القدّيسة “بربارة”.. فرّت من وثنية قومها بتركيا إلى مسيحية فلسطين

ميرفت صادق
من صغرها تشارك إيمان خوري “أم محفوظ” نساء قريتها في إعداد طبق “البربارة” في السابع عشر من ديسمبر/كانون الأول كل عام؛ إنه العيد الذي يُميز قرية عابود الفلسطينية غرب رام الله بالضفة الغربية، وإنها الحلوى التي تُعدّ “نياحَة” عن روح القديسة التي حملت اسمها، ودُفنت في تلة قريبة بعد تعذيبها وقتلها، وذلك لتخليها عن الوثنية واعتناقها المسيحية.
كانت ابنة القرية أم محفوظ (57 عاما) تنشغل بتحريك قدر كبير من القمح المنقوع بالماء سلفا، والذي يُطبخ مع السكر والقرفة والجوز واللوز والزبيب تهيئة لإضافات أخرى تغيرت مع مرور الزمن.
وتوارثت أجيال القرية إعداد حلوى القمح هذه إحياءً لذكرى القديسة التي تقول الرواية المحلية إنها اختبأت في حقول القمح أثناء هربها، ومع تطور الأزمان صارت هذه الحلوى تُطبَخ عن أرواح “الراقدين” (أي الموتى) من أبناء عابود؛ القرية التي يتقاسم المسلمون والمسيحيون العيش فيها على حد سواء.
تستمر أم محفوظ وإلى جانبها “أم ميشيل” التي تُعِدّ البربارة منذ أربعين عاما؛ في تحريك القمح لنحو ساعتين، بينما تتوافد نساء القرية للمساعدة في إعداد الطبق الذي سيتوّج احتفالات طائفتي الروم الأرثوذكس واللاتين بذكرى “استشهاد القديسة”، وذلك بعد يوم حافل بالصلوات وبمسيرة إلى مقامها، ثم إضاءة الشجرة المركزية وسط القرية، إيذانا ببدء الاحتفالات السنوية بأعياد الميلاد في الرابع والعشرين من ديسمبر/كانون الأول سنويا.
“البربارة”.. طقوس وروايات
تقول نور خوري “أم خليل” التي اجتهدت في تزيين أطباق البربارة بالجوز والحلوى الملوّنة: بقيت القديسة بربارة لسنوات طويلة معتنقة الديانة المسيحية خفية، قبل أن تُقتل بقطع رأسها بالسيف.
وأثناء روايتها الشعبية تقول “أم خليل” إن الطائفة المسيحية كاملة تُعِدّ حلوى البربارة وتقوم بتوزيعها على جيرانهم المسلمين، بل تذكر أن صديقاتها المسلمات من بنات القرية صرن يطبخن “البربارة” في بيوتهن بالذكرى السنوية نفسها.
وتحتفل عابود بالذكرى حسب التقويم الشرقي لكنيسة الروم الأرثوذكس في السادس عشر من ديسمبر/كانون الأول، بينما تحتفل بها الطوائف الغربية وبطقوس مختلفة خارج فلسطين بتاريخ الرابع من الشهر ذاته. وفي عابود تُتلى الصلوات أولا، ثم يتوجه الأهالي لزيارة مقام القديسة لإضاءة الشموع هناك، ويعودون مساءً لتناول حلواها في احتفال جماعي.
تحيط بالقديسة بربارة روايات محلية تناقلها الناس أجيالا وراء أجيال، كتقديم النذور عند باب مقامها وتحققها لاحقا، أو كحُرمة جمع الحطب من أرض بربارة وما قد يسببه إشعاله من إصابة بالعَمى، حتى إن بعض الأهالي يعتقدون أن بربارة لم تُقتل، بل انشق الصخر أثناء هروبها من والدها وخبأها واختفت منذ ذلك الحين، ويدعمون ذلك بأن مقامها موجود في تلة صخرية.

من تركيا إلى عابود
يروي راعي كنيسة الروم الأرثوذكس في عابود الأب طلعت عوّاد قصة القديسة بربارة قائلا إنها قدمت إلى عابود واختبأت فيها بداية القرن الثالث الميلادي. ويُرجع طبخ القمح في ذكرى “استشهادها” إلى أنه رمز للحياة بعد الموت؛ ويستشهد في ذلك بنص من الكتاب المقدّس يقول “إن لم تمت حبة الحنطة، فلن تنبت ولن تأتي بمئة ضعف”.
ويضيف الأب طلعت: هكذا هم الشهداء يزرعون في الباقين حبّ البقاء والثبات على المواقف.
جاءت بربارة إلى عابود -حسب الرواية الدينية هنا- من منطقة آسيا الصغرى التي سُمّيت لاحقا بالأناضول وتركيا الآن، وكانت ابنة لرجل صاحب مال وجاه لكنه كان وثنيا، وتوفيت والدتها في صغرها، فكان والدها يحرص عليها، فبنى لها قصرا بخدم وحُرّاس وجلب لها المعلمين الذين كان بعضهم يدين بالمسيحية، فنهلت على أيديهم تعاليم المسيحية.
يقول الأب عواد: أدركت بربارة أن هذا الإله الذي ليس للعقول البشرية أن تدركه لا يمكن أن يكون حجرا كما يعتقد الوثنيون، وعندما نهلت تعاليم الديانة المسيحية استدلت على الإله الذي يُحيي ويُميت ويشفي ويبرئ.
إلا أن هذا التحول لم يرق لوالدها، فاستمالها لتعود إلى وثنيتها فرفضت، وطلب من أحد أصدقائه الحكام أن يستميلها بجاه ومال فرفضت، فقرر والدها قتلها خوفا من أن تجلب له العار.
هربت بربارة من والدها فأرسل جنودا ليلحقوا بها، لكنها وصلت مع صديقة لها إلى حقل من القمح في عابود فاختبأت فيه، لذلك ترتبط الحلوى هنا بالقمح.
يقول الأب عواد: هذه قصة مروية، ولا يوجد أي توثيق تاريخي في كتب الكنيسة يؤيد أو ينفي إن كانت الحادثة وقعت في عابود أو غيرها، ولكن القصة بقيت متوارثة، وصارت بربارة تعتبر ابنة القرية، ولذلك تُحيا ذكراها هنا.

عيد ديني ومزار للمؤمنين
يسعى أهالي عابود إلى إحياء ذكرى بربارة سنويا لغايتين حسب الأب عواد؛ تعزيز الإيمان بالتمسك بذكرى القديسة وإيمانها، وذلك بعد تخليها عن الوثنية والانتماء للتاريخ الديني وللمزارات الكثيرة هنا، ثم إرسال رسالة للاحتلال الإسرائيلي الذي أراد السيطرة على مقام البربارة في القرية؛ بأن الفلسطينيين لن يتخلوا عن حقوقهم وأماكنهم الدينية.
يشير عواد هنا إلى ما تعرضت له كنيسة ومقام القديسة بربارة من تدمير عام 2002، عندما قام جيش الاحتلال الإسرائيلي بتفجيره أثناء مطاردته لمقاومين فلسطينيين، غير أن الأهالي أدركوا أن الهدف مصادرة المكان وضمه إلى المستعمرات الإسرائيلية التي صادرت مساحات واسعة من أراضي القرية لإقامة مستعمرة “بيت أرييه” غربا خاصة.
لكن القرية استطاعت بنضالها السياسي والدبلوماسي دفع الاستيطان وبناء جدار الفصل العنصري عن مقام بربارة والأراضي المحيطة به، وتطوير البناء ومد طريق معبّد إليه تسهيلا على الزوار.

كنيسة بربارة.. اسم دون رُفات
يقول الأب عواد إن بربارة دُفنت في هذا المقام أو الدير الذي سمي باسمها، وما يؤيد ذلك وجود قبرين بجوار المغارة التي اختبأت فيها، أحدهما لها والآخر لمساعِدتها التي تُدعى “يوليانا”. لكن القبر فارغ الآن، فحسب الأب عواد: نُقلت ذخائرها (رُفاتها) إلى بلدها الأصلي، ومنه إلى كنيسة القديسة بربارة في كييف بأوكرانيا.
وتقع كنيسة بربارة على تلة صخرية غرب القرية، وقد بنيت في القرن السادس الميلادي كما وُثّق على مدخلها، وكانت تتكون من ثلاث غُرف لم يبق منها سوى أساساتها، وبجوارها بعض الكهوف. وتقول الرواية الشعبية إن القديسة بربارة سكنت إحداها قبل أن يتم سجنها وتعذيبها لاعتناقها المسيحية، وأصبح هذا الكهف ديرا باسمها.
وتنتشر حول الدير العديد من معاصر الزيتون والعنب والآبار، بالإضافة إلى قبور تعود إلى العصر الروماني، وهي منحوتة في الصخور وتُعرف باسم “المقاطع”.

“عابود”.. بلد الكنائس والزهور
تعتبر قرية عابود التي تقع على بعد 30 كلم غرب مدينة رام الله، ويسكنها نحو 2500 فلسطيني نصفهم من المسلمين والنصف الآخر من المسيحيين؛ موقعا دينيا مهما بالنسبة لمسيحيي فلسطين، كما كانت وجهة للعديد من الرحّالة العرب والغربيين، وذكرها الرحالة ياقوت الحموي في كتابه “معجم البلدان” عندما زارها في القرن الثالث عشر الميلادي.
يقول الأب عواد إن أكثر ما يميزها كثرة المعابد والكنائس، حيث يُسمّي الأهالي هنا تسع كنائس أقدمها كنيسة “رقاد العذراء” أو “العابودية”، إلى جانب كنيسة القديسة بربارة، وكنيسة القديس ثيودوروس، وكنيسة أو دير سمعان، ودير إنسطاسيا وغيرها.
واستعانت الكنيسة بالباحثين لدراسة تاريخ القرية، ويقول عواد إن عابود وقعت على طريق “الساحل” الذي سلكه السيد المسيح في رحلاته من الجليل إلى القدس وكانت محطة له، مما شجع بناء الكنائس والأديرة فيها، و”هي بلد النبي عوباديا من العهد القديم” وفيها كنيسة باسمه، وكانت محط أنظار لأنها كانت نقطة وصل بين الساحل والجبل، كما وكانت تسمى في العهد الروماني مدينة الزهور، وذلك لتنوع نباتاتها.

هيلانة في فلسطين.. أشهرت الصليب وبنت أولى الكنائس
وتضيف الروايات التاريخية أن الملكة هيلانة أُمّ الإمبراطور قسطنطين عندما وصلت فلسطين للبحث عن الصليب المقدس وإشهاره؛ نزلت من الساحل وركبت الخيول باتجاه القدس، وحلّ عليها المساء في مقام القديسة بربارة فأمضت ليلتها هناك، وفي تلك الرحلة أشهرت شعار المسيحية الذي كان المسيحيون يخافون إشهاره بسبب اضطهاد الرومان لهم. وهنا لم يعد شعار المسيح إشارة قتل بعدما صلب عليه المسيح كما تقول الرواية المسيحية، بل صار إشارة خلاص.
ومنذ القرن الرابع وتحديدا منذ 325 ميلادية انتشر بناء الكنائس بعد إشهار المسيحية، كما يُنسب إلى الملكة هيلانة بناء أول الكنائس بعد كنيستها الأولى في القدس، وكانت كنيسة “رقاد العذراء” بُنيت عام 332 ميلادية في عابود، وما زالت الصلوات تُقام فيها حتى اليوم، لكن دراسات تاريخية أخرى تُشير إلى بناء الكنيسة في القرن الخامس الميلادي.