ياسر عرفات.. بندقية النضال وغصن الزيتون الذي أحرقته إسرائيل

20 سنة مرت منذ أن ودّع العالَم محمد عبد الرؤوف القدوة الحسيني المعروف باسمه الحركي الشائع ياسر عرفات، أو بكنيته الشهيرة أبو عمار، فقد قضت مادة البولونيوم المشعّ والسام على جسد عرفات بعد أن أنهكه المرض، وحوّله إلى جسد متعب ترهقه روح مناضلة مسافرة عبر الزمن بين نواعير فلسطين وشلالات دمها الوهاج.

بين ميلاده بالقاهرة في 24 أغسطس/آب 1929، وموته في فرنسا سنة 2004، تمتد رحلة عرفات سفرا خالدا عبر الجرح الفلسطيني، وشهادة حية على أوجاع أرض الإسراء والمعراج.

مع الزمن كان أبو عمار وجسده المرهق خارطة دقيقة التفاصيل لكل ما مرت به فلسطين من نكبات وصراع ونضال وجهاد، وثورة وانتفاضة، فمسيرة الجسد وأشواق الروح كتبتا سيرة أبي عمار؛ حيث كانت حياة الرجل سجلا حافلا بكل الآمال والنكسات والخيبات التي أصابت القضية.

اختبر الرجل أنماطا متعددة من المقاومة والممانعة؛ مقاتلا ماردا ومفاوضا شرسا، نجح في محطات كثيرة وأخطأ وأخفق في أخرى.. لكنه ظل دائما يملك خط رجعة عندما يتعلق الأمر بثوابت فلسطين، ومن أجلها فقد آخر بسمات الحياة وآخر دفقات جرحه النازف.

ابن القدس.. مولدا

يصعب الجزم بدقة مكان ميلاد أبي عمار، وغالب الظن كما يقول الذين يكتبون عنه أنه ولد في القاهرة، فهو سادس إخوته من أب تاجر هاجر من فلسطين وأقام فترة في حي السكاكيني بالقاهرة.

في سنته الرابعة من الحياة وجد أبو عمار نفسه في مواجهة “اليتم” من الأم التي التحقت تلك السنة بالرفيق الأعلى، وفي تلك السنة أيضا أرسله والده إلى أسرته في القدس حيث أقام هنالك فترة، ورافق ثورة 1936 المجيدة التي قادها ومهد لقيامها شيوخ الكفاح الفلسطيني، مثل الشهيد الفقيه عز الدين القسام وإخوانه من مؤسسي الروح الثورية والجهاد المسلح في فلسطين.

غادر أبو عمار فلسطين في السنة الموالية وقد تزود في رحلته الثانية إلى القاهرة بزاد عميق من ألم القضية وأشواقها، عاد إلى مصر وانخرط في الشبيبة الطلابية عندما كان طالبا في كلية الهندسة بجامعة الملك فؤاد التي عادت لاحقا لتحمل اسم جامعة القاهرة، وتخرج فيها مهندسا مدنيا سنة 1951.

تذكر بعض المصادر أن أبا عمار انتظم في تلك الفترة ضمن خلايا الإخوان المسلمين، وكان من بين المدرِّبين الأساسيين الذين اعتمدت عليهم كتائب الإخوان المساندة للجيش المصري في حربه على إسرائيل سنة 1948.

لكن المعروف والأكيد أن أبا عمار ينتمي إلى جيل القوميين العرب، وتربى في أحضان الأشواق العربية والنكبات والنكسات السياسية التي مني بها العالم العربي بحر القرن المنصرم.

رجل منظمة التحرير بلا منازع

بدأ أبو عمار رحلة الكفاح ضمن الخلايا الفلسطينية الأولى للمقاومة الفلسطينية بعد نكبة 1948، وكان من بين أنشط الطلاب الفلسطينيين الذين جابوا أجزاء من العالم العربي سعيا لتنسيق الجهود، ومواجهة الاحتلال الإسرائيلي الذي كان قد تغول أكثر في الأرض والعرض والألم الفلسطيني.

شارك في تهريب الأسلحة من مصر إلى فلسطين المحتلة، وانضم إلى “جيش الجهاد المقدس” الذي أسسه عبد القادر الحسيني وعُين ضابط استخبارات فيه.

قاد أبو عمار منظمة التحرير الفلسطيني ابتداء من عام 1969 بعد أن انتخبه المجلس الوطني الفلسطيني رئيسا للجنتها التنفيذية خلفا للمناضل يحيى أبو حمود، ليأخذ أبو عمار مسارا جديدا وطريقا سريعة نحو قمم التاريخ وأعماق التأثير السياسي والعسكري في المنطقة عموما.

قبل هذا التاريخ كان أبو عمار قد شكل وهو حينئذ مهندس مدني في الكويت؛ خلية ثورية رفقة صديقه خليل الوزير (أبو جهاد) عام 1965، وأطلقوا عليها اسم “فتح” التي تختصر آمال وأشواق “حركة تحرير فلسطين”، وأصدر الراحل مجلة “فلسطيننا” التي كانت من أوائل الأصوات الوطنية الفلسطينية الساعية إلى طرد الاحتلال وتأسيس الوطن الفلسطيني الجامع، ونشر الوعي في أرجاء الأوطان العربية بقضية فلسطين.

استطاع أبو عمار أن يحوّل –هو ومن معه- حركة التحرير الفلسطيني إلى صوت جامع لكل الآمال المبدَّدة والحناجر الثائرة في فلسطين، وتمكن من فتح مكاتب لها، كان أولها مكتب الجزائر سنة 1965.

وبالتوازي مع ذلك النشاط الدبلوماسي الذي بدأت بواكيره في تلك السنوات وتمدد لاحقا نحو ساحات عربية عديدة؛ كانت أيادي أبو عمار ورفاقه تضغط على الزناد، حيث قاد ونفذ عدة عمليات نوعية ضد إسرائيل انطلاقا من الأراضي الأردنية بعد نكسة يونيو/حزيران 1967، وهي العمليات التي حفرت لاسم ياسر عرفات مكانا بارزا في وجدان الفلسطينيين حينها.

وسرعان ما توسعت الحركة في مناطق كثيرة وخصوصا مناطق اللجوء والشتات الفلسطيني، لتأخذ الحركة مسارا عنيفا في 1970 على إثر ما يُعرف بـ”أيلول الأسود” الذي لعبت فيه النار الغاضبة بالعلاقة بين الأشقاء الأردنيين والفلسطينيين، وأدت إلى مقتلة عظيمة وصراع مؤلم بين الراحلَين الملك الأردني حسين بن طلال وياسر عرفات.

استضاف الرئيس المصري الأسبق جمال عبد الناصر طاولة للمفاوضة والمصالحة بين الطرفين، وبصعوبة استطاع استلال فتيل الصراع بين الطرفين، وبعد أن ودع آخر الضيوف عاد عبد الناصر إلى إقامته في القصر الرئاسي بالقاهرة ليودع العالم بعد ذلك بساعات قليلة، لكن قبل ذلك كان قد اعترف بمنظمة التحرير الفلسطينية ممثلا شرعيا ووحيدا للشعب الفلسطيني.

بعد “أيلول الأسود” انتقل أبو عمار ورفاقه إلى لبنان، ومنها تنقلوا إلى مناف عربية أخرى، ومواقف وأعمال مقاوَمة وسلم متعددة.

تعززت قوة وحضور عرفات في المشهد الفلسطيني والدولي، وألقى أول خطاب له أمام الأمم المتحدة في 13 نوفمبر/تشرين الثاني 1974، وأكد فيه أن القضية الفلسطينية تدخل بجدارة واستحقاق ضمن القضايا العادلة للشعوب التي تعاني الظلم والاضطهاد والاحتلال البشع.

بين المنافي والمواقف.. رجل

تنقل أبو عمار بين المنافي والمواقف، ومِن رفْع السلاح إلى حمل أغصان الزيتون.. انتقل من الأردن إلى بيروت بعد “أيلول الأسود”، ثم انتقل ورفاقه من لبنان إلى تونس في 10 أغسطس/آب 1982 بسبب التداعيات التي طرأت في تلك الفترة من اجتياح إسرئيلي للبنان وحصار لبيروت، وتوقيع اتفاق كامب ديفد الشهير بين مصر وإسرائيل، وما أعقبه من سحب لمقر الجامعة العربية من مصر، وصعود للدور التونسي عربيا.

في مقر إقامته الجديد في تونس واجه أبو عمار شبح الموت عيانا بعد قصف مقره من ثماني طائرات إسرائيلية، وكانت هذه الطائرات تسعى إلى القضاء عليه وعلى منظمة التحرير في مهدها.

فقدَ أبو عمار كثيرا من رفاقه في النضال، مات الكثير، وترجل آخرون من قاطرة النضال العسكري.

في 15 نوفمبر/تشرين الثاني 1988 أعلنت المنظمة استقلال دولة فلسطين وعاصمتها القدس المحتلة، وذلك خلال الدورة الـ19 للمجلس الوطني الفلسطيني المنعقدة بالجزائر، وأعلنت كذلك عن تشكيل حكومة مؤقتة في منفاها في الجزائر.

لكن عرفات كان قد عزم قبل ذلك التاريخ على التحول من السلاح إلى غصن الزيتون الذي رفعه للعالم، مطالبا بأن لا يسقط عَرض السلام وحلم إقامة حل الدولة.

وجاءت الانعطافة الأبرز في مسار عرفات في أواخر العام 1988، وتحديدا في ديسمبر/كانون الأول 1988، حين أعلن في خطابه الشهير أمام الأمم المتحدة اعتراف منظمة التحرير الفلسطينية بحق إسرائيل في الوجود، مقدما مبادرة السلام الفلسطينية التي تعترف بإسرائيل، وتؤكد أن لدول الشرق الأوسط بما فيها فلسطين وإسرائيل وجيرانهما أن يعيشوا بسلام وأمن.

وكان الخطاب بوابة دبلوماسية إلى اعتراف دولي واسع بدولة فلسطين، حتى وإن كانت محاصرة في المكان ضعيفة في موازين القوى وحسابات السياسة.

حصل أبو عمار على تكليف رسمي من المجلس المركزي الفلسطيني لرئاسة الدولة الجديدة في أبريل/نيسان 1989، قبل أن يعلن في السنة الموالية 1990 عن مسار من المفاوضات السرية مع الإسرائيليين، وهو المسار الذي كان في الواقع قد بدأ قبل ذلك بسنوات.

ميلاد السلطة.. عصر التطبيع والتنازلات

أمالت إسرائيل جزءا من صحن المفاوضات باتجاه أبي عمار، فوقّعت معه اتفاق أوسلو (13 سبتمبر/أيلول 1993) الذي تمخض عنه وجود كيان فلسطيني جديد على الأراضي الفلسطينية سُمي السلطة الوطنية الفلسطينية، وبعد شهور وقع اتفاقا آخر سمي اتفاق القاهرة (4 مايو/أيار1994) مع رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك إسحق رابين لتنفيذ الحكم الذاتي الفلسطيني في قطاع غزة وأريحا بالضفة الغربية.

وبموجب الاتفاقين حصلت الدولة الوليدة التي يقودها أبو عمار على حكم ذاتي في غزة وأريحا، قبل أن يتوسع الحكم إلى الضفة الغربية في اتفاق آخر شهدته مدينة طابا المصرية في 24 سبتمبر/أيلول 1995.

وبعد نحو ثلاثة عقود من المنافي عاد عرفات إلى فلسطين –وإلى غزة تحديدا- رئيسا لأرض محتلة ودولة مقلمة الأظافر محصورة الحدود كثيرة الأزمات مقطوعة الشرايين، تنزف كل يوم حبا وألما وشهادة ومفاوضات في نفق لا نهاية له.

فاز أبو عمار بنسبة 83% من أصوات الفلسطينيين في أول انتخابات رئاسية في بلادهم، وتسلم منصبه رئيسا لدولة صغيرة الحجم كبيرة التاريخ والأزمات والطموح.

أراد الإسرائيليون من عرفات أن يكون تحت أحذية الاحتلال، ثم أرادوه أن يكون أسيرا أو طريدا، وظل هو يردد: بل شهيدا.. شهيدا.. شهيدا.

رجل السلام الموهوم

انخرط أبو عمار في بداية عقد التسعينيات من القرن المنصرم في عملية السلام ورآها حلا لأزمة فلسطين، وطريقا نحو استقلالها، واستمر في ذلك المسار سنين عددا، نال خلالها جائزة نوبل للسلام رفقة رابين تقديرا لدوره في السلام بالمنطقة.

توالت القمم والاتفاقيات منذ اتفاق القاهرة ثم طابا إلى قمة كامب ديفد الثانية، وقبل ذلك اتفاق أوسلو الذي فتح بوابات التطبيع بين العرب وإسرائيل وأريد منه أن ينزع عن إسرائيل “ثوب القذارة الاستعمارية” الذي ارتدته في أعين العرب طيلة عقود، لتظهر باعتبارها شريكا في الأرض والسلام والمستقبل.

انهيار السلام مع مخلفي العهود

منذ العام 2000 بدأ مؤشر السلام بين عرفات وإسرائيل يتراجع في عد عكسي، وذلك بعد فشل قمة ثلاثية جمعت ياسر عرفات ورئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك إيهود باراك والرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون في منتجع كامب ديفد في يوليو/تموز 2000.

تحدث أبو عمار لاحقا عن رفضه لمقترحات أمريكية تُسقط حق عودة الفلسطينيين إلى أرضهم، وتُحول القدس إلى عاصمة مفتوحة للدولتين، دون أن يعني ذلك أدنى درجة من التساوي بينهما.. دولة محتلة الأرض مسلوبة القوة، وأخرى تملك السلاح والعدوان والوحشية ودعم الغرب وخذلان الشرق.

وبالتوازي مع ذلك ومع إطلالة عقد “الألفينات” بدأ جسد أبي عمار في الضعف، وبدأ الحرج الفلسطيني في الفوران والانطلاق، ودخلت إلى الأرض معالم جديدة واندلعت الانتفاضة الثانية في 2000 عقب اقتحام زعيم المعارضة الإسرائيلية آنذاك أرييل شارون يوم 28 سبتمبر/أيلول 2000 باحات المسجد الأقصى، تحت حماية نحو ألفين من الجنود والقوات الخاصة.

تناثرت الأشلاء ولم يعد بإمكان عرفات إلا أن يستجيب لنداء ضميره القومي الأثير، فانحاز إلى الانتفاضة التي أبدعت في إرهاق إسرائيل رغم وحشيتها المؤلمة.

تصاعد العدوان الإسرائيلي، وظل يواصل اغتيال الأرض وممارسة أنوع الجرائم تجاه المقدسات والأفراد والجماعات في فلسطين، حتى وصل إلى نهاية المسار في ديسمبر/كانون الأول 2001 بفرض رئيس وزراء إسرائيل آنذاك أرييل شارون حصارا على عرفات بمقره في الرئاسة الفلسطينية برام الله ومنعه من السفر والعلاج، بل ومن ضرورات الحياة.

عرفات.. هل مات مسموما

انتهي حصار عرفات الطويل بنوبة مرض حادة نقل على أثرها إلى فرنسا، وبدأت أعراض المرض بالظهور في أكتوبر/تشرين الأول 2004. ولم يمضِ أكثر من شهر على ذلك حتى توفي في 11 نوفمبر/تشرين الثاني 2004 في مستشفى بيرسي بفرنسا حيث كان يعالج، وذلك بعد دخوله في غيبوبة عميقة وتعرضه لنزيف داخلي عطل جزءا من الدماغ.

وقد كشف تحقيق للجزيرة استمر تسعة أشهر وجود مستويات عالية من مادة البولونيوم المشع والسام في مقتنيات شخصية للرئيس الفلسطيني ياسر عرفات استعملها قبل فترة وجيزة من وفاته، وذلك بعد فحوص أجراها مختبر سويسري مرموق.

ويعود تحقيق الجزيرة بالمشاهدين إلى حدث شد انتباه العالم لعدة أسابيع، وهو مرض ياسر عرفات الذي كانت تحاصره الدبابات الإسرائيلية في المقاطعة برام الله قبل نقله إلى باريس، حيث قضى أيامه الأخيرة وهو يخضع لسيل من التحاليل الطبية في مستشفى بيرسي العسكري.

ويكشف تحقيق الجزيرة أن عرفات ظل بصحة جيدة إلى أن شعر فجأة بالمرض في 12 أكتوبر/تشرين الأول 2004، لكن أهم ما كشفه التحقيق أن آخر الأغراض الشخصية لعرفات (ملابسه، فرشاة أسنانه، وحتى قبعته) فيها كميات غير طبيعية من البولونيوم، وهو مادة نادرة وعالية الإشعاع.

وكانت تلك الأغراض التي خضعت للتحليل في معهد الفيزياء الإشعاعية بمدينة لوزان بسويسرا، تحمل بقعا من دم عرفات وعرقه وبوله. وتشير التحاليل التي أجريت على تلك العينات إلى أن جسمه كانت به نسبة عالية من البولونيوم قبل وفاته.

ماذا بقي من إرث عرفات؟

وصل الرئيس الفلسطيني الحالي عباس أبو مازن إلى ذات النقطة التي وصل إليها عرفات، فكل واحد منهما قدم الكثير من التنازلات، وجرى كل منهما في ميدان التفاوض قبل أن يصل إلى مرحلة لا يمكن فيها الاستمرار، ووجد نفسه في مواجهة غضب جديد من الإسرائيليين.

تخلص أبو مازن طيلة 16 سنة من كثير من تراث وأصدقاء ورمزية عرفات، وقدم تنازلات أكثر وأعمق مما قدم سلفه أبو عمار، لكن لا شاطئ لبحر التفاوض مع الإسرائيليين.

وفي ذكرى وفاته الـ15 يبقى أبو عمار إرثا وتاريخا وذكرى خريطة واضحة المعالم لأوجاع فلسطين وجرحها المسافر في أوردة الشهادة، وسوح النضال وطاولات التفاوض، وصوتا مبحوحا لزمن فلسطيني تغيرت معالمه كما تغيرت معه مفردات الصراع وأدواته.


إعلان