“المرأة الرحّالة”.. أول امرأة تصعد قمة الكاميرون وتستكشف أفريقيا
خاص-الوثائقية
“أذكر تطاير فستاني الأسود الطويل بفعل الرياح، والجهد الهائل الذي تطلبه تسلق قمة جبل الكاميرون، كانت الصخور تنهار من تحتي وكدت أسقط أكثر من مرة، لكن مع كثير من العزم والتصميم بلغت القمة، على هذه القمة أشعر كأنني ملكة أفريقيا”.
بهذه الكلمات على لسان البريطانية ماري هنري كينغسلي يبدأ العرض الشيق لفيلم “المرأة الرحالة” الذي عرضته الجزيرة الوثائقية، ويتتبع مغامراتها في القارة السوداء حيث سجلت وصورت ورسمت كل اكتشاف جديد تعرضت له على طول طريق رحلتها.
بين نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، بدأت نساء أوروبا في السفر بمفردهن بعد أن كان ذلك محظورا عليهن، كان من بين هؤلاء الرحالات البريطانية كينغسلي التي كانت أول امرأة تتسلق قمة جبل كاميرون في أفريقيا.
العلم
ولدت ماري في 13 أكتوبر/تشرين الأول عام 1862 في شمال لندن لعائلة فكتورية، كان والدها الطبيب الخاص للحاكم، وكان رحّالة طاف العالم. وتَذكر المؤرخة بيلار تيغيرا أن والدها تزوج من خادمته فأنجبت له ماري.
كان من عادات العائلات الفكتورية أنها لا ترسل بناتها للمدرسة، ولذا فقد تعلمت ماري الكتابة والقراءة من أمها. ولما لاحظ والدها شغفها بالدراسة سمح لها بحضور الدروس باللغة الألمانية حيث كانت معظم النصوص العلمية مكتوبة بها.
ومع مرور الوقت أصبحت ماري تساعد أباها في ترجمة النصوص العلمية والإنسانية وعلوم النبات والحيوان المكتوبة بالألمانية، وكانت تمضي معه وقتا طويلا في المكتبة عند عودته من رحلاته، وبهذا كبرت على حب الطب والعلوم الطبيعية وبدأت بكتابة أبحاثها الخاصة.
لم تكن النساء يذهبن إلى الجامعة في تسعينيات القرن التاسع عشر كما تقول الكاتبة ديا بيركيت، لذا لم تحظ ماري بتعليم نظامي، بل على العكس ” ترعرعت في بيت مظلم وبائس وحزين”.
حزن اليتم وفرح التحرر
توفي والدها وهي في الثلاثين من عمرها خلال إحدى رحلاته عام 1892، وبعد أسابيع قليلة توفيت والدتها، مما سبب لها شعورا مختلطا، كان ألم الفقد الفظيع ممزوجا بالشعور بالتحرر، وأصبحت وحيدة أكثر بعد رحيل أخوها الوحيد إلى الصين.
في تلك الأثناء كانت تتقاضى دخلا سنويا يجعلها قادرة على تحديد مستقبلها بنفسها، فأصبحت مستقلة تماما واهتمت بالدراسات العلمية المتعلقة بوصف الأعراق البشرية، وتابعت دراسات والدها وأرادت أن تكون رحّالة مثله. لقد كانت معجبة به رغم أنه كان يحد من حريتها.
قررت الذهاب إلى أفريقيا التي لم يزرها والدها أبدا، وذلك رغم تحذير أصدقاء والدها لها من الذهاب لكثرة الأمراض والمخاطر.
كان معروفا في ذلك الوقت أن غرب أفريقيا هو مقبرة الرجال البيض، وموطنا لكثير من الأمراض مثل التيفوئيد والملاريا، فهناك كان الرّحالة يذهبون ولا يرجعون.
لكن شخصا واحدا شجعها ووثق بها، إنه اختصاصي علم الحيوان الدكتور “ألبرت كنثر” الذي اقترح عليها أن تجمع أنواعا مختلفة من عيّنات الأسماك والخنافس والحشرات.
إلى أفريقيا
بدأت ماري بتحضير نفسها للرحلة وجهزت العبوات والفورمالين لحفظ هذه العيّنات، وفعلا انتقلت من مدينة ليفربول إلى القارة السوداء في شهر ديسمبر/كانون الأول من عام 1894 في رحلة استكشاف لأشخاص وأشياء وأماكن جديدة، وقبل ذلك أرادت استكشاف نفسها.
وصلت إلى الحدود الأفريقية غرب ما يعرف الآن بسيراليون، وتم اعتراضها وحاولوا عدم السماح لها بالدخول لعدم وجود مُرافق لها في رحلتها، لكنها دخلت أخيرا، وبدأت بالتواصل مع رجال الأعمال والتجار البيض في منطقة فري تاون.
كان هؤلاء يعرفون المنطقة جيدا، وساعدوها في تشكيل فريق لمساعدتها في استكشافاتها، ومن حسن حظها أن رئيس الفريق كان يتحدث باللهجات القَبلية ويعرف القليل من الإنجليزية، فأصبح مترجمها بالإضافة إلى ثلاثة حمّالين.
استقلت هي وفريقها الباخرة الى أقصى نقطة يمكن للباخرة عبورها، ثم انتقلت إلى قارب محلي لمواصلة رحلتها في نهر أووغويه في الغابون للحصول على عيّنات من السمك.
في حضرة آكلي لحوم البشر
توجّب عليها تعلم التجديف لمثل هذه القوارب المحلية الأفريقية، ولم يكن الأمر سهلا أبدا، خاصة وهي ترتدي لباسها الفكتوري الطويل الذي يعيق الصيد والتجديف.
تقول العالمة الجغرافية لويزا روسي: لقد تعيّن على ماري التعامل مع قوى الطبيعة لإثبات ذاتها، وهو سبب إبحارها في هذا النهر، وكان لباسها الطويل السميك أحد أهم أسباب حمايتها من الطفيليات ومسببات الأمراض.
صادفت ماري في النهر أنواعا كثيرة من الحيوانات مثل أفراس النهر والتماسيح، وتابعت رحلتها بقوة وعزيمة، ودونما اكتراث لما تحويه هذه المنطقة من خطر.
وتذكر المؤرخة بيلار تيغيرا أن جميع قبائل هذه المنطقة من أكلة لحوم البشر، وكانوا مهتمين جدا برؤية هذه المرأة التي تجوب النهر في الزورق دون خوف. لقد كان تأثير ما فعلته ماري كبيرا على كثير من النساء الرحالة وقدرتها الكبيرة على التأقلم مع هذه الظروف.
ومن تجاربها الغريبة أن بعض الصيادين المحليين تعرضوا لها في الغابة، وربطوها في شجرة لغرابة لباسها وشكلها في محاولة لاستخدامها كطُعم لجلب القرود.
وقد روت ماري قصصا وأحداثا أغرب من الخيال؛ تحدثت عن آكلي لحوم البشر على ضفاف النهر، وكيف تعرض لها مجموعة منهم، وكادوا يفتكون بها وبفريقها قبل أن يتمكن أحد أعضاء الفريق من التحدث مع زعيم المجموعة لينقذهم من موت محقق.
تتحدث كيف أنها نامت تلك الليلة في كوخ، وعندما أزعجتها رائحة نفاثة قامت لتتفقد الكوخ، فوجدت فيه أعضاء بشرية مخزنة في أكياس لعمل التعويذات.
كانت مهتمة جدا وكتبت عن تقاليد سكان تلك المناطق من قبائل آكلي لحوم البشر، ولم يسبقها أحد إلى ذلك، فضلا عن مغامرتها الكبرى في التأقلم مع الطبيعة.
وتروي ماري في مذكراتها عن أصعب لحظة في حياتها حين كانت تتجول وحيدة في الغابة، وصادفت وجود فهد مفترس بالقرب منها، لكنها تمكنت من ترويضه وتشاركت معه المأوى.
المغامرة الكبرى
في سبتمبر/أيلول 1895 قررت ماري خوض المغامرة الأكبر في أفريقيا، وهي اعتلاء قمة جبل كاميرون بارتفاع 4095 مترا، والتي لم تقم به امرأة من قبل.
كان “ريتشارد فرانسس” هو الوحيد الذي صعد هذا الجبل عام 1860، حاولت ماري تقليده ولكنها لم تتبع مساره، بل مسارا مغايرا على الخرائط، واستأجرت دليلا اسمه ساسو مع ستة رجال ليساعدوها في تنقلاتها.
كان صعود الجبل صعبا للغاية، ومما زاده صعوبة الرعب الذي تملك الفريق كله، لما كان يشاع عن استوطان أرواح شريرة الجبل، وحاولوا ثني ماري عن عزمها الصعود بشتى الطرق، ولكنها أصرت على الاستمرار، لقد كانت متفائلة وذكية وشجاعة ومندفعة تتبع حدسها.
وبالرغم من أن ثلاثة من الفريق لم يكملوا الرحلة معها فإنها تابعت الصعود، كان اليوم الأخير في الصعود هو الأصعب حيث الارتفاع عاليا جدا وشديد الانحدار والصخور البركانية تتساقط من تحت أقدامها، كما دهمهم إعصار من بعيد لم يعطهم الوقت الكافي لمتابعة الصعود.
توقف رجال الفريق لكنها تابعت بدافع من قوة داخلية غريبة، حتى وصلت القمة وحققت حلمها.
ذهبت ماري إلى أبعد مما ذهبت له أي امرأة بيضاء أخرى، ووصلت إلى أماكن في غرب القارة السوداء لم تصلها أي امرأة بيضاء وقتها.
مغامرات في مذكرات
وعندما عادت إلى لندن بما جمعته من مغامرات وأحداث وذكريات مع العينات التي جمعتها للدكتور كنثر، بدأت بكتابة مذكراتها عن رحلتها، وقد ملأت بيتها بما جمعته من تعاويذ ونباتات وصور وتماثيل لتلهمها وتذكرها أثناء الكتابة عن رحلتها.
كانت في كل مراسلاتها تذكر أنها تريد أن يتم التعامل معها بجديّة، وحققت مذكراتها نجاحا كبيرا حيث تم ترتيب عرض لها في جمعية ليفربول الجغرافية، وفتحت الجمعية العلمية أبوابها لها لتلقي محاضرة عن تجربتها ورحلتها، لكنها لم تفعل ذلك بنفسها تبعا للتقاليد والأعراف البريطانية في ذلك الوقت، وناب عنها في ذلك السير جيمس إفرن الذي قرأ مذكراتها على جمهور العلماء والمستكشفين في الجمعية التي لم يكن مسموحا للنساء أن تنال العضوية فيها.
بعد أشهر من عودتها توفي أخوها عندما عاد مريضا من سفره، وأصبحت وحيدة تماما في إنجلترا، فتنامى في قلبها الحنين للعودة إلى أفريقيا وفكرت في ذلك جديا. ولذلك تطوعت إبان الحرب في جنوب أفريقيا بين البريطانيين وقبائل البوير للعمل في المستشفيات العسكرية، فقد تعلمت كثيرا من الطب على يدي والدها، وغادرت إلى أفريقيا مرة أخرى كممرضة، لأنها وجدت في ذلك حجة مقنعة للعودة مجددا إلى القارة التي أحبتها.
وفي 11 من شهر مارس/آذار 1900 أصيبت ماري بالتيفوئيد رغم كل احتياطاتها، وكانت في الـ38 من عمرها، فأحرقت جثتها ونثرت في المحيط تحقيقا لآخر أمنياتها.
وحتى الآن يحمل عدد من أنواع الأسماك اسمها، ويرتبط اسمها في الكتب العلمية بالصعود الجريء المغامر لجبل الكاميرون، لكن أكثر شيء تفخر به على حد قولها إنها تعلمت التجديف كالأفارقة في نهر أووغويه.