات النمساوية، وكان قد تفاوض معهم وحده وحقق مكاسب لم تحلم بها فرنسا من قبل، وبسط نفوذ الجمهورية الفرنسية على أجزاء من إيطاليا والنمسا وعلى بلجيكا، وما تبقى من منطقة الراين الألمانية. لم يستشر أحدا ولا حتى باراس نفسه فقد كانت انتصاراته تشفع له.

شعر باراس بالفزع من حليفه الصغير، فدبر له مكيدة يبعده بها عن السلطة في باريس. أرسله في العام 1798 على رأس حملة من 50 ألف رجل توجهت إلى مصر لتخليصها من السلطان العثماني وللسيطرة على طرق التجارة البريطانية، ولم يشعر وقتها أن هذه الحملة هي الرافعة التي سيستخدمها نابليون في الوصول إلى قمة “المجد”.

في الشرق.. الصعود إلى الهاوية

في مصر أصبح نابليون يتصرف وكأنه الإسكندر الأكبر، يريد أن يكتب صفحات من تاريخه الأسطوري على أرض الأهرامات، ويريد بصفته الملك المتسامح أن ينقل الثقافة الغربية التنويرية إلى الشرق المتخلف.

ولكن هذا لم يرُق للمصريين البسطاء الذين رأوا في نابليون تهديدا حقيقيا لثقافتهم وعقيدتهم، فكانت لهم ثورات ضده أخمدها بالحديد والنار، ثم اتجه إلى الساحل الفلسطيني واحتل المدن بالتوالي حتى وصل إلى يافا، وأعمل في أهلها المدافع والبنادق، لقد قتل أكثر من ألفين إلى أربعة آلاف من السجناء في مجزرة لم يعرف التاريخ لها مثيلا.

في مصر أصبح نابليون يتصرف وكأنه الإسكندر الأكبر
أمام أحد الأهرامات المصرية، حيث أصبح نابليون يتصرف وكأنه الإسكندر الأكبر في مصر

في يافا أظهر نابليون عن وجهه المتبلد الوحشي، وارتكب من الفظائع ما عاد بالخجل والعار على الفرنسيين من بعده. وإذا كان ديك الدجاج يزهو بالمجد على أعلى مزبلة في منطقته، فإن ديك فرنسا قد صنع مجده على هرمٍ من الجماجم البشرية.

أما عكا فقد استعصت على نابليون بفضل أسوارها وجسارة قائدها أحمد باشا الجزار، فتركها وعاد أدراجه إلى باريس بعد أن وصلته أخبار عن الوضع المتردي الذي آلت إليه الجمهورية بفعل فساد السلطة، فقدت فرنسا كل المكاسب التي حققها نابليون وانحسرت الأراضي التي أضافها للجمهورية، وثار الشعب مطالبا بعودة بطله القومي.

بطل قومي غريب

استقبله الناس استقبال الأبطال الفاتحين، ومنذ أن وطئت قدماه أرض فرنسا حتى وصوله إلى باريس، رافقته الجموع تهتف له وتنظِم في بطولاته الأشعار. كان لا يساوره شك منذ عودته من مصر أن السلطة الكاملة باتت في يده.

وعلى الرغم من أن سنَّه لا تؤهله للحكم، فإنه لم يعر ذلك اهتماما، واستولى على السلطة بالقوة من خلال انقلاب عسكري وهو في الثلاثين من العمر فقط. وعندما دخل قاعة البرلمان وحاول أن يخاطب النواب لم يصغوا إليه، واتهموه بالمارق الانقلابي، فما كان منه إلا أن استدعى أحد قادته “مورا” وطلب منه إخلاء القاعة، فدخل مورا القاعة وقال لجنوده “أخرجوا هؤلاء المواطنين من القاعة”، ثم أضاف “ارموهم إلى الخارج”، فذهبت هذه الكلمات مثلا لكل عساكر الانقلابات في العالم، فالعسكري لا يعرف لغة التخاطب والتفاوض التي يفهمها سائر البشر.

في يافا أظهر نابليون عن وجهه المتبلد الوحشي، وارتكب الفظائع
في مدينة يافا أظهر نابليون عن وجهه المتبلد الوحشي وارتكب الفظائع

قد يكون هذا الفيلم هو الحلقة الأولى من حلقات هذا القائد المثير للجدل عبر التاريخ، ولكنه كشف عن أسرار في شخصية هذا الرجل، فقد كان ضعفه هو مكمن قوته، وشعوره الدائم بالغربة عن فرنسا هو الذي أهَّله لحكم الفرنسيين وقيادتهم، وشعوره بالنقص الجسدي هو الذي صنع منه جبّارا مستبدا عاتيا، وتبديل ولاءاته هو الذي مهَّد له أن يكون بارعا في السياسة، وعزلته هي التي صنعت منه عبقريا في الجغرافيا والتاريخ والرياضيات، ولا شك في أن طموحه إلى المجد مذ كان صغيرا مكَّن له أن يكون في عداد عظماء التاريخ، أيا كان الجدل حوله.


إعلان