نذير مخناش.. المخرج الممنوع بعد أن قال “لا” لبوتفليقة
عبد الكريم قادري

تعتمد الجزائر في إنتاجها السينمائي على الدعم المالي المباشر من صندوق الدعم السينمائي التابع لوزارة الثقافة، أو من مؤسسات أخرى تدخل في غمار المشاركة في الإنتاج تحت الرعاية التجارية “سبنسر”، لهذا نجد معظم الأفلام المنتَجة تسير وفقا للخط الأيدولوجي لسياسة الحكومة ووجهة نظرها، وذلك لغياب الإنتاج التجاري الذي يخضع لمفهوم الصناعة التي تُدرّ الأرباح.
من هنا أصبح الفيلم الجزائري مقيدا بسلسلة ممنوعات يجب عدم تجاوزها تحت أي ظرف، ناهيك عن الخط الأحمر الذي رُسم في ذهن أي مخرج ويجب عليه أن لا يتجاوزه إن أراد الاستفادة من الدعم، ومن هنا ولدت الرقابة الذاتية في السينما، وأصبح يسكن في ذهن كل صانع سينما رقيب ذاتي، بداية من كاتب السيناريو مرورا بالمخرج وانتهاء بالموزع والعارض.
وهذا ما حدث مع المخرج الفرانكو جزائري نذير مخناش الذي لم يقبل بهذه المعادلة، وقرر أن يخرج عن سكّتها، فقدم أفلاما ناقدة لم يعبأ بأن بعضها كان مدعوما من طرف الدولة، لأنه مخرج لا يعترف بالرقيب الذاتي أو الأيدولوجي.
ومن هنا أثار مخناش حفيظة السلطة وجبروتها، فأوعزت للمؤسسات الثقافية بأن تمنع أعمال هذا المخرج من العرض، وأكثر من هذا أن تضعه في خانة المغضوب عليهم، لهذا لم يستفد هذا المخرج منذ أكثر من 12 عاما كاملا من حقه في الدعم المالي، بل حتى أعماله التي أنتجت في المغرب أو البلدان الأوروبية لم تدخل إلى الجزائر، لا لشيء إلا لأنه قال “لا” لنظام لم يحترم حرية التعبير السينمائي.

مسافر زاده السينما
ولد المخرج نذير مخناش عام 1965 في فرنسا، ثم عادت به عائلته إلى الجزائر حيث عاش طفولته وجزءا من مراهقته في أحياء المدن الجزائرية دون أب، فقد توفي والده في حادث عمل وعمره لم يتجاوز حينها ثلاثة أعوام، ولظروف خاصة عاد إلى فرنسا وعمره لم يتجاوز 16 عاما، وهناك واصل دراسته إلى أن دخل الجامعة التي تعتبر مرحلة فوضى وعدم استقرار نفسي بالنسبة له في بدايتها.
تداخلت خيارات مخناش في هذه المرحلة، فكانت البداية بدراسة الحقوق، لكن سرعان ما تخلّى عن هذا الاختصاص بعد عامين من الدراسة، ليختار صفوف المسرح القومي “دي شايو” ويحقق أمانيه في دراسة الفنون الدرامية، وهو الحلم الذي كان بالنسبة له حلم طفولة، لكن توجهات الأم وخوفها عليه جعله يدرس الحقوق في الجامعة كمرحلة أولية وإرضاء له، لكن سرعان ما عاد إلى حلمه واكتشف السينما بعد أن اشترى كاميرا يوثق من خلالها أولى خطواته نحو عوالم السينما.
قرر مخناش بعدها أن يتوسع في هذا الحلم، وهذا بعد أن سافر إلى الولايات المتحدة حيث تابع هناك دراسته في إحدى الجامعات العريقة التي تأسست عام 1919 وهي “المدرسة الحديثة للبحوث الاجتماعية” (New School for Social Research)، وتخرجت منها أسماء مهمة -أبرزها المخرج الكبير ودي آلن سنة 1993- لتكون بعدها بداية مخناش مع الأفلام القصيرة. وقد جسد العناصر التي تعلمها في الجامعة المذكورة، فأخرج الفيلمين الروائيين القصيرين “حنفية” عام 1994، و”حديقة” عام 1995، لتبدأ بعدها رحلته في عالم السينما بعد أن اكتسب المهارة المطلوبة وامتلك ناصيتها الأكاديمية.

المرأة.. مرآة لآهات الجزائري ووجعه
شكّلت المرأة حضورا قويا في كل أفلام نذير مخناش، وهي من المواضيع التي سبق وأن تناولتها الصحافة، فقد وُجّه سؤال بخصوص هذا الموضوع للمخرج، وقد كانت إجابته بسيطة وواضحة، وهي أن هذا الحضور يعكسه بدرجة أولى شعور اليتم الذي عاشه مخناش، حيث كبر وتربى في حضن أمه بعيدا عن الوالد، لذا فإنه فهم المرأة وعوالمها جيدا، وخصها بحضور مهم في أفلامه.
وينقل الكاتب سعيد خطيبي في أحد المقالات عن المخرج مخناش أجزاء من حوار سبق وأن أجري معه بخصوص هذا الموضوع، حيث قال “لست أدري كيف تملكتني أفكار وتصورات عن النساء؟ لا أستطيع تفسير سبب التركيز على المرأة في كتابة السيناريو، لكن أعتقد أن العامل النفسي أدى دوراً مهماً، خصوصاً أنني عشت يتيم الأب، وكنت قريباً جداً من أمي”.
والموضوع الثاني الذي يكون في الغالب رديفا للأول هو تجليات الواقع السياسي والاجتماعي في الجزائر، لتوصف المرأة في أفلام مخناش بأنها المرآة التي ينقل من خلالها آهات المجتمع والوجع الإنساني الذي يعيشه الجزائري، كل هذا يأتي وفقا لفضاء المدينة الجزائرية التي تسير وفقها شخصيات المخرج، فحواريها الضيقة وسلالمها والتواءاتها وأصوات أبواق السيارات والباعة والشباب الذين يقفون على الأرصفة؛ كل هذا يمكن أن نُدخله في باب “جمالية اكتشاف العادي”، بمعنى أنه لا يمكن أن نعرف جمال شوارع العاصمة وأسرارها إلا من خلال عدسته، وضبطه المحكم لكادراته البصرية في كل المشاهد.
“حريم السيدة عصمان”.. مخاوف الفقد
في أولى أفلام نذير مخناش الطويلة، وفي ثلاثيته التي تعكسها كل من أفلام “حريم السيدة عصمان” (2000)، و”فيفا لالجيري” (2004)، و”دليس بالوما” (2007)؛ اختار انعكاس سنوات العشرية السوداء وإفرازتها في المجتمع الجزائري، وصورة المرأة المقهورة في هذا المجتمع الذي يتعامل معها بمنطق مزدوج.
فنرى في أولى أفلامه الروائية الطويلة “حريم السيدة عصمان” المرأة التي تعاني القهر والكبت، وحسب ما جاء في الملخص فإن هذا الفيلم الدرامي الكوميدي “يحكي مشاعر الخوف والقلق وانعدام الثقة في الجزائر عام 1993 من خلال التركيز على صورة السيدة عصمان، وهي البطلة التي فقدت زوجها وتعاني من اضطراب نفسي ينعكس سلباً على علاقاتها بالآخرين وخصوصاً ابنتها، حيث تكتشف الأمّ أن ابنتها تعيش علاقة حب من دون علمها، مما يضاعف لديها المخاوف من فقدانها”.
“فيفا لالجيري”.. ثلاث نساء يتملصن من واقع مُرّ
أما في فيلم “فيفا لالجيري”، فنرى أن الزمن لم يتغير وإن كان الفارق بينهما عشر سنوات، إذ إن أحداث العنف في الجزائر لم تتغير، وهذا من خلال شعور الخوف الذي تعكسه إفرازات العشرية السوداء، إذ نجد مرة أخرى أن بطلات الفيلم نساء يعشن في شتاء 2003 بالعاصمة الجزائرية، وهذا بعد أن استقرت الأم وابنتها وفتيات أخريات في أحد فنادق العاصمة، حيث تعيش الفتاة حياة عادية وتعمل مصورة فوتوغرافية، وفي الوقت نفسه تعمل راقصة في الملاهي الليلية نهاية كل أسبوع، وكأن الأم تريد استرجاع حلمها الضائع وشعور الشباب الضائع منها، أي أنه من خلال هذه الحياة تحاول النساء الثلاث التملص من الواقع المر، وهو الخوف من الموت عن طريق العنف الذي يحدث في البلاد، والسبيل الوحيد هو المضي قدما دون الالتفات إلى الوراء مع كل زاوية.
“دليس بالوما”.. بطلة عرّابة
أما آخر فيلم من الثلاثية المذكورة فيعكسها عمل “دليس بالوما”، فبطلة الفيلم واسمها “مدام ألجريا” خرجت من السجن بعد أن قضت فيه ثلاث سنوات كاملة، وكل صفقات هذه المرأة مشبوهة، ويمكنها أن تحل أي مشكلة، وكأنها تؤدي دورا في فيلم “العراب”، حيث يأتي لها كل من يبحث عن حاجة يقضيها، وهذا طبعا وفق سعر معين وحسب اسم البطلة، وكأن المخرج يريد أن يقول إن هذه المرأة تعكس صورة الجزائر بكل تفاصيلها وتجلياتها.
كان هذا آخر فيلم أخرجه نذير مخناش في الجزائر وبدعم منها، وهذا بعد المنع الذي واجهه بعد عرض الفيلم الذي تم إنتاجه بدعم من وزارة الثقافة الجزائرية، وبعد أن انتقد الرئيس عبد العزيز بوتفليقة بطريقة غير مباشرة.
توجه مخناش بعدها إلى جهات أخرى، فأخرج فيلم “وداعا المغرب” (2012)، وفيلم آخر يحمل الجنسية الفرنسية تحت عنوان “لولا باتر” (2017). ورغم ابتعاد المخرج عن البيئة الجزائرية، فإنه لم يخرج من جو دعم المرأة وإسقاطها على الواقع السياسي.