سمير سيف.. السينما على هيئة رجل

أسامة صفار
كانت الإشارة حمراء في التقاطع الواقع بين شارع البطل أحمد عبد العزيز وشارع جامعة الدول العربية بمنطقة المهندسين في القاهرة، وكان المخرج الكبير سمير سيف في سيارته ينتظر فَكاكا من الاحتقان المروري المزمن في المنطقة، فسمع صوتا مألوفا يُناديه باسمه مجردا: “يا سمير: ثلاثون عاما وأنا أمثّل وأنت تُخرج الأفلام، ولا نستطيع أن نقدم عملا معاً؟”.
كان السؤال الاستنكاري صادرا من النجم الأسمر أحمد زكي، وبعد أقل من عام عُرض فيلم “معالي الوزير” الذي حقق نجاحا مُبهرا، وأصبح علامة هامة في تاريخ المبدعَين الكبيرين. ورغم الملامح المعروفة لمخرج كبير بحجم سمير سيف، فإنه وللمرة الأولى في تاريخه السينمائي الحافل يُقدِم على بلوغ ذروة درامية دون تمهيد معلوماتي كافٍ للمشاهد.. لقد مات.
اعتاد المخرج السينمائي والأستاذ الجامعي بمعهد السينما أن يؤكد لطلابه ومساعديه على ضرورة إدراج معلومة ضمنية تُمهّد للحدث في العمل الفني، لكنه بعد أيام قليلة وفي نقض واضح بوعده لجمهوره ومُحبيه عبر الإعلام بأعمال فنية جديدة؛ رحل يوم 9 ديسمبر/كانون الأول الجاري عن عمر ناهز 72 عاما، تاركا خلفه نحو 40 عملا فنيا بين السينما والتلفزيون، ومئات التلاميذ الذين تعلموا السينما على يديه، وذلك منذ تعيينه بالمعهد العالي للسينما في مصر عام 1970.

الموسوعة السينمائية المُجمَع عليها
لا يخلو الوسط الفني من الخلافات، لكن سمير سيف يكاد يكون هو الوحيد الذي أجمع العاملون في الوسط من فنانين وفنانات على احترامه وحبه، فسمير قد جمع بين موهبة من طراز رفيع، ومعرفة تحوّل معها إلى موسوعة سينمائية تسير على قدمين، لكن هذا المزيج لم يكن ليصنع حالة المخرج المتميز والمُعلّم السينمائي، إن لم يكن مصحوبا بشخص مُحب للجميع ومتسامح ومتواضع.
تخرّج سمير سيف من المعهد العالي للسينما عام 1969، وبدأ مشواره مساعداً للمخرج حسن الإمام في عدد من الأفلام، منها “خلي بالك من زوزو” و”حكايتي مع الزمان” و”أميرة حبي أنا”، وعمل مساعدا للمخرج شادي عبد السلام في الفيلم التسجيلي القصير “الفلاح الفصيح”، كما عمل برفقه زميله وصديقه علي بدر خان كمساعِدَين للمخرج الراحل يوسف شاهين في فيلم “الناس والنيل”.

الإخراج والكتابة.. سقف السينما وأركانها
في عام 1976 بدأ سمير سيف في تقديم أعماله الخاصة التي بلغت على مدى نصف قرن نحو 30 فيلماً، أبرزها “غريب في بيتي” من بطولة نور الشريف وسعاد حسني، و”الراقصة والسياسي” من بطولة نبيلة عبيد، و”سوق المتعة” من بطولة محمود عبد العزيز وإلهام شاهين، و”معالي الوزير” من بطولة أحمد زكي ولبلبلة.
كما تعاون سمير مع الممثل عادل إمام، وقدّم له سلسلة ناجحة من الأفلام، بداية من “المشبوه” عام 1981، ثم “الغول” و”الهلفوت” و”احترس من الخط” و”النمر والأنثى” و”المولد”، وصولاً إلى “مسجل خطر” و”شمس الزناتي” عام 1991، وفي مجال الدراما التلفزيونية قدّم العديد من المسلسلات، منها “البشاير” و”أوان الورد” و”السندريلا” و”بالشمع الأحمر” و”ابن موت”.
لم يكتفِ سمير سيف بكونه واحدا من أهم مخرجي السينما، بل اهتم أيضاً بكتابة السيناريو، وتحديدا في عدد من الأفلام التي قام بإخراجها، فقد كتب القصة السينمائية والسيناريو والحوار لفيلم “دائرة الانتقام” عام 1976 للنجم نور الشريف، وهو فيلم مقتبس من رواية للكاتب الفرنسي “ألكسندر دوماس”، وقد شاركه السيناريست إبراهيم الموجي، وكان الفيلم أول أعماله كمخرج، وتكرر الأمر في فيلم “المشبوه” للزعيم عادل إمام عام 1981، فكتب القصة والسيناريو والحوار بمشاركة إبراهيم الموجي أيضاً.

الخطوات الأولى.. امتنان لبصمات سينمائية
اعترف سمير سيف لثلاث شخصيات سينمائية ببصماتها الهامة في مشواره المهني والإنساني في حوار له بأحد البرامج التلفزيونية، منها شخصيتان في معهد السينما، وهما المخرج حلمي حليم الذي يعتبره الأب الروحي بالنسبة له، وذلك لما له من دور كبير في صقل موهبته الثقافية وغرس فكرة الاهتمام بالأساس الدرامي للفيلم، وليس الاهتمام بالشكليات فقط.
أما الشخصية الثانية فهي شادي عبد السلام الذي تتلمذ على يده في المعهد وآمن بموهبته، كما أنه أول من استعان به كمساعد مخرج بعقد احترافي في فيلم قصير هو “الفلاح الفصيح”.
أما الشخصية الثالثة فهي الفنانة الكبيرة سعاد حسني التي قال عنها: كانت زوجة صديقي علي بدرخان، وكانت بطلة فيلم يوسف شاهين “الناس والنيل”، ومنذ هذه اللحظة تأكدت هي بأنني مخرج جيد، فهي من قدمتني إلى حسن الإمام في فيلم “خلي بالك من زوزو” للعمل كمساعد مخرج، كما منحتني الفرصة لتصوير ثلاثة أيام من الفيلم، وحينما بدأت في إنتاج أول فيلم لها “المتوحشة” اختارتني لإخراجه.
الشريف وإمام.. الإخراج للكبار
آمن نور الشريف بموهبة سمير سيف، وقرّر أن يغامر معه بتجربة إنتاجية للمرة الأولى، ليقدّم من خلالها سمير كمخرج للمرة الأولى في فيلم “دائرة الانتقام”، وقد حقق العمل نجاحاً كبيراً، فتوالت أعمالهما سوياً عبر أفلام “قطة على نار” (1977)، و”غريب في بيتي” (1982)، و”آخر الرجال المحترمين” (1984)، و”شوارع من نار” (1984)، و”المطارد” (1985)، و”عصر الذئاب” (1986)، و”لهيب الانتقام” (1993)، و”الزمن والكلاب” (1996)، وأخيرا “عيش الغراب” (1997).
أما عادل إمام فقدّم سمير سيف معه ثمانية أفلاما متنوعة منها الكوميدي والاجتماعي وأفلام الحركة (الآكشن)، وكانت البداية بفيلم “المشبوه” (1981)، وبعد ذلك “الغول” (1983)، و”احترس من الخط” (1984)، و”الهلفوت” (1984)، و”النمر والأنثى” (1987)، و”المولد” (1989)، و”شمس الزناتي” (1991)، وكان “مسجل خطر” في العام نفسه هو آخر الأفلام التي جمعتهما محققين ثنائية ناجحة، ووضع سيف اسمه كأكثر مخرج إخراجاً لأفلام الزعيم عادل إمام.
وكان منتج فيلم “المشبوه” يرغب في استبدال سمير سيف نظرا لاستغراقه وقتا طويلا في الإعداد للعمل، لكن عادل إمام هدّد بالانسحاب، مما اضطر المنتج إلى الرضوخ، وكان المخرج الراحل مشهورا بالدقة الشديدة والاستعداد الكامل لكل تفاصيله قبل بدء التصوير.
“آكشن هوليوود”.. وسام على الصدر
لم يكن المخرج والأكاديمي الراحل مقتنعا بفكرة تصنيفه كمخرج لأفلام الحركة والعنف، لأنه اعتبر أن ما قدّمه من عنف وحركة في أفلامه هو جزء من الحياة نفسها، وجزء عضوي من دراما العمل وليس مفتعلا، وحين اتُهم بشكل مباشر أنه يُقلّد “آكشن هوليوود” اعتبر التهمة وساما على صدره.
ورغم إبراز الإعلام للحركة والعنف في أعمال سمير سيف، فإن الرؤية السياسية والاجتماعية بل والفلسفية كانت واضحة في أفلامه، وخاصة فيلم “الغول” الذي تدور قصته حول عادل الصحفي بإحدى الصحف الكبرى، حيث يشهد ذات ليلة على جريمة ارتكبها نشأت الكاشف ابن رجل الأعمال المعروف فهمي الكاشف، وذلك حين قتل عامل البار مرسي، وأصاب الراقصة التي رفضت المبيت بشقته، ويحاول الصحفي أن يدلي بما لديه، بينما يحاول فهمي أن يبعد التهمة عن ابنه.
أما فيلم “الراقصة والسياسي” فقد سجّل نضوجا وثراء وكثافة في سينما سمير سيف، وحقق نجاحا جماهيريا كبيرا، فضلا عن الصدى السياسي الذي استمر لفترة، وذلك بسبب قصته التي تدور حول راقصة ترغب في بناء دار أيتام وترفض الدولة، فتبحث في علاقاتها القديمة وتجد سياسيا عمل بالمخابرات سابقا، وتلجأ إليه فيرفض منحها الموافقة على إقامة دار الأيتام، مما يضطرها للتهديد بكتابة مذكراتها.
العقد الأخير
ترأس المخرج الراحل المهرجان القومي للسينما بمصر في العامين الأخيرين، لكنه غاب عن الشاشة لعشرة أعوام، وذلك منذ تقديم فيلم “ديل السمكة” من بطولة عمرو واكد، لكن الأكاديمي والأستاذ انشغل بتعليم تلاميذه والإشراف على رسائل الماجستير والدكتوراه، وإقامة ورشات التعليم في مختلف المؤسسات التي تهتم بتعليم الفنون المختلفة للسينما، ومنها “الجيزويت” و”مدرسة السينما والتلفزيون” بالقاهرة.
وأخرج سمير سيف في الفترة الأخيرة فيلم “أوغسطينوس ابن دموعها” بإنتاج مشترك بين تونس والجزائر وفرنسا، استعان خلاله بممثلين من الدول الثلاث. ويتناول الفيلم قصة حياة القديس أوغسطينوس في الفترة الأولى من حياته، منذ الطفولة وحتى توبته.