كيريل رازلوغوف.. السينما والتاريخ

حميد بن عمرة

الانطلاق في حديث مع رجل جاب العالم من خلال الشاشات المتعددة، ومن خلال مهرجانات مختلفة من كل قارّة، أمر له خصوصيته، حيث تتحول كل جملة معه إلى رحلة، وكل صورة في ذهنه إلى مدينة، وكل اسم يتذكره إلى حدث تاريخي.

علاقة السينما كصورة متحركة بما نعيشه من أحداث وتراكمها على الذهنية الجماعية؛ يجعل من هذه الوسيلة بابا لا يمكن تجاهله في تناول القضايا التاريخية، فقد تحوّل التدوين اليومي من كراسات المؤرخ إلى عدسات المخرج وأعين هواتفنا إلى أسرع وسيلة نختطف بها لحظات لها مكانتها في البنية التأسيسية لذاكرتنا المشتركة.

من هذا المنظور ندخل في تداعي الأفكار، ونسترجع بعص الجوانب من السينما والتاريخ مع الأستاذ “كيريل رازلوغوف” المختص في السينما وتاريخ السينما بمدرسة فغيك (VGIK) الروسية، والمدير الفني لمهرجان موسكو المصنف “إيه” (A). إنها أول مدرسة للسينما في العالم، وتوجد بموسكو في روسيا، حيث أسس ثاني مهرجان في العالم عام 1935 بعد مهرجان البندقية، والذي كان أول رئيس لجنة تحكيم فيه “سرغاي آيزنشتاين”.

ينحدر كيريل رازلوغوف من عائلة متعددة الجنسيات، فهو من أصول روسية بلغارية أرمنية، وانطلق من تعدد اللغات المتمكن منها فأصبح مسافرا مستمرا.

قد يبدو لك جاسوسا في سن التقاعد أو وزير خارجية سابقا، أو ربما أستاذ لغات في جامعة كبيرة، لكن الأوصاف هذه لا تنطبق عليه، وذلك لفضوله المستمر في التنقيب عن كل ما يجده في عالم السينما يوميا ليصير خبيرا في شؤونها. لقد كان تعدد اللغات عنده وسيلة لقراءة الأفلام من زوايا متعددة، والإلمام بأبعاد الكتابة السينمائية والإحاطة بكل طبقاتها المتراصة.

رازلوغوف والسينما.. وَلَع لا ينقطع

ولد رازلوغوف في موسكو عام 1946 كمواطن سوفياتي، لكن في عام 1948 أصدر الاتحاد السوفياتي قرارا بترحيل كل الأجانب، فاسترجع والده جنسيته البلغارية.

مارس والده السياسة حتى صار نائب وزير التجارة الخارجية، وفي عام 1960 أُرسل كممثل للتجارة البلغارية في فرنسا.

درس رازلوغوف في مدارس باريس لكونه بلغاري، لأنه لم يكن مسموحا لأبناء السوفيات التعلم بمدارس فرنسا حينها، فتمكن كيريل من الفرنسية سريعا لشغفه بأدبها، وكان مولعا بالسينما التي لم تكن في متناول ميزانية العائلة، حيث الراتب الدبلوماسي لم يكن مرتفعا آنذاك. كان سعر التذكرة فرنكين اثنين في قاعات باريس، لكن كيريل تجنب العروض الأولى للفيلم الجديد التي كانت بـ6 فرنكات، وبعد أسابيع قليلة انخفض سعر الفيلم بعد حصريته.

هضم رازلوغوف خلال تلك الفترة كل ما يمكن من الأفلام الكلاسيكية، وتصادَف ذلك مع الموجة الجديدة التي فرضت الحديث عنها في كل طبقات المجتمع، فقرر ربط مصير حياته بالسينما وليس بالرياضيات التي كان نابغا فيها.

كان رازلوغوف يقرأ كل ما يُنشر عن سينما الموجة الجديدة، ويدمن على القاعات بمعدل أربعة أفلام في الأسبوع، مضيفا إلى خزينته المعرفية كل ما يعرض بالتلفزيون المنافس الجديد للسينما. أعجب رازلوغوف كثيرا بفيلم “المواطن كين” لآرسن ويلز، فكتب تحليلا سينمائيا بالروسية عن هذا المخرج النابغة، كما استقطبته أفلام الفرنسي “فرانسوا تريفو” كثيرا.

غنت المغنية والممثلة الأمريكية "مارلين مونرو" يوم 19 مايو/أيار، وذلك احتفالا بعيد الميلاد الـ45 للرئيس الأمريكي "جون كيندي"
غنت المغنية والممثلة الأمريكية “مارلين مونرو” يوم 19 مايو/أيار، وذلك احتفالا بعيد الميلاد الـ45 للرئيس الأمريكي “جون كيندي”

لغز الشهر الخامس

انفصل والد رازلوغوف ووالدته في مايو/أيار من عام 1962، وقبل الرجوع إلى بلغاريا أخذه والده إلى مهرجان “كان” مع الوفد البلغاري، حيث عُرض الفيلم البلغاري “بلينو ياتو” (Planeno Yato) للمخرج دوتشو موندروف في المسابقة الرسمية، ونافسه ذاك العام الفيلم المغربي “أرواح وإيقاع” للمخرج عبد العزيز رمضاني، ومن الهند فيلم “الآلهة”. وكان في لجنة التحكيم المخرج الفرنسي “فراسوا تريفوا”، وفاز بالجائزة الذهبية للمسابقة حينها الفيلم البرازيلي “كلمة وعد” للمخرج أنسيلمو دوارتي.

وغنت المغنية والممثلة الأمريكية “مارلين مونرو” يوم 19 من هذا الشهر، وذلك احتفالا بعيد الميلاد الـ45 للرئيس الأمريكي “جون كيندي”، فقد غنّت أمام قاعة تعجّ بما يزيد على 15 ألف شخص، إضافة إلى 40 مليون مشاهد أمام شاشات التلفاز. لم يكن أحد يعرف أن المغنية والمُغنى له سيلقيان حتفيهما في أمور ما زال لغزها لم يفشِ بأسراره لحد الآن.

بعد واقعة كوبا وفشل الانقلاب ضد “كاسترو”، كان كيندي يشعر بالضعف أمام كروتشوف الذي تمكن من إيصال صواريخ نووية إلى عقر الدار الأمريكية محملة على بواخر ملاحية سرا. كيندي الذي عارض مشروع ديمونة النووي الإسرائيلي وتحدى البنك الفدرالي بتحكمه بالعملة الأمريكية؛ كان يعتقد أن الريح تهبّ في اتجاهه، لكنه لم يكن يعلم أن المقربين له لهم آفاق تختلف تماما عن أفقه.

كان شهر مايو/أيار من العام نفسه من أبشع أيام الثورة الجزائرية، حيث كانت عصابات المنظمة المسلحة السريّة التابعة للفرنسيين الرافضين للاستقلال (OAS) تُدمر وتقتل وترهب.

في عام 1964 استرجع كيريل رازلوغوف جنسيته السوفياتية، فعمل في الترجمة بدار نشر للأدب مترجما من الفرنسية إلى الروسية
في عام 1964 استرجع كيريل رازلوغوف جنسيته السوفياتية، فعمل في الترجمة بدار نشر للأدب مترجما من الفرنسية إلى الروسية

ترجمة الأفلام.. بداية رحلة الإبداع

كان رازلوغوف يتنقل من فيلم إلى آخر، حيث قال بصوت يملؤه الحنين “كان المهرجان أكثر ديمقراطية، كنتُ أستعمل بطاقة دخول أبي، ورغم انعدام الشَبَه بين صورتي وصورته فإن الحراس لم يمنعوني، أما في السهرات الليلية فكنت لا أتردد عليها، وذلك لاقتضائها بدلة رسمية لم أكن أملكها”.

التقى رازلوغوف بـ”فرانسوا تريفو”، وترافق صدفة بالمصعد مع “جان مورو” التي كانت من ألمع النجمات حينها، لم يكن يعرف أنه بعد لقاء خاطف معها سيتحول إلى مترجم لها عندما زارت مهرجان موسكو بعدها.

في عام 1964 استرجع كيريل رازلوغوف جنسيته السوفياتية، فعمل في الترجمة بدار نشر للأدب مترجما من الفرنسية إلى الروسية.

حاول رازلوغوف الدخول إلى مدرسة فيجيك للسينما (VGIK)، ونجح في امتحانه الأول، وقال “في الامتحان الثاني عوض أن أكتب تحليلا لفيلم سوفياتي، كتبت 19 صفحة من تقطيع تقني، فاكتشفت بكل صراحة ونزاهة أنني غير قادر على كتابة تحليل فيلمي”.

وعلى الرغم من أن والده كان يمكنه أن يتخطى عقبة الامتحان، فإن الشاب رازلوغوف قال في نفسه “أعترف بصعوبة إنجاز أفلام أُعجبت بها مثل المدرعة بوتومكين، وأنا لا أريد أن أضخم عدد الأفلام الرديئة”. لذا قرر أن يعرض الأفلام وأن ينظم مهرجانات لدعم الأفلام الجيدة، لكنه عاد إلى نفس المدرسة بعد سنوات كمعلم لمادة تاريخ الفنون.

لقد قام رازلوغوف ببحث حول السينما الصامتة قبل 1914، لكن الرقابة أعلنت أن السيميولوجيا محظورة، فقرر تغيير العنوان البحثي وعنونته بـ”تطور الأشكال السينمائية في بدايات السينما الصامتة” دون تغيير المضمون. عمل رازلوغوف بعدها في أكبر أرشيف سينمائي في العالم بموسكو، مما سمح له بمشاهدة أفلام لم تكن في متناول العامة.

لا يتحدث رازلوغوف كثيرا عن أمه، لكنه اختار الحياة بموطن الأم لأسباب أخرى، منها خشيته من أن تغلق الحدود أيام الحرب الباردة، حيث قال “البقاء في بلغاريا لا يسمح بالسفر بعيدا داخل حدودها لصغر مساحتها، أما السفر في الاتحاد السوفياتي كان ممكنا طيلة العمر في حالة إغلاق الحدود، وذلك لكبر خريطتها”.

عمل كيريل رازلوغوف بمهرجان موسكو كمترجم للأفلام عام 1967، وفي عام 1999 أصبح مديرا للمهرجان.

رازلوغوف: الإسلام في روسيا هو ثاني ديانة بعد الأرثوذوكسية
رازلوغوف: الإسلام في روسيا هو ثاني ديانة بعد الأرثوذوكسية

رازلوغوف والعربية

أما عن أهمية اللغة العربية لعلاقة السوفيات بالعرب منذ زمن بعيد، يقول رازلوغوف: “للأسف الشديد لا أتكلم العربية، انتبهت لأهميتها مرة حين كنتُ حاضرا في مأدبة عشاء بمهرجان كازان، فهمت أن العربية لغة الدين التي توحدهم، كانت المائدة تضم أكثر من 15 شخصا كلهم يفهمون اللغة نفسها بمستويات متفاوتة إلا أنا”.

هذا الاهتمام برز في زمن السوفيات عبر دعمهم للثورات العربية ضد الإمبريالية المستعمِرة، “حاليا هناك قنوات إخبارية باللغة العربية لها جمهور كبير بالوطن العربي، ونسبة كبيرة من العاملين فيها روس يتقنون العربية”.

أضاف كيريل رازلوغوف مفتخرا بأجيال روسية متفتحة على حضارات العرب وفنونها قائلا “الإسلام في روسيا هو ثاني ديانة بعد الأرثوذوكسية”، لكن روسيا في عهد ستالين صوّتت لصالح قرار التقسيم في الأمم المتحدة عام 1948 الذي يقتضي إعلان دولة إسرائيل إلى جانب دولة فلسطين.

ولكن هل خُدع ستالين بفكرة اليسار الصهيوني الذي صوره له اليهود كحاجز ضد الإنجليز والفرنسيين هناك، أم كان له غرض آخر من وراء هذا التصويت؟

ما كان ستالين ليُخدع لولا رغبته في التخلص من الجالية اليهودية التي نظمت عددا كبيرا من العمليات الإرهابية ضده، لذلك دعم ستالين فكرة الهجرة إلى وطن اليهودية بحجة أن الصهيونية اشتراكية جديدة.

كيف تم تجنيد المسلمين ضد السوفيات في الحرب الأفغانية، وما هي أسباب غياب الأدلة الحقيقية لهذه الثورة من كتب التاريخ؟

في واقع الأمر كان في أفغانستان الملك “ظاهر شاه” الذي تم الانقلاب عليه من طرف جماعات يرأسها الجنرال “داود خان”، وهو مثل ما قام به الضباط الأحرار بزعامة عبد الناصر في مصر ضد الملك فاروق، ثم قُتل الجنرال من طرف جماعة أسست دولة اشتراكية، مما دفع المعارضين لها بالهجرة من البلاد.

استغلت القوات الأمريكية هذا الوضع بالزحف إلى حدود أفغانستان ونشر صواريخ تقابل الحدود السوفياتية، وطلبت الحكومة اليسارية الأفغانية من السوفيات المساعدة، فحلّ الجيش السوفياتي بعتاده وجيشه من جهة ضد المتطرفين المسلمين، ومن جانب آخر للتصدي للوجود الأمريكي الذي صار قريبا من الحدود الروسية. في هذا الظرف شُيطن السوفيات بفعل الدعاية الأمريكية التي صورتهم كمستعمرين يجب التخلص منهم.

كيريل رازلوغوف مع عائلته
كيريل رازلوغوف مع عائلته

الشيوعية الملحدة ضد الإسلام المؤمن

يستغل المخرج الكندي “تاد كوتشيف” الوضع عام 1983 لإنجاز فيلم “رامبو”، وهو البطل المنعزل الذي لم يتأخر كثيرا عن الذهاب إلى أفغانستان بصحبة الإسلاميين لتحرير البلاد من العنف الشيوعي، وذلك في فيلم نُشر كثيرا في البلاد العربية تمهيدا لقبول فكرة الشيوعية الملحدة ضد الإسلام المؤمن.

الملابسات في الأفلام الأمريكية التي تُصور الشيوعية على أنها إلحاد؛ لا تُحصى، إنها مبنية على عدم اعترافها بالخالق، غير أن الواقع النظري لا علاقة له بوحدانية الله، لأن الحزب السوفياتي الواحد أراد أن يكون الولاء له كقيادة شعبية، فقام بعزل الديانات جميعها وليس الاسلام فحسب. أما الآن وبعد انهيار العملاق السوفياتي فإن اللغة العربية عادت إلى طليعة الاهتمامات السياسية في روسيا.

يؤكد رازلوغوف “في هذا السياق، وبعدما عرضتْ سابقا السينما العربية بمهرجان موسكو لأفلام صلاح أبو سيف وشاهين وراشدي، فإن السينما العربية خاضعة لتقلبات السياسة فيها، لذا قد يكون هذا مصدر إبداع كما قد يكون مصدر تكرار. تبرز حاليا السينما اللبنانية التي عرضت فيها فيلم “القضية 23” للمخرج زياد دويري في برنامج خاص بالمنطقة، مثلما عرضت “فيلمك تايم لايف” خارج المسابقة هذا العام.

حين تخلق السينما الأمريكية أعداءها

أما شخصية “رامبو” فما زالت تتردد على الشاشات في حلقة خامسة ستعرض في نهاية سبتمبر/أيلول 2019، لكن هذه المرة ليس الروس هم الأعداء وإنما المكسيكيون الأشرار وعصابات المخدرات. السينما الأمريكية مثل سياستها تبحث دوما عن عدو، وإن لم تجد فإنها تخلقه سيناريستيكيا.

في الجزء الرابع وبكل براءة تتمحور شخصية “رامبو” في مهمة لإنقاذ أقلية من التيبت، وهذا بطلب من تجمع مسيحيين يريدون مساعدة هؤلاء المضطهدين من طرف الجيش البرمائي. أما في الجزء الثاني فإن البطل يذهب إلى فيتنام لاسترجاع سجناء أمريكيين هناك. كل مرة ينجح في مهمته، وكل مرة السوفيات والفيتناميون والبرمان والمكسيكيون هم الأشرار. فهل السينما التجارية الأمريكية بروباغندا سياسية لم يعد أحد ينتبه إلى خطورتها في تدجين العقول؟ ولماذا عندما تُصور أفلام من هذا النوع من الجانب الآخر -أي الروسي- يُنظر لها فورا كسينما سياسية بحتة رغم أنها لا تخالف نظيرتها الأمريكية؟

السينما العربية والسياسة

نلاحظ منذ ثورات الربيع العربي ابتداء من تونس وامتدادا لما يحدث الآن في اليمن والسودان، وجود أفلام يسيطر عليها البُعد التلفزيوني والتقرير الصحفي الحصري، حتى وإن كانت هذه الأفلام بميزانيات عالية أحيانا، وبأداء ممثلين بارعين.

إن الإلحاح الكبير على هذه المواضيع يجعل السينما العربية -وخاصة المغاربية- منحازة إلى توجه سياسي غربي يُنظّر للواقع العربي كحرب على الإرهاب، ولو أن هذه الشمولية تسمح للعديد من الأفلام بالتطاول على الدين الاسلامي بحجة الديمقراطية وحرية التعبير. فهل تحولت السينما عند المخرجين العرب إلى إعادة تصوير الحدث الإخباري التلفزيوني، أم أن السينما هي بالضرورة انعكاس للواقع؟ وفي هذه الحالة لماذا لا يكون الوثائقي أولى من أفلام تُكلّف عشرة أضعاف ميزانية الفيلم التسجيلي؟

تنميط عربي.. وفشل سينمائي

هذا العام بمهرجان “كان” ومهرجان “البندقية” تمت برمجة أفلام عربية كلها لها توجه ديني دون استثناء، وكأن العالم العربي يخلو من كل اهتمام اجتماعي وفني آخر. فهل أصبح الوطن العربي لا يمكنه سرد قصصٍ أبطالها مهندسون في الزراعة، أو أطباء مختصون بجراحة العين، أو باحثون في مجهريات البيولوجيا، أو نساء في عالم الفيزياء، أو معلمات في علم الفلك؟

كل الشخصيات في معظمها إما نساء وراء الفرن، أو متحجبات يبحثن عن التخلص من الدين، أو شباب يريدون الذهاب إلى سوريا. كل هذه الأفلام يربطها عامل مشترك واحد هو أن تمويلها بالنصف أو بالأغلبية من جهات غربية. فهل تحول الوطن العربي والمخرجون العرب إلى أجندات فارغة تُعبئ بما تشتهيه مهرجانات الغرب؟ فلماذا لم نرَ منذ عقود فيلما عربيا واحدا بمهرجان عالمي مُصنف “إيه” (A) من إنتاج عربي بالكامل؟

مصر والسوفيات.. علاقات سياسية فقط

انجرف الحديث مع كيريل بتداعي الأفكار إلى العلاقة السوفياتية العربية بالسينما، فذكّرته بتدخل السوفيات في حروب العرب، ليؤكد لي كيريل “مشاركة الطيارين السوفيات في حروب مصر وسوريا لم تذكر بالسينما السوفياتية، لكنها ذُكرت في الأدب”، فذكرته بأن مصر أنجزت عدة أفلام عن حرب 1973، لكن دون التطرق إلى الحضور السوفياتي.

لقد استرجعت مصر آخر شبر من أراضيها من إسرائيل عام 1982، وباكرا صُورت أفلام روائية وتسجيلية عن هذه الحقبة، من بينها “الرصاصة لا تزال في جيبي” من إخراج حسام الدين مصطفى عام 1975، وفيلم “جيوش الشمس” لشادي عبد السلام عام 1974، وأفلام أخرى وزعت وعرضت في مصر وخارجها. غير أن هناك العديد من الأفلام التي لا تُشاهد من طرف الجميع عن هذه الحرب، منها فيلم “حائط البطولات” الذي أخرجه محمد راضي عام 1999، حيث مُنع الفيلم من طرف الرقابة لمدة 12 عاما، وذلك لأن الفيلم تطرق لسلاح الدفاع الجوي الذي لم يكن مرغوبا الرجوع إليه حسب الرئيس مبارك.

مرة أخرى كان شهر مايو/أيار مسرحا لاستعراض الطائرات السوفياتية الجديدة “سو17″ و”ميغ 25” في القاهرة عام 1972، وبحضور الرئيس أنور السادات، ووزير الدفاع السوفياتي “جريتشكو”، وذلك مع كبار الطيارين “فيكتور شاروف” و”فيكتور سابجين”.

كانت مهام هذه الطائرات تتعدى التصدي للمقاتلات الإسرائيلية، حيث كانت تتوغل بالعمق العبري من خلال تحليقات استطلاعية سرية، ورغم نجاح كل هذه المهمات فإن السادات أمر السوفيات بمغادرة الأراضي المصرية، لكن عندما تأكد أن دورهم ضروري عام 1973 عاد السوفيات في بناء جسر جوي مماثل للجسر الأمريكي لإسرائيل. كان هذا الدعم ضخما من حيث العتاد، فوصل الحضور السوفياتي إلى 220 خبيرا.

لكن لماذا لم تهتم السينما بهذا الجانب من العلاقة المصرية الروسية مثلما تفعل السينما الأمريكية في كل جبهاتها؟ إنه العام الذي رُبط فيه الدولار بالبترول عوض الذهب، فكانت الحرب السرية بين عائلة روتشيلد وعائلة روكفيلر لصالح الأخيرة المتحكمة في البترول.

لقد صدر النشيد الأممي أول مرة بروسيا بلغة الإيدش
لقد صدر النشيد الأممي أول مرة بروسيا بلغة الإيدش

اليهود والصهيونية في الاتحاد السوفياتي

حسب الأستاذ “غريغوري كوساتش” الخبير في شؤون الشرق الأوسط، واعتمادا على وثائق الأممية الشيوعية “الكومنترن”، فإن سياسة الاتحاد اليهودي العمالي العام “بوند”، وسياسة حزب “عمال صهيون” عام 1920؛ كانا يختلفان رغم أن كليهما كان قوميا يهوديا، لكن حزب “بوند” لم ينادِ بالعودة إلى فلسطين بعكس الثاني، لأن فكرة المساواة الاشتراكية أغرتهم كثيرا لكونهم تعرضوا للمضايقة أيام روسيا القيصرية، حتى إن البلاشفة كان موقفهم سلبيا من أفكار “عمال صهيون” الذين شجعوا الهجرة إلى فلسطين.

وفي عام 1897 تأسس حزب البوند، والكلمة تعني اتحاد بلغة الإيدش، وهو الاتحاد اليهودي العمالي العام في بولندا وليتوانيا وروسيا، والذي كان أول تنظيم ديمقراطي في أيام الإمبراطورية الروسية، حيث عقد مؤتمره الأول قبل الحزب الروسي.

لقد صدر النشيد الأممي أول مرة بروسيا بلغة الإيدش، وكان هذا الحزب الأكثر تقدمية في ذلك الوقت، وكان البوند خصما حقيقيا للصهيونية، وذلك لأنهم كانوا ضد فكرة الوطن الخرافي البعيد عن واقعهم المُعاش.

إن المؤسس للفكر الصهيوني هو “بير بوروخوف”، وفي عام 1902 أُسست في أوكرانيا أول حركة لعمال صهيون. كان بوروخوف يريد المشاركة في حركة المساواة العالمية، لكن لم يكن ممكنا هذا من دون البروليتاريا (الطبقة العاملة)، لأن الهرم الاجتماعي مقلوب عندهم، فالمجتمع العادي مكون من الطبقة الكادحة، وكلما كانت طبقة العمال كبيرة تكون الطبقة البرجوازية ضئيلة، ولأنهم لا يمارسون الزراعة والتجارة الكبيرة لعيشهم في حدود جغرافية محدودة، فلا مُلاك أرض لديهم، وبالتالي الهرم مكوّن من برجوازية بشكل عريض.

كان يستحيل قلب الهرم في الأرض الروسية لأن المنافسة القومية الروسية والبولندية لا تسمح لهم بالتوسع، فكان رجال الأعمال غير اليهود لا يستعملون العمال اليهود، وإنما العمال الروس، لذا فكر “بير بوروخوف” أن بناء اشتراكية بفلسطين لن تقابلها منافسة مثل التي يعانون منها بروسيا.

عام 1906 دخل فرع للحزب الروسي “عمال صهيون” الذي كان على رأسه أفراد من الإمبراطورية الروسية، من بينهم “ديفد غرين” الذي غير اسمه إلى “بن غوريون”.

فيلم "باب الشمس" من إخراج يسري نصر الله
فيلم “باب الشمس” من إخراج يسري نصر الله

فلسطين في الـتأريخ السوفياتي

يكتب بير بوروخوف أن “الفلسطيني لا يملك ثقافة قومية خاصة به، إنهم سيقبلون أي ثقافة مستوردة شريطة أن تكون أعلى من ثقافتهم، يجب دمجهم اقتصاديا وثقافيا”.

كان بوروخوف يراهن على أنهم سيفضلون المساواة على إقطاعية الباشوات العثمانية، لكن سرعان ما أَظهر هذا التجمع حدّة أفكاره في شعارات ثلاثة هي: احتلال الأرض والعمل واللغة.

كانت عملية شراء الأراضي تعتمد على أشخاص لم يكونوا موجودين على الأرض الفلسطينية، فعائلة “سرسق” الأرمنية المقيمة في لبنان كانت من أكثر مالكي الأراضي بفلسطين، فقد تم إغراؤهم من طرف رجال أعمال يهود لبيع أراض لا يستعملونها ولا يحتاجونها، وذلك مقابل مبلغ كبير كان سريع الإقناع.

كان الفلاح الفلسطيني لا يعرف أن الأرض قد تغيرت عقود أصحابها، ليأتي المُلّاك الجدد من اليهود فيطردونه.

سينما ناقصة

هذه جوانب سينارستيكية لا نراها في السينما العربية ولا نجد من يدقق فيها، لا في السينما الفلسطينية ولا السينما المساندة لهذه القضية، عدا فيلم “باب الشمس” من إخراج يسري نصر الله الذي يعود إلى هذه الحقبة، أو أفلام تسجيلية نادرة.

سينمائيا كانت العروض مستمرة، حيث عرض فرانسوا تريفو فيلمه “الليلة الأمريكية” عام 1973، أما فيلني فكان يعرض “أماركورد”، أما عربيا فهنري بركات أخرج فيلم “امرأة سيئة السمعة”، والجزائري محمد بوعماري أخرج فيلم “الفحام”، والمغربي سهيل بن بركة الذي عرض “ألف يد ويد”، ونافسه التونسي عبد اللطيف بن عمار بفيلم “سجنان”.
أما أفريقيا فقد ظهر فيلم “توكي بوكي” للسينغالي الثائر جبريل ديوب مونبيتي بأسلوب جديد لما كان ينجز بالقارة السمراء قبله، وفي الهند “ساتياجيت راي” الذي أخرج فيلم “رعد بعيد”، لكن في الاتحاد السوفياتي عرض فيلم “التحكم بالنار” عن البرنامج الفضائي السوفياتي.

السوفيات وهاجس الأمريكيين

بدا التحضير لغزو الفضاء عام 1920، لكن حتى موعد الإرسال الأول ليوري غاغارين عام 1961 كان البرنامج سريا للغاية، وكانت الأسماء مستعارة بالأفلام وبعيدة عن الواقع، خوفا من تفشي أيّ معلومة للجانب الأمريكي. يقول كيريل “إن هذه الأفلام وصلت إلى أمريكا، وكانت تعرض على الجمهور لكن بعد إعادة تركيبها، لأن المشاهد الأمريكي كان متعودا على الاختصار في السرد وعلى التركيب السريع”.

إن الرقابة السينمائية الأمريكية تتعامل بحذر شديد ليس فقط مع السينما السوفياتية، بل مع السينما الأمريكية ذاتها، لكن لا أحد كان يتوقع عام 1973 أن الممثل “مارلون براندو” سيرفض جائزة الأوسكار لفيلم “العراب” للمخرج فرانسيس كوبولا، وذلك احتجاجا على معاملات الحكومة الأمريكية للهنود الحمر، فصعدت الممثلة “ساشين ليتل فيذر” مكانه لتُلقي خطابا مباشرة رافضة استلام التمثال، وذلك أمام استفهام بريطاني للممثل “روجي مور” بطل جيمس بوند.

ممثلة أخرى ارتبط بها كريل رازلوغوف وهي “جان مورو” التي كان لها فيلم هام هذا العام من إخراج مارغريت دوراس بعنوان “ناتالي غرانجر”، أما الحدث السينمائي الهامّ بمهرجان موسكو هذا العام فكان دخول فيلم ستانلي كوبريك “ملحمة الفضاء 2001” في المسابقة الرسمية، حيث “نال فقط جائزة تقنية غضب منها وأجهر بعدائه المطلق للسوفيات بعدها” يسخر كيريل.

رازلوغوف واللغة السينمائية

إن اللغة السينمائية تحمل دوما في ثنايا لقطاتها لغات تتسرب إلى الذهن وتستقطب القلب، فالفرنسية لغة سينمائية زامنت اختراعات الإخوة لوميير ومن سبقهما وعاصرهما. إنها لغة المسرح، حيث تُعرف بـ”لغة موليير” كناية لفصاحتها ودقتها في وصف الحالات الدرامية والكوميدية التي اشتُهر بها المسرح الفرنسي.

“لقد تعلمتُ الفرنسية من أفلامها رغم شغفي ببلزاك، لكن السينما الفرنسية تعاني لحد الآن ما سماه تريفو سينما الأب. لقد قرأت رواية “تولستوي” الكبيرة “حرب وسلام”، ومعظم الحوار فيها كان بالفرنسية، لقد شاركت في تصحيح الحوارات بفيلم المخرج “بوندارتشوك” المقتبس من الرواية نفسها”.

قبل أن يتوغل كيريل رازلوغوف في الحديث عن هذا الفيلم العملاق، يُصرّ على أن يلفت الانتباه إلى رهافة هذه اللغة لديه “إنها لغة الأرستوقراطية ولغة الحب بروسيا، لكنها فقدت مكانتها لصالح الإنجليزية، رغم أن كلمات عدة بقيت مستعملة في الروسية، ورغم غزوات نابليون، فلم ينفر الروس من هذه اللغة”.

أفلام روسية ضخمة

يتحدث رازلوغوف فيجعلني أفكر في الأفلام الروسية التي صُوّرت عن الإمبراطور الفرنسي الذي يختلف الفرنسيون ذاتهم بشأن بطولاته المُصنفة كحملات استعمارية، فهي لم تخدم فرنسا من جهة، وكرائد إستراتيجي مُحنّك حسب أنصار التوسع الجغرافي من الجهة المقابلة.

إن فيلم “سرج بوندارتشوك” الطويل وفيلم “حرب وسلم” من أهم الأفلام التي صورت هذه الغزوات الفرنسية على روسيا، حيث عُرض بسينماتيك الجزائر في بداية الثمانينيات، وحضره المخرج الروسي في العاصمة الجزائرية.

لقد كان فيلم “حرب وسلام” فيلما حربيا لحد الآن، حيث إن بعض المَشاهد فيه مثّل فيها أكثر من 120 ألف كومبارس، وهو رقم خيالي لا يمكن تحطيمه. كما استهلك الفيلم أكبر ميزانية في السينما السوفياتية عام 1961، وتبلغ مدة الفيلم سبع ساعات، أربع منها للفصل الأول فقط. إنه فيلم الأرقام القياسية، إذ يصور معركة “بورودينو” لمدة 45 دقيقة كاملة، حيث قُتلت خيول عدة بالفيلم تضحية بالواقعية، مما دفع الجمهور الأمريكي لمقاطعته.

صُوّر الفيلم بعيار 70ملم، وعرض بالعيار نفسه. كما صُممت خصيصا له كاميرات مصغرة يسهل إخفاؤها ضمن الكومبارس، وبعض منها حُمل على كابلات كانت تقطع مساحات هائلة عبر المعارك.

ليست هناك أيّ إحصائية عن الحوادث البشرية غير المستبعدة، إذ كانت الخيول تقتل فعلا أثناء التصوير. لذا “دوستويوفسكي” كاتب عملاق يحتاج إلى سينما عملاقة.

فلماذا لسنا قادرين على إنجازات تاريخية بهذا الحجم؛ فلا ينقص في الأدب العربي الكتاب ولا الشعراء ولا الملحمات ولا في ميثولوجيا العصور التي عاشتها شعوب ما قبل العرب في أوطاننا. وكيف نُفسر التعامل الحذر مع الأفلام السوفياتية التي كانت تخشاها أمريكا وتخشى بلوغ رسائلها الاشتراكية إلى قلب المواطن الأمريكي، بينما حاولت استقطاب مخرجين سوفيات أولهم “سرغاي آيزنشتاين”؟

يجيب كيريل في فترة ما بعد ستالين عرف الاتحاد السوفياتي انتعاشة وحرية عابرة سمحت “لآيزنشتاين” بالسفر فيها إلى أوروبا، ومنها إلى أمريكا التي قدمت له عرضا مغريا بمئة ألف دولار لإنجاز فيلم بالمكسيك لم ينتهِ منه لخلاف في السيناريو مع الجانب الأمريكي. ويوضح “كان ذلك في إطار إستراتيجية هوليودية لاستقطاب سينمائيين من كافة أنحاء العالم، لكن هذا المشروع تمّ بأموال مناصرة للشيوعية، ومن بين كبار الأسماء كان “إليا كازان” الذي يرأس الفرع الشيوعي للممثلين والسينمائيين الأمريكيين”. فانتبهت أن آيزن شتاين المولع به في مدارس العالم لم ينته من عدد كبير من أفلامه، مثلما لم ينتهِ الأمريكي آرسن ويلز المولع به كيريل لعدد آخر من أفلامه.

كيريل: الفرق بين "إيزن شتاين" و"ويلز" هو أن الأخير لم يكن سياسي التوجه عكس الثاني
كيريل: الفرق بين “إيزن شتاين” و”ويلز” هو أن الأخير لم يكن سياسي التوجه عكس الثاني

هل الإبداع يلاحقه سوء الحظ أم أن هؤلاء لا يفهمون البراغماتية أو النفعية الضرورية لإتمام أي عمل؟ “هناك عدد كبير من أفلام مخرجين مجهولين لم ينتهوا من أفلامهم إلى الأبد، مثلما هناك مخرجون أصحاب فيلم واحد جيد، لكننا نتوقف عند الأسماء المعروفة دوما، ونُنقب في جزئيات حياتهم فتبدو لنا أشياء عادية كأنها استثنائية”. ويضيف لرشق المسمار نهائيا في الجدار “إيزن شتاين أنهى حياته في إعادة تركيب أفلام الغرب المعروضة بالسوفيات”.

فهل كان المعلم الكبير يعمل في مكتب الرقابة السينمائية؟ لم أطرح هذا السؤال على كيريل لأنني ربما لم أرد أن أعرف أكثر. الرقابة أنواع منها السياسية التي تقنن ومنها التعسفية التي تأمر وتعزل.

ففي عام 1950 ظهر في أمريكا السيناتور “ماك أرتور” مشيرا بأصابع تتهم العديد من المواطنين بالتجسس والخيانة، فتحول المواطنون إلى مخبرين يكشفون عن بعضهم بعض، وككل موجات هستيرية يتحول من كان يساعد ويدعم السوفيات إلى مُخبر يُعطي الأسماء التي تدخل في قوائم سوداء.

القوائم السوداء دفعت العديد إلى مغادرة أمريكا مدى الحياة، من بينهم العملاق شارلي شابلين. لقد كانت حملة اتهامية تشكيكية في كل مواطن يُشتبه به أيّ علاقة مع أيّة توجه يساري، حتى في عملية اغتيال الرئيس كيندي، فقد مسح السكين على ظهر المناصر للشيوعي “أوسفالد” لقربه من كوبا.

حاليا في فرنسا تم تقنين موضوع المقاطعة، حيث يمنع أيّ نداء لمقاطعة أيّ بلد مقابل غرامة مالية عالية وتهديد بالسجن، وهذا بعدما نادت جاليات العرب بمقاطعة المنتوجات الإسرائيلية الآتية من المناطق الفلسطينية المستعمرة. هنا نحن أمام دول أوروبية حُرّة تجبر لوضع قانون يمنع ويلاحق كل من ينادي بمقاطعة إسرائيل، وهذا موضوع سينمائي بحت يمكن للفيلم التسجيلي أن يدقق في تفاصيله، أي نحن أمام منع للمنع، وهذه ظاهرة جديدة مُقنّعة باسم الحرية التجارية.

رغم برودة هذه الحرب أُطلق عليها اسم “التهديد الأحمر”، من هنا نُصادف أن كل أفلام الخيال العلمي تتطرق إلى تهديدات سكان المريخ فقط لأنه الكوكب الأحمر، فالعدو الذي لا نعرفه يأتي دوما من كوكب أحمر.

وماذا عن المقارنة بين “آرسن ويلز” و”إيزن شتاين”؟ “الفرق بين “إيزن شتاين” و”ويلز” هو أن الأخير لم يكن سياسي التوجه عكس الثاني، لكن ويلز قبل أن يكون مخرجا كان يعمل بالراديو، وفي عام 1938 أُذيعت عبر الراديو مسرحية أخرجها “آرسن ويلز” وهي “حرب العالم” على قناة “سي بي إس” الأمريكية. تتلخص الرواية في هجوم كوكب المريخ على الأرض، حيث فزع الكثير من المستمعين للمسرحية ظنا بأنها بث مباشر، فهرع الكثير من منازلهم، وخلق هذا البرنامج جوّا من الهلع الكبير.

وهل كان آرسن ويلز يتعمد الخطر الأحمر أم أنه لم ينتبه للمغزى السريّ للرواية؟ يؤكد كيريل أنه في زمن الحرب الباردة “استضاف السوفياتُ ماري بيك فورد النجمة الأمريكية للسينما الصامتة وأسماء أخرى، وذلك في إطار فضول سينمائي بحت، دون أن يُحرج ذلك المؤسسة الرسمية”.

هلّا حدثّنا أكثر عن توزيع هذه الأفلام ومدى صعوبة إيصال الفيلم إلى الضفة المقابلة؟ رد قائلا “أمريكا التي فرضت نسبة هامة من أأفلامها على القاعات الفرنسية، قبلت الشرط الفرنسي بأن تقصّ من كل تذكرة نسبة تعود إلى المركز السينمائي الفرنسي، وذلك كي تُستعمل في إنتاج أفلام جديدة، أما الاتحاد السوفياتي فتوقف أمام برلين، لكنه فرض سينما نمطية اشتراكية ليس فقط في برامج العرض، وإنما في الإنتاج أيضا، وهذا في كل بلدان المعسكر الشرقي”.

“الرقابة كانت تضع عينا مجهرية دوما على كبار المخرجين في العشرينيات، لقد كان آيزن شتاين تحت المجهر رغم ولائه، وفي الثلاثينيات كاراسيموف وسينما الشعر، لكن الأستوديوهات كانت موجودة في كل الدويلات السوفياتية ببرنامج يُحدد فيه عدد الأفلام المنتجة سنويا مسبقا”. كانت الدولة تنتج 150 فيلما في الستينيات، وهي مقسمة بمعدّل بين أستوديوهات “موس فيلم” المركزية، وأستوديوهات “لينين غراد”، وأستوديوهات “غوركي” للشباب والأطفال.

أحيانا كانت الأفلام تُنتج في الدول البعيدة مثل كزاخستان، ولكون هذه المناطق لا تملك المؤلفين ولا المعدات، كان إرسال المخرجين الجدد هناك بمثابة تكوين لهم من جهة، وسدّ ثغرة الإنتاج بهذه المناطق. لذا كان أول فيلم لـ”كونتشالوفسكي” في كزاخستان “هذا يسمح للمخرج الناشئ أن يضمن تصوير فيلمه الثاني بالأستوديو المركزي إن نجح في الأول”.

ويوضح كيريل أن “التوزيع كان خاضعا لتصنيفات ثلاثة، الأول يسمح بتوزيع الفيلم في كافة القطر مع أجر عالٍ، والثاني كان بتوزيع محدود نسبيا مع أجر عادي، أما الثالث فكان بمثابة رقابة حادّة، ورغم ذلك كانت تسحب من الفيلم الرديء قرابة 200 نسخة تستعملها غالبا نوادي السينما”.

يؤكد كيريل على أن القرصنة كادت أن تهلك نهائيا بالتوزيع في روسيا، ويضيف “كل هذا الكمّ الهائل من القاعات لم يصمد أمام القرصنة لأشرطة الكاسيت بعد الفترة الغورباتشوفية، لكن انتعشت العروض مرة أخرى بعد عرض فيلم “تايتنك” الأمريكي بصوت الدولبي، مما أعطى نفسا جديدا للخروج إلى القاعات، ثم هذا اعتراف من “جيمس كاميرون” للباحثين الروس الذين ساهموا في التنقيب في أعماق المحيط لإيجاد هيكل الباخرة”.

فما هي الأفلام العربية والسوفياتية التي عالجت القضية الفلسطينية؟ وهل هناك من المخرجين العرب من يبحث في الأرشيف العالمي عن أسرار هذه الحقبة التي ما زلنا نعيش خلفياتها؟ وكيف يمكن إقناع العالم أن فاتورة البطش النازي يدفعها الفلسطيني؟

لا نجد بالسينما الروسية أفلاما تتحدث عن هذه الوقائع التي كانت روسيا فيها طرفا بالغ الأهمية. إذن فما هي الأفلام العربية التي توغلت بدقة في هذا الملف؟

كانت الأجهزة الاستخبارية البريطانية قد انتبهت إلى أن العرب واليهود يمكن أن يتوحدوا تحت الراية الحمراء، فنظمت العديد من عمليات الاستفزاز الهادفة لخلق خندق بين اليهود والعرب، لكن لم يتمكن الحزب الشيوعي الفلسطيني من تفادي هذه المآزق. ففي البداية كانت المجموعات اليهودية التخريبية تعطل الاقتصاد البريطاني، وتقتحم البنوك رمز الرأسمالية. هذه المجموعات نظمت في هياكل قريبة للجيوش بتسميات مختلفة، منها الهرغون والهغانا وفريق سترن.

لكن لماذا يقوم ستالين بهذا؟ لأن مشروع الدولة اليهودية كان ممكنا بالقرم بمساعدة أمريكية وأموال من الجالية اليهودية الأمريكية، غير أن ستالين استبق الحرب الباردة، ولم يرغب أن يوجد في جناح الدولة السوفياتية بلد جديد موالٍ لأمريكا.

تمكن هنري كيسنجر من رفع سعر النفط إلى أربعة أضعاف في شهور قليلة، وذلك بإقناع السعودية في السير على خطاه، وتزامن هذا الظرف مع فضيحة “واترغيت” والموقف الحرج للرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون.

أقنع كيسنجر نظيره السعودي باستعمال الدولار فقط كوسيلة لبيع وشراء النفط، وذلك مقابل وعود ردّ الجميل لاحقا بضمان دور قيادي لها في المنطقة وتزويدها بأسلحة حديثة. كما أقنع كيسنجر السعوديين بإيداع عائدات البترول في البنوك الأمريكية، وبالتالي فالأموال التي أُنفقت تعود إلى مصدرها، أي أن الأموال التي يُعاد دورانها تُستعمل في قروض للدول النامية بأرباح ونسب باهظة مُخصصة للمكسيك والدول اللاتينية وبعض البلدان الأفريقية، ويتم السيطرة على الدول عبر كل هذه الديون.

إن المزعوم أن السيادة الوطنية هي العلم والنشيد الوطني، لكن في واقع الأمر النظام النقدي الوطني هو السيادة الفعلية. فحرب عام 1973 هدفها الأساسي لا علاقة له لا بفلسطين ولا بإسرائيل، بل بحرب مالية داخلية.

بعد الحروب النابوليونية احتكرت عائلة روتشيلد المصرفية ذهب أوروبا، وحوّلته إلى مصدر سلطة، وكان

أول بلد اختار هذا المعيار إنجلترا. وفي عام 1867 انعقد مؤتمر باريس الذي اعتمد معيار الذهب الدولي. وفي عام 1922 انعقد مؤتمر جنوة الذي أقرّ السبيكة الذهبية. وفي عام 1944 انعقد مؤتمر “بريتن ودس” لتأكيد الذهب كمعيار نقدي، ثم عام 1976 أُعيد النظر في البنود وصار الدولار هو المقياس.

ومن هنا اخترع مفهوم البترودولار، حيث قرر مؤتمر الصندوق الدولي في جامايكا عام 1976

ترسيخ الدولار كعملة حتمية للتعامل في النظام المالي العالمي، فتم فصل الدولار عن المعيار الذهبي رسميا. وفي كتاب لينين “الإمبريالية كأعلى مراحل الرأسمالية” يصنف فيها خمس ميزات اقتصادية للإمبريالية:

1-  نشوء الشركات الاحتكارية

2- اندماج رؤوس الأموال للصناعيين والمصرفيين، ونشوء رأس المال على هذا الأساس

3- يصبح إصدار الأموال سائدا على تصدير السلع

4- تقسيم العالم اقتصاديا بين الشركات الاحتكارية

5- تقسيم الأراضي، حيث يتم تقسيم الثروات الباطنية، وهذه الميزة ليست اقتصادية لأنها سياسة الحرب لتقاسم العالم.

توفي عام 1973 “بابلو بيكاسو” الذي رسم الجزائرية “موباشا” مساندا لثورتها، وذلك عندما اعتُقلت من طرف الفرنسيين. كما أمضى الفيتناميون والأمريكان وقف إطلاق النار في باريس، وفي العام نفسه تم اغتيال الرئيس الشيلي سالفادور الياندي.

العام 2019 هو الذكرى المئة لتأسيس مدرسة فغيك (VGIK) العالمية، والتي كانت تستقبل الطلاب من كل أنحاء العالم. وإلى الآن ما زال بعض المخرجين يحملون بصمات سينما بودوفكين وكوليشوف ودوفجينكو وإيزنشتاين. فريق نظّر وفسّر السينما، وأعطى لها قالبا فنيا يمكن قراءة معانيه في أي أفق بالعالم.

السينما لا تقصّ الأحداث بتراكم الصور، وإنما بعلاقة اللقطات ببعضها. هذا المفهوم المؤسس والفاتح لآفاق جديدة بقي ساري المفعول، لأن الفكرة الجيدة لا تنتهي مدة صلاحيتها أبدا. مدرسة أنجبت مخرجين يتعدّون لون جوازات سفرهم، منهم سوخوروف وتاركوفسكي وبوندارتشوك ونيكيتا ميخالخوف المدير العام لمهرجان موسكو حاليا. ما زال الدكتور كيريل راسلوغوف يدرس بها وينصح أجيالا قادمة بسينما أكثر حرية، وما زال يدفع بأفواج من الشباب لخلق مهرجانات جديدة مثل مهرجان سوتشي ويالطا.

كتب كيريل رازلوغو أكثر من 450 مقالا بلغات متعددة، وألّف عشرات الكتب من بينها “البنية الفيلمية” 1985، و”ماريلين مونرو” 1991، وكتاب “فن العروض، من السينما إلى الإنترنت” 2010.

كيريل راسلوغوف آخر عمالقة السينما الروسية ما زال يجهد لإيصال سينما نادرة إلى المشاهد، ليس فقط الروسي بل والعالمي.


إعلان