فؤاد التهامي.. فارس الفن والنضال يترجل عن جواده

أسامة صفار

يأتي رحيل المبدع التسجيلي والمناضل فؤاد التهامي في 30 نوفمبر/تشرين الثاني ليسدل الستار على مرحلة كاملة من الفن الملتزم بالقضايا الوطنية، فقد بدأ المخرج (رحل عن عمر ناهز 85 عاما) حياته النضالية مبكرا جدا، إذ اعتُقل للمرة الأولى في عمر الـ18، وهناك في السجن صادف كُتّابا سينمائيين، وتغيرت حياته بعدها تماما، لكن الموقف الذي حدّد ملامح البدايات حدث في أسوان في الجنوب المصري.

 

أسوان.. إرهاصات البدايات

سافر فؤاد للتصوير في أسوان أثناء تنفيذ مشروع السدّ العالي، وأثناء التنقل في موقع البناء بعربات التلفريك أراد أن يصوّر من فوق أكبر “ونش” (جهاز ميكانيكي يستخدم للسحب أو الرفع بواسطة الحبال أو الأسلاك الحديدية) بالسد العالي، فصعد إليه ليفاجأ أن قائد الونش شخص بسيط جدا وبجواره “كُرّاسة”، واكتشف أنه يتعلم القراءة والكتابة في أوقات فراغه، ورغم بساطته كان يقود “ونشا” عملاقا ومعقد التركيب للغاية.

وقتها سأل التهامي وزير السد العالي وهو محمد صدقي سليمان عن هذا الشخص، فقال إنه سبّب مشكلة كبيرة لأن جميع المهندسين والعاملين والخبراء يدخلون ورش التدريب، ويتم تحديد أجر كل منهم وفقا لكفاءته، وحين أُدخِل هذا السائق “محمد الصغير” ورشة تدريب فاز بالمركز الأول في الاختبار “الشفهي”، رغم وجود مهندسين وخبراء على مستوى عالٍ من المصريين والسوفيات، وعرف أنه قبل أن يعمل بالسد العالي كان يشتغل في قريته على “ساقية”.

المهم أن الوزير فاجأ المخرج بأن أجر هذا السائق هو أعلى أجر بالسد العالي، وكانت المشكلة أن حصوله على أعلى أجر يمكن أن يسبب مشكلة بين المهندسين والخبراء، ويمكن أن يتسببوا في طرده، وقام الوزير بنفسه بعمل دفتر توفير له، وأصبح يحصل على أجر عادي شهريا، بينما يقوم الوزير بنفسه بإيداع باقي مُرتّبه في دفتر التوفير كي لا يحدث تلاعب، أدرك فؤاد حينها أن هناك مشروعا وطنيا عملاقا للتنمية يحدث في مصر.

 

السينما التسجيلية.. ولادة الحلم

بدأ فؤاد العمل في مجال السينما التسجيلية، وأخرج عام 1967 أفلامه عن العمليات الحربية على الجبهة الشرقية لقناة السويس، ثم عمل في العراق عام 1973، وأسهم في تسجيل بعض العمليات القتالية في الجبهة الشمالية “سوريا”، كما أخرج فيلم “يسقط الصمت” عام 1974 عن ثوّار ظفار.

واختار التهامي شريط السينما سلاحا لمواجهة القهر بكل تجلياته، ليحمل راية السينما التسجيلية المصرية ويصبح أحد رُوّادها الأوائل الذين سجلوا بكاميراتهم ميلاد الحلم التسجيلي والحلم القومي العربي، وذلك في أعظم لحظات الأمل بالتحرر من الهيمنة والاستعمار.

كان شقيقه المخرج والرائد التسجيلي صلاح التهامي وضع مع رفيقيه “سعد نديم” و”عبد القادر التلمساني” حجر الأساس لصرح السينما التسجيلية المصرية، بينما كان فؤاد منشغلا بالنضال الوطني الذي دفع به إلى المعتقل والطرد من كلية الآداب في جامعة القاهرة وهو بعمر الـ18، لكنه قرّر بعد خروجه من السجن وهو على مشارف الثلاثين من عمره أن يعود إلى الدراسة طالبا بمعهد الفنون المسرحية، وأن يعمل بالإخراج التسجيلي مع شقيقه ومع عدد كبير من المخرجين في تلك المرحلة التي شهدت اهتماما كبيرا بهذا الفن، حتى يبدأ تجربته كمخرج، فيقدم عدداً هائلاً من الأفلام والمخرجين من تلاميذه.

المخرج الراحل بدأ عمله التسجيلي مواكبا لبناء المشروع القومي الأكبر والأشهر في تاريخ مصر وهو السد العالي

 

السد العالي.. توثيق كامل

بدأ المخرج الراحل عمله التسجيلي مواكبا لبناء المشروع القومي الأكبر والأشهر في تاريخ مصر وهو السد العالي، فقام بتوثيق رحلة البناء بالكامل، وكان قد خرج من المعتقل في التوقيت نفسه، حيث استقرت فكرة العمل بالسينما في عقله، وطلب منه صلاح التهامي أن يعمل معه مساعداً، وبعد ثلاثة أفلام استطاع أن يقوم بتركيب الفيلم في المونتاج.

ومن أفلام التهامي “حدوتة مصرية فلسطينية” (2002)، و”كريمة منصور صورة شخصية” (2000)، و”شهادات الفلاحة والفلاح الفصيح” (1998)، و”من الصباح إلى المساء.. من باكوس إلى جاراجوس” (1996)، و”أحوال.. البنت المصرية في قرية الأخصاص” (1995)، و”شارع قصر النيل” (1993)، وغيرها.

كتاب “الحرب والسلام” للراحل فؤاد التهامي

 

التهاميزم.. العودة إلى مصر

عاش فؤاد التهامي في العراق، وعمل تحت رئاسة محمد سعيد الصحّاف وزير الإعلام العراقي السابق، ليقدم من هناك “قريتي” (1978)، وفيلمه الروائي الوحيد “التجربة” في العام نفسه، والذي حصل به على جائزة “لجنة التحكيم” الخاصة من مهرجان “كارلوفي فاري”، وجائزة تقديرية من مهرجان “طشقند”، وقدّم أيضا “مدينتي لا تحزني” و”فلسطين وطني” و”نفطنا لنا” و”الجولان”.

ومع قرب توّلي الرئيس صدام حسين للسلطة رحل فؤاد التهامي إلى بيروت للعمل مع منظمة التحرير الفلسطينية في قسم السينما، لكنه أصبح الشخص الوحيد الذي تم طرده في تاريخ المنظمة من عضويتها، وذلك بعد أن رفعت قياداتها في ذلك الوقت شعار مكافحة ظاهرة “التُهاميزم” (نسبة إلى التهامي) فعاد إلى مصر.

سيناريو ما بعد النكسة.. حالة انهيار

فوجئ فؤاد الذي كان يؤمن تماما بأفكار المرحلة ويُجنّد كل جهده من أجل توثيقها بخبر هزيمة 1967، فكان ردّه أن الحرب لم تنته، وأن اللحظة تتطلب التمسك بخيار المقاومة، لكن تنحّي جمال عبد الناصر أصابه في مقتل.

وقال في حوار سابق للجزيرة الوثائقية: أؤكد أنه من المستحيل أن تكون المظاهرات التي جعلته يتراجع عن قراره، بل هي عبارة عن سيناريو كما قيل، وأنا كنت قد تزوجت في تلك الفترة، ولدي ابن عمره عام واحد، ويومها ذهبت إلى بيت والدي لأسمع معه الخطاب الذي ننتظره من الرئيس، وبعد أن انتهى الخطاب شعرت بضيق شديد، فخرجت واتجهت إلى وسط القاهرة مستقلا الحافة، وعلى طول الطريق كانت النساء يصرخن من النوافذ ويرددن شعارات ضد فكرة التنحي بشكل جماعي، ووصلت إلى وسط القاهرة وميدان التحرير بالتحديد، حيث وجدت كل أصدقائي هناك في مقهى كنا نجلس فيه، وكنا جميعا في حالة سيئة نبحث عن بعضنا لنتماسك، لأن الجميع كانوا في حالة انهيار، ولم يكن هناك وقت أو قدرة على التخطيط لمثل هذه المظاهرات.

صورة لجمال عبد الناصر

 

رحيل عبد الناصر ومذبحة الصحفيين

بعد رحيل جمال عبد الناصر بسنوات طُرد التهامي من عمله بالمركز القومي للسينما في حادثة طرد جماعي عُرفت إعلاميا بمذبحة الصحفيين، لكن لم يكن الصحفيون هم الوحيدين الذين طردهم السادات من أعمالهم، بل كان معهم عدد من الفنانين، وكل من تجرأ على معارضته.

تلقّى التهامي دعوة إلى مهرجان ثقافي في العراق ومعه كل الذين طردهم السادات من أعمالهم، وهناك وجد عددا كبيرا من المصريين يعملون في مؤسسة السينما والمسرح في العراق، ودعاه حينها محمد سعيد الصحّاف للعمل فقدم مجموعة أفلام، ومع قدوم عام 1979 كانت الأوضاع بدأت في التغيير، وظهر النائب القوي الذي يرتعد لمجرد ذكر اسمه الجميع صدام حسين فرحل إلى بيروت.

المخرج المناضل التهامي واجه منذ لحظته الأولى صعوبات أدّت به إلى الرحيل، وذلك بعد أن واجه الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات

 

منظمة التحرير.. طرد تاريخي

كان التهامي واحدا من أعضاء جماعة “السينما الجديدة” التي تشكلت في مصر عقب الهزيمة، والتي ضمت من بين أعضائها المخرج الفلسطيني “غالب شعث”، والذي أصبح في تلك الفترة مسؤولا عن السينما في المنظمة، فانضم التهامي إلى الفريق تحت قيادة شعث.

لكن المخرج المناضل التهامي واجه منذ لحظته الأولى صعوبات أدّت به إلى الرحيل، وذلك بعد أن واجه الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات قائلا: “أنا مع استقلال القرار الفلسطيني حتى الموت، لكنني مع استقلال القرار المصري حتى ما بعد الموت”، وفهم ياسر عرفات الرسالة.

أصدر فؤاد من داخل المنظمة مجلة متواضعة اسمها “مصر”، وحين صدر العدد الثاني منها طُرد من المنظمة، فكان الوحيد في تاريخ المنظمة الذي بادرت بفصله، فعاد إلى مصر ليستكمل مشوار العمل السينمائي في نهاية عام 1979.