أم كلثوم.. سيدة مصر الأولى الحقيقية
لم يكن مشهد الجنازة المهيبة لأم كلثوم في الثالث من فبراير/ شباط 1975 التي خرج فيها نحو أربعة ملايين غريبا، بل هو المتوقع لجنازة أسطورة بحجم أم كلثوم.
ولدت سيدة الغناء العربي فاطمة إبراهيم السيد البلتاجي يوم 4 مايو/أيار 1908، (أو 31 ديسمبر/كانون الأول 1898، وفقا لمصادر مقربة منها) في قرية طماي الزهايرة (محافظة الدقهلية) بمصر.
كانت فاطمة طفلة فقيرة لأب فقير يعمل مؤذنا ومنشدا دينيا، دخلت الكُتّاب فتعلمت التجويد وحفظت القرآن الكريم ثم شاركت والدها الإنشاد الديني وأصبحت تتنقل في المناسبات من قرية لقرية ومن دار إلى أخرى لتتقاضى خمسة قروش في الليلة الواحدة.
وفي عام 1923 ذهبت الفلاحة الفقيرة إلى القاهرة، وهو نفس العام الذي مات فيه مطرب الثورة سيد درويش، فقد كانت القاهرة قد تغيرت بفعل ثورة 1919 وتغيرت معها أم كلثوم لتنتقل من الإنشاد الديني إلى الغناء التقليدي، ثم تعرفت على الملحن أبو العلا محمد الذي حول الموهبة الفطرية إلى احتراف.
عمالقة الألحان والصراع على “الكوكب”
وعمري ما أشكي من حبك
مهما غرامك لوعني
لكن أغِير مِن اللي يحبك
ويصون هواك أكتر مني..
كلمات ملؤها الحب والعشق كتبها الشاعر المصري الشهير أحمد رامي لأم كلثوم.

كان أحد رامي عاشقا صامتا لها، يترجم مشاعره تجاهها في كلمات أغانيه، وكأنما يكتب يومياته معها من الحب والشوق والخصام.
ظلت صورة أم كلثوم في غرفة نوم أحمد رامي حتى وفاته، “سهران لوحدي أناجي طيفك الساري.. سابح في وجدي ودمعي على الخدود جاري”.
لم يقف الحب عند باب أحمد رامي بل انتقلت عدواه إلى الملحن محمد القصبجي الذي لحن لها ستين لحنا في أول أسطوانة لها، وظل أسيرا لها حتى أطلق البعض على أم كلثوم لقب النحلة التي امتصت رحيق القصبجي.
من الخلاعة والدلاعة إلى الأطلال
الخلاعة والدلاعة مذهبي
من زمان أهوى صفاها والنبي
لما يخطر حبي عندي بمشيته
تلقى قلبي له يميل من فرحته
شوف دلاله وإلا قده وطلعته
تفرح القلب يا ناس كده والنبي..
كادت تلك الأغنية التي لحنها أحمد صبري النجريدي أن تُفقد كوكب الشرق جمهورها الرصين الذي اعتاد على كلمات الأغاني الراقية منها، فثار علماء الأزهر حتى عدّل أحمد كلماتها إلى “اللطافة والخفافة مذهبي”، فتغير مذهب السيدة وأصبحت لا تغني إلا راقيا.

جربت أم كلثوم العديد من ألوان الغناء، فبدأت بالإنشاد الديني من دون دفوف، ثم الإنشاد بالدف، وصولا إلى الغناء بالموسيقى بعد تعرفها على الشيخ محمد أبو العلا. وتعاونت مع الكثير من الملحنين والكتاب مثل أحمد رامي ومحمد القصبجي ثم رياض السنباطي الذي كان بينه وبينها كيمياء فنية أخرجت للعالم أغنية الأطلال التي اعتبرها النقاد واحدة من أروع مئة أغنية في العالم خلال القرن العشرين.
كما خاضت أم كلثوم تجربة السينما وساهمت في نهضتها فأنجزت ستة أفلام، ولكنها توقفت عن السينما وتفرغت للغناء.
أم كلثوم وصهر الملك.. زواج لم يتم
أسرت أم كلثوم قلوب الكثيرين بسحر صوتها وشخصيتها حتى أفراد الأسرة الحاكمة وقتها، فتقدم لها شريف باشا أخو الملكة نازلي زوجة الملك للزواج منها، لكن الملك فاروق منع هذا الزواج، فعلى الرغم من حبه لأم كلثوم ومنحها وسام الكمال فإنه عارض زواج أم كلثوم الفلاحة من الباشا.
مُنع هذا الزواج حتى جذب الملاكم والمغني الشعبي محمود الشريف نظر أم كلثوم، ورأت فيه زوجا مناسبا، لكن المجتمع الذي رأى في أم كلثوم قدسية تمنع أي أحد من امتلاكها ورأي فيها مِلكية عامة؛ أفسد هذا الزواج، فهدد الملاكم محمود الشريف، كما حاول الملحن القصبجي قتله، وذلك بعد نشر الصحفي مصطفى أمين إجابة سؤاله لأم كلثوم بعد زواجها عندما سألها: هل ستكملين الغناء؟ فردت: الأمر له وما يريد.
أم كلثوم وجمال عبد الناصر
صدح صوت أم كلثوم بالغناء:
يا جمال يا مثال الوطنية
أجمل أعيادنا المصرية بنجاتك يوم المنشية..
المقصود هنا هو جمال عبد الناصر بعد محاولة اغتياله في 26 أكتوبر/تشرين الأول 1952 في الحادثة المعروفة بـ”المنشية”.

أتى تحول أم كلثوم بعد حركة الضباط الأحرار في 23 يوليو/تموز 1952 والتي سميت فيما بعد بثورة يوليو بعدما طلب منها الضباط بيان تأييد لهم، لكنها طلبت منهم مهلة تفكير وهو ما أغضب جمال عبد الناصر فمُنعت أغانيها من الإذاعة المصرية وضيقوا عليها في حفلاتها.
لم تعد “الست” إلى الإذاعة إلا بعد عام من حركة الضباط الأحرار بعد أن أبلغت ابن أختها وهو ضابط مقرب من عبد الحكيم عامر -أحد الضباط الأحرار- وتوسط لها فأطلق عبد الناصر سراح صوتها مرة أخرى.
أدرك عبد الناصر أهمية صوت أم كلثوم وشعبيتها في تثبيت مشروعه العربي، فحوّل صوتها لصوت يخدم عهده ومشروعه، فهيمنت أم كلثوم على المشهد في فترة الخمسينيات والستينيات.. ليس على المشهد الغنائي فحسب، بل على المشهد السياسي أيضا فظهرت وكأنها سيدة مصر الأولى بعد غياب زوجة جمال عبد الناصر تحية كاظم، بحكم طبعه الشرقي.
أنت عمري.. انطلاقة الأغنية العصرية
غلبني الشوق وغلبني
وليل البعد دوبني
ومهما البعد حيرني..

يتراقص صوت أم كلثوم طربا بهذه الكلمات فيأتي صوت الجماهير المسحورة “عظمة على عظمة يا ست.. تاني تاني”.
تعتبر هذه الأغنية وهي من ألحان بليغ حمدي أحد أغاني أم كلثوم العصرية الحديثة، وذلك بعد أن أدخل آلات موسيقية جديدة إلى فرقة أم كلثوم مثل الأورغ والغيتار والأكورديون. ولحن لها بليغ أول ألحانه في أغنية “أنت فين والحب فين”، كما لعب الموسيقار محمد عبد الوهاب دورا كبيرا في الانطلاقة الحقيقية للأغنية الحديثة بعدما لحن لها أغنية “أنت عمري” عام 1964، وذلك بعد المقاطعة التي استمرت بينهما حتى الستينيات بسبب التنافس.
نكسة 67.. سقوط قدسية السيدة
بعد هزيمة 1967 اعتبر الناس كل من غنى لعبد الناصر مشاركا في الهزيمة، فاختفى نمط الغناء للشخص واتجهت أم كلثوم للغناء للوطن.
لم يعد الشعب يثق في كل من أيّد عبد الناصر، فأرادوا نزع القدسية عن كل رموز ذلك العصر فانتشر الهجاء حتى طال أم كلثوم، فكتب الشاعر أحمد فؤاد نجم قصيدة هجاء فيها يقول:
يا ولية عيب اختشي
يا شبه إيد الهون
ده إنتِ اللي زيك مشي
يا مرضعة قلاوون
مدحتِ عشرين ملك وميه وزير ورئيس
مروان وعبد الملك والمفتري وعتريس
بتغني بالزمبلك ولا إنتِ صوت إبليس
من أول المبتدأ حتى نهاية الكون..
على كوكب عطارد
وفي الثالث من فبراير/شباط 1975 ماتت السيدة أم كلثوم عن عمر ناهز 76 عاما.. توقف قلب السيدة لكن لم يتوقف صوتها حتى الآن.

وتكريما لها أطلق الاتحاد الفلكي الدولي في عام 2015 اسمها على إحدى فوهات كوكب عطارد، بعد اعتماد الاتحاد نتيجة المسابقة الدولية التي أسفرت عن فوز 5 أسماء عالمية لإطلاقها على فوهات نيزكية موجودة على سطح هذا الكوكب، وذلك احتفاء بختام مهمة مركبة الفضاء “ماسنجر” التي درات حول كوكب عطارد لأربع سنوات (2011-2015).