“نجيب الريس”.. سوط لاذع على ظهر المستعمر

خاص- الوثائقية
لا يمكن فصل قصة الوطن السوري عن حكاية رجاله الوطنيين الأوفياء، ففي قصة كل واحد منهم يُكتب فصل من فصول كتاب الحرية المضرج بالألم والسجن والدماء. على هذه الطريق يسير العظماء، ويصدق فيهم قول أمير الشعراء أحمد شوقي:
دم الثوار تعرفه فرنسا وتعلم أنه نور وحق
وللأوطان في دم كل حُر يدٌ سلَفت ودَين مستحَق
ومن يسقي ويشرب بالمنايا إذا الأحرار لم يُسقوا ويَسقوا
ففي القتلى لأجيال حياة وفي الأسرى فِدى لهم وعتق
وللحرية الحمراء باب بكل يد مضرجة يُدق
في هذا الفيلم الذي أنتجته الجزيرة الوثائقية بعنوان “نجيب الريس.. رحلة في الزمن الصعب”؛ تلخص سيرةُ الصحفي السوري اللامع والأديب الثائر والخطيب المفوه نجيب محمود الريس، قصة أمة تكافح من أجل الحرية والاستقلال.
لا يقدم الفيلم سيرة ذاتية محضة عن حياة نجيب الريس، بل ينطلق من إشارات ليتحدث عن الأوضاع في سوريا في فترة استقلالها، وهي الفترة التي واكبها بطل الفيلم، ثم ينقل المتحدثون المُشاهد إلى ما يحدث اليوم في سوريا، في محاولة لفهم تاريخها قبل عهد حافظ الأسد، وصولا إلى ما تعانيه اليوم.
تبرز رسالة الفيلم عبر مشهده الأول، حين يتساءل رياض ابن نجيب الريس عبر الهاتف عن أحوال سوريا، بينما تنتقل الصورة لتقدم الإجابة عبر عرض لصور الدمار الهائل الذي حل في البلاد، وهنا يكمن التساؤل فيما إذا كان المخرج يريد تقديم صورة لمستقبل سوريا من خلال ربط حاضرها بماضيها؟
وفي الإطار العام وعبر التعريف بشخصية بطل الفيلم نجيب الريس كصحفي وصاحب جريدة ناضل من أجل حرية بلاده ونُفي واعتُقل؛ يؤكد المتحدثون أن الصحافة العربية لم تلقَ يوما الاحترام والتقدير من طرف السلطة.
كما يبرز الفيلم لمحة مهمة جدا عن الصحافة والديمقراطية والحرية والسياسة وعلاقة بعضها ببعض، وكيف أنها ترتبط بالحكم والنظام، ليصدر عن كل تلك العوامل مجتمعة دولة لأبنائها لا للمحتلين.
صحفي بدرجة مقاوم
كان نجيب الريس صحفيا مناضلا، وقد شكلت مقالاته وثيقة سياسية لما يمكن أن تحلم به الأجيال في سوريا، لكن تلك الأفكار لم تترجم لفعل سياسي لأن الفاعلين كانوا من العسكر، وجاءوا ليسكتوا الجميع.
عاش الريس حياة قصيرة نسبيا، فهو من مواليد عام 1898 في مدينة حماة السورية، وكتبت له الحياة حتى يشاهد جلاء القوات الفرنسية عن بلاده عام 1946، لكن لم يمهله الأجل طويلا إذ حضرته الوفاة في العاصمة دمشق عام 1952.
تلقى علومه الأولية في مدارس حماة الخاصة ثم ارتحل عنها، فعندما جاء الملك فيصل عين والده محمود الريس مديرا لشرطة مدينة حمص، وهناك تعلم نجيب على أيدي مدرسيها كل ما يمكن تعلمه من الأدب والشعر واللغة.
قصد الريس دمشق عام 1919 وكان يلبس اللباس التقليدي (القمباز والقبقاب والطربوش)، وجعلها مقره وكانت هناك حياته وعمل في الصحافة السورية. كما عمل في جريدة المقتبس التي كان يصدرها محمد كرد علي وشقيقه أحمد كرد، وهي جريدة يومية سياسية اقتصادية اجتماعية أدبية، وقد عطلت من قبل سلطات الاحتلال الفرنسي عدة مرات.

جريدة القبس.. ديوان يحرق المستعمر
استقل الريس في عمله الصحفي، وأصدر جريدة القبس عام 1928، فكانت الصحيفة ديوانا للحركة القومية وسجلا للنهضة الوطنية في سوريا، وأصبحت من أشهر الصحف السورية وأكثرها تمتعا بثقة أبناء الشعب.
كانت افتتاحياته سياطا من نار على المستعمر الفرنسي، ولذلك كانت السلطات كثيرا ما تعطلها.
تقول الصحفية سعاد جروس: قرأت عبارة عند الكاتب الصحفي غسان الإمام، أن نجيب الريس كان يكتب افتتاحية وعندما يقرأها الناس يخرجون فورا إلى الشوارع. لقد كانت كتاباته ساخرة ولاذعة، وكانت جمَله حارقة، كان يكتب بأسلوب ملفت ويختم ببيت شعر عربي.
يقول الباحث في الحقبة العثمانية سلام الكواكبي: في تلك الفترة كانت الصحافة تخضع لرقابة شديدة، ولكنها في المحصلة كانت تُصدر، ولم نسمع يوما عن عين فقئت أو أصابع أذيبت بالأسيد لمجرد أن صاحبها يكتب.
بعد سقوط الحكم العثماني في سوريا جاءت الدولة المستقلة التي لم تدم سوى عامين، وثارت الصحافة بالعناوين وقتها، وبعد ذلك جاء عهد الانتداب الفرنسي، وكان ممن تصدوا لسياسات الاحتلال الفرنسي الصحفي الريس.
ولا يغيب عن البال أن نذكر بأن ضيف هذا الفيلم نظم قصيدة “يا ظلام السجن خيم” التي تعد واحدة من القصائد الخالدة في حياة الأحرار، وبقيت شعارا وأغنية للحركة الأسيرة في العالم العربي.
يا ظلامَ السّـجنِ خَيِّمْ إنّنا نَهْـوَى الظـلامَا
ليسَ بعدَ الليل إلا فجـرُ مجـدٍ يتَسَامى
إيـهِ يا دارَ الفخـارِ يا مـقـرَّ المُخلِصينا
قد هَبَطْنَاكِ شَـبَاباً لا يهـابـونَ المنونا
وتَـعَاهدنا جَـميعاً يومَ أقسَـمْنا اليَـمِينا
لنْ نخونَ العهدَ يوماً واتخذنا الصدقَ دِيـنَا
من قفص السجن إلى قبة البرلمان
دخل الريس الحياة الحزبية، وانتسب للكتلة الوطنية التي أصبح أحد أعمدتها وصار جزءا من المجتمع السياسي، وفي الفترة الواقعة ما بين 1920 و 1943 كان نجيب الريس نزيل السجون والمعتقلات والمنافي، وبلغ مجموع ما قضاه من عمره في السجون نحو ثماني سنوات.
ونظم نشيده الشهير “يا ظلام السجن خيم” الذي أشرنا إليه آنفا في منفاه في جزيرة أرواد، التي نفاه إليها الانتداب الفرنسي عام 1922. وفي كتابه “نضال” جسّد الريس النص الحقيقي للنشيد ووضع صورته وهو في سجن أرواد سنة 1934.
كانت سوريا وقتها في حالة مخاض، وكانت الدولة السورية في بدايتها، وفي ذلك الوقت نمت صراعات وتجاذبات، وكانت جريدة القبس اللسان الناطق باسم الكتلة الوطنية، التي كانت تقود العمل السياسي في سوريا بعد نهاية ثورة 1925.
بعد ذلك صار الريس نائبا في البرلمان السوري، وانتخبه أبناء دمشق عام 1943 عن قائمة الرئيس شكري القوتلي أربع سنوات، واشتهر في البرلمان خطيبا مفوها جريئا في الدفاع عن قضايا البلاد ومصالح الشعب.
“نضال” و”جراح”.. حين تتجسد الحياة كتابا
نشر الريس عددا من الكتب، كان أولها كتابه “نضال” الذي صدر عام 1934 في مطبعة القبس بدمشق، وقد جمع فيه عددا من مقالاته التي تناولت أحداثا مهمة في تلك الفترة وأعيد نشره فيما بعد.
ووُصف هذا الكتاب الذي يقع في 366 صفحة متوسطة بأنه يعتبر نموذجا لأسلوب نجيب الريس الحار والخاص الذي كان يمارسه في جريدته “القبس”، ودليلا على مواقفه السياسية الوطنية في الدفاع عن استقلال سوريا ووحدتها.
أما كتابه “جراح” فقد صدر بعد وفاته بأشهر قليلة عام 1952 وأعيد طبعه.
قدم له شاعر الشام شفيق جبري فقال: كان نجيب الريس شاعرا في قلبه، كان يستطيع أن يلجأ في مقالاته إلى لغة الشعر، أي إلى المبالغات التي تذهب بالأمور عن الحقائق فلا يكون لها تأثير بليغ، ولكنه لم يلجأ إلى شيء من ذلك فقد عاش في وطن تألم كثيرا وجاهد كثيرا، وكان ألمه صادقا وجهاده صحيحا، فصور نجيب الريس في مقالاته صدق الألم وصحة الجهاد دون شيء من زخارف القول.
عُلو في الممات.. موكب لم تشهد دمشق مثله
أما عن وفاة الريس، فبحسب عدد من المقالات نشرتها مواقع إلكترونية؛ فإنه شعر بالتعب فقصد حمامات الحمة السورية للاستشفاء، ومكث فيها بضعة عشر يوما، ثم عاد منها متعبا وعالجه نفر من مهرة الأطباء وتماثل للشفاء، إلا أن المنية عاجلته في مدينة دمشق عام 1952 ودفن فيها.
وقد استقبل الناس خبر وفاته بالدهشة والحزن، ولم تمض ساعات قليلة على رحيله حتى بدأت الوفود تصل إلى دمشق من حمص وحماة وحلب، وشيع الريس في موكب مهيب.
وتقدم الموكب أسرته وممثل للزعيم فوزي السلو ورجال الحزب الوطني ورجال الصحافة السورية واللبنانية ووجهاء سوريا، وكتبت الصحافة وقتها أن دمشق لم تشهد موكبا كموكب نجيب الريس.

حديث عن الأب والوطن والحرية
يتحدث الابن الكاتب والأديب رياض الريس عن والده، ويقول إنه كان يحب مجالس الشعراء والفنانين وجلسات الطرب، وكان من المعجبين جدا بالفنانة المطربة ماري جبران التي عرفت بأم كلثوم سوريا.
ويروي أن والده توفي لما بلغ هو 14 عاما، وكان آخر لقاء جمعهما “عندما زارني بمدرسة بورمانه ولأول مرة يزورني دون والدتي، وقال لي يومها يا بني ليس لدي ثروة أتركها لك، ولكن لدي مجموعة من الأصدقاء، هذه هي ثروتي”.
يقول رياض: مع مرور الزمن اكتشفت أن أصدقاءه ليسوا بشرا فقط بل هم تراث وحكايات، وأنا استفدت كثيرا منهم خلال رحلتي الصحفية لأنني تسللت إلى عالم الصحافة كوني ابن نجيب الريس.
ويتابع الابن حديث الشجن عن والده فيقول: في العادة عند الموت تنطفئ الهالة، ولكن عند موت نجيب الريس اشتعلت الهالة، ففي جنازته زحفت دمشق كلها، ولم تبق عنه وردة ولا غصن.
ويضيف: مع مرور الأيام وعند المفترق تشكلت عندي عقدة الأب، وهي بالنسبة لي أن أتمثل به، لأنه من زمن أممت فيه الصحافة وتعددت القوانين وجاءت الوحدة، فأصبح التحدي عندي أكبر؛ لأن الجريدة التي صنعت كل تلك الضجة “القبس” تستحق أن تعود للحياة.
كان الوطن في زمن نجيب الريس وطنا لا نعرفه الآن، بدأ البرلمان في عهد الانتداب الفرنسي، وكان هناك مجالس نيابية وانتخابات، فأين الانتخابات الآن؟
يتابع الابن: كانت هناك أندية وسينما وفن وثقافة؛ فقُدنا السفن الحضارية الثقافية، ثم أصبح الوطن حزب النظام، ثم تحولنا إلى طائفة النظام، أنا الآن عمري 80 عاما، لم أعرف ديانات أصدقائي إلا بعد الأربعين من عمري.
كتاب “النضال” كان أول كتب نجيب الريس، وقال إنه كتبه لقائد معركة ميسلون يوسف العظمة، فقد كان مثَله الأعلى، وكان في نظره البطل الذي لا تشوبه شائبة، لكن أهم ما في الكتاب أنه أثبت النص الحقيقي لنشيد يا ظلام السجن.
يختم الابن حديثه عن الحرية التي لطالما ارتبط بمخيلته بصورة والده، فيقول: بلا تردد أو جدال لا تزال قائمة، الحرية هي المطلب قبل الخبز، وبعدها الكرامة، لكننا فقدنا الحرية والخبز مع الكرامة، فالأنظمة الحالية سلبت الحرية وأهدرت الكرامة، ولكنها لم تعطنا الخبز، لذلك فالسقوط اليوم أبشع مما كان في السابق.

التاريخ يعيد نفسه
في زمن نجيب الريس، كان هناك انقسام في عرض الوطن وطوله، طوائف وأعراق وأحزاب وفصائل، وكل لديه انتماءاته الخارجية، مما عقّد المسائل في كل لحظة يتوق فيها المواطنون للوصول إلى نهاية النفق، وما نعيشه اليوم يصدق مقولة “أن التاريخ يعيد نفسه”.
يقول الباحث “نشوان الأتاسي”: سوريا تبقى دولة جيوسياسية مهمة وأساسية، وهي في قلب العالم القديم، وبعد الحرب العالمية الثانية انقسم العالم لمعسكرين كبيرين وبدأت الحرب الباردة، واتحدت بريطانيا والولايات المتحدة على ما بينهما من خلاف لمواجهة الاتحاد السوفياتي والمد الشيوعي.
ومع ذلك كان لهذين المحورين “أمريكا” و”بريطانيا” صدى في سوريا، فالحزب الوطني بدمشق مثّل المحور السعودي المصري والمصالح الأميركية، أما الحزب الشعبي في حلب فمثل مصالح الهاشمي بالعراق وبمعنى آخر بريطانيا، لتتأرجح السياسة الداخلية السورية بين هذين المحورين بعد الاستقلال.
لذلك كانت المراهنة على الخارج من أهم أسباب فشل المشاريع الوطنية، التي لا تزال حتى الآن مجرد شعارات تفتقد للمقومات الفكرية والمضمون، ولا تقدم البدائل.
أساطير الأمس.. كوابيس اليوم
سلط هذا الفيلم الضوء على تساؤل كبير؛ مالذي أوصل سوريا إلى ما وصلت إليه الآن؟
يرى بعض المتحدثين في الفيلم أن الجميع يتحمل المسؤولية بدءا من المواطن العادي مرورا بالمثقف والسياسي والمسؤول والنظام، “نتحمل المسؤلية جميعا لأننا لم نحاول أن نوصل الماضي بالحاضر”.
تقول الصحفية سعاد جريس: اختلفت الموازين لكن التاريخ يعاد بطريقة مؤلمة وفجة، من الصعب أن تقرأ قصة جميلة وعندما تعيشها تتحول إلى كابوس نراه يوميا مجبولا بدمائنا.
ويستعير رياض الريس مقولة من الكاتب محمد الماغوط “إن التفاؤل ليس مهنتي”، ويتابع متحدثا عن ما يمكن أن تنتجه العملية التعليمة والمثقفون في سوريا، فيقول: أعطني ذرة تفاؤل واحدة، أخطر شيء في سوريا بالنسبة للأجيال القادمة هو التاريخ، الذي لايكتبه إلا المنتصر، لاتصدق أبدا أن مهزوما يكتب التاريخ، المسؤولية الكبرى تكون على النظام التعليمي وحرية التعليم.
فزمن نجيب الريس لا يزال مستمرا، نفس الزمن الذين نعيش، لكن هناك تحولات وتغير بالأشخاص مع تكرار الأحداث، وهنا تكمن الكارثة، إن لم يتحرك الكل لمواجهتها.