“موريس جار” ذو الألف أذن.. أشهر مؤلفي موسيقى الأفلام

تتوقف آلات الكمنجة عن العزف إلا من واحدة تلعب لحنا حزينا، يرافقها من الخلف صوت تشيلو حزين كأنه يزيد من نحيب تلك الكمنجة الوحيدة. تنزل عصا المايسترو رويدا رويدا حتى تكفّ عن الحركة، وتنطفئ أنوار قاعة الأوبرا الفارغة ويسود الصمت؛ إنه الرحيل الصامت لموريس جار أشهر مؤلفي موسيقى الأفلام إطلاقا، فعشر سنوات مضت على ذلك الرحيل ولم يملأ مكانه أحد.

بثلاثة أوسكارات وبأربع جوائز غولدن غلوب وجائزتي بافتا وجائزة غرامي؛ تبقى عصا المايسترو موريس جار هي العصا الأهم في تاريخ موسيقى الأفلام. ففي الـ29 من مارس/آذار 2009 رحل مؤلف موسيقى الأفلام الكبير الفرنسي موريس جار عن هذا العالم، وكان قد تنبأ بخلوده قائلا “يمكن القول إن حياتي نفسها كانت موسيقى فيلم طويلة، أعادتني الموسيقى إلى الحياة، الموسيقى هي حياتي والموسيقى هي التي أتت بي إلى الحياة، لذلك سأسكن في الذاكرة طويلا بعد رحيلي”.

بعد النجاح الباهر للورنس العرب ألّف جار سنة 1965 موسيقى فيلم “دكتور جيفاغو”

الطريق نحو العبقرية

ولد موريس ألكسيس جار في مدينة ليون الفرنسية في 13 سبتمبر/أيلول 1924، وربما كان والده أندريه جار هو من غرس فيه انتماءه لعالم الموسيقى منذ صغره، فقد كان والده المدير التقني لراديو ليون. لم تكن حياة موريس هادئة طبيعية، بل كانت مليئة بالتناقضات والجروح التي لا تزال مفتوحة بعد الحرب العالمية الأولى، والتي ازدادت دموية عندما لحقتها الحرب العالمية الثانية.

وفي الواقع أعطته الحياة فرصتين؛ الأولى فرصة النجاة من الموت، والثانية فرصة النجاة من غياهب النسيان؛ أي مرة حين قصف الأمريكيون محطة ليون الفرنسية سنة 1945، وحينها شاهد موريس جار قنابل تتجه نحو شرفة منزله، وخلال ثوان غطى رأسه لينجو من شظايا البلور المحطم.

والثانية حين التحق بجامعة السوربون لدراسة الهندسة، لكن عشق للموسيقى حمله لأن ينقطع عن الدراسة ويلتحق بكونسرفاتوار باريس ليدرس التأليف والتناغم الموسيقي، وذلك بعد حادث بسيط قلب حياة الفتى حين قام أبوه بتشغيل أسطوانة الرابسودي (قصيدة ملحمية) الهنغارية الثانية للموسيقار فرانز ليست، سمعها الشاب في حجرته مفتونا ليترك بعدها دراسة الهندسة، وينطلق في دراسة الموسيقى ويختار لذلك آلة الدفّ، وهي من آلات الإيقاع المستخدمة جدا في الموسيقى الأوبرالية والأوركسترا، والتي سنلاحظ تأثيرها الكبير في موسيقاه لاحقا.

في فيلم “لورنس العرب” خرج جار من الإطار الفني والجغرافي الفرنسي إلى رحاب موسيقى أكثر انفتاحا في هوليود

من “فندق العاجزين” إلى “لورنس العرب”

“الموسيقي يشبه البيروقراطي الذي يجب عليه أن يستيقظ في الصباح الباكر للعمل”.. مقولة لسترافينسكي اقتبسها موريس جار في أحد حواراته ليبين الجهد والصرامة والمثابرة التي فتحت له الطريق لتلك الشهرة، فلم يكن جار يؤمن بالإلهام أكثر من إيمانه بالعمل والبحث.

بدأ جار طريقه في المسرح الوطني الشعبي، وقال في حوار مع صحيفة لوكوتيديان الفرنسية إن السنوات الـ12 التي قضاها في المسرح الوطني الشعبي مع جان فيلار وجيرار فيليب في فرنسا كانت أحلى أيام حياته، وقال” أنا مستعد لتقديم كل أوسكارات العالم من أجل أن أحيا اللحظات التي عشتها في تلك الفترة، كما أن شخصية فيلار ونظرته للمسرح الشعبي تركت فيّ أثرا عميقا”.

في العام 1951 بدأ موريس جار رحلته نحو الخلود، وألّف موسيقى الفيلم الوثائقي “فندق العاجزين” للمخرج جورج فرانغو الذي رافقه في أعماله طيلة عشر سنوات، وبعد عقد من الزمن أي سنة 1961، قدّم له المخرج السير ديفد لين فرصة حقيقية ليفجر طاقته في فيلم “لورنس العرب”، ليخرج جار من الإطار الفني والجغرافي الفرنسي إلى رحاب موسيقى أكثر انفتاحا وانعتاقا في هوليود.

“لورنس العرب”.. مؤلف وحيد لملحمة موسيقية 

كان فيلم “لورنس العرب” الطريق الوعرة التي ستأخذ جار إلى عرش موسيقى الأفلام، ليتهافت عليه أكبر كبار المخرجين مثل ألفريد هتشكوك وجون هستون وإيليا كازان وفرانكو زيفريللي ومصطفى العقاد.. لكن ديفد لين كان المخرج الذي فتح الأبواب على مصاريعها لجار كي يصبح ما هو عليه بفيلم “لورنس العرب”، حيث كان من المفترض أن مجموعة كبيرة من المؤلفين سيعملون على تأليف موسيقى الفيلم، لكن المنتج الكبير سام سبيغل رشّح جار لأن يكون المؤلف الموسيقي الوحيد لهذه الملحمة الموسيقية، والأكثر من ذلك أن يتم التأليف في وقت وجيز وهو ستة أسابيع فقط.

يقول جار: بالنسبة للورنس العرب” فقد كان لي ستة أسابيع فقط لتأليف ساعتين من الموسيقى، وبالتالي اشتغلت نوبات مدتها خمس ساعات بينها عشرون دقيقة من النوم، وهو ما تسبب في مرضي، واحتجت إلى الراحة لمدة سنة من أجل استرجاع عافيتي”.

وبعد النجاح الباهر للورنس العرب ألّف جار سنة 1965 موسيقى فيلم “دكتور جيفاغو” للمخرج نفسه، والذي تجاوزت مبيعات موسيقاه التصويرية لمدة ستة أسابيع أسطوانات فرقة “بيتلز” التي كانت في أوج نجاحها في ذلك الوقت.

جار.. نجمة الخلود والشهرة

يقول موريس جار في حوار أجرته معه صحيفة لوكوتيديان الفرنسية سنة 1994، وذلك بعد حصوله على “نجمة الخلود والشهرة” على رصيف شارع هوليود التي ترمز لعبقريته: “النجوم للمجلات، أما أنا فلست ممثلا بل مؤلف. المؤلفون ليسوا نجوما أبدا، والنجمة هي أسطورة. لقد كنت محظوظا جدا لتمكني من العمل مع مخرجين كبار مثل ديفد لين وبيتر وير وجون هاستون وشكلوندورف”.

ألّف جار قرابة 200 عمل موسيقي للأفلام، وخلّدت موسيقاه أعمال مخرجين مثل مصطفى العقاد في فيلمه “الرسالة” سنة 1977، والذي كانت موسيقى الموسيقار الإيراني نور علي إلاهي ملهمة لجار عند تأليفه موسيقى الفيلم.

يقول جار: “الإلهام لا يأتيني الساعة الرابعة صباحا لأستيقظ وأقول ها هي الفكرة، بل يجب أن أدونها وأن أخرجها من رأسي. كما لا يكون الإلهام بالجلوس على حافة بحيرة غاردا، أعتقد أن الجلوس في المكتب من الساعة التاسعة صباحا إلى الحادية عشرة ليلا هو الذي يمنحك الوقت اللازم للإلهام”.

المخرج “سير ديفد لين” كان ملهما لـ”موريس جار”، فقد أعطاه مساحات شاسعة للعمل ودله على طريق المجد

تريّث في القبول والرفض

مرّ الموسيقار موريس جار بثلاث مراحل لتحديد المخرجين الذين سيتعامل معهم، ويقول إنه في بداية مشواره وإثر فشل زيجاته الأولى؛ تكبّد مصاريف طلاقه، وكان مجبرا على قبول أيّ عرض يُقدم له، ولحسن حظه كانت العروض المقدمة له من مخرجين جيدين. وفي مرحلة ثانية وبتقدمه في السن وهي مرحلة يصفها جار بـ”مرحلة النضج”؛ أصبح أكثر تريثا في الاختيار، وكانت القاعدة في ذلك أنه “من المهم رفض مشروع فيلم لا يسبب لك صدمة”.

كان العمل مع المخرج سير ديفد لين ملهما لموريس جار، فقد أعطاه المخرج مساحات شاسعة للعمل، وعرف المجد معه وكان بينهما تناغم كبير، وكانت النتيجة تتويجات بالأوسكار لأفضل موسيقى تصويرية في ثلاثة أفلام أخرجها سير ديفد لين هي “لورانس العرب” سنة 1963، و”دكتور جيفاغو” سنة 1966، و”ممر إلى الهند” سنة 1985.

ويعتبر جار أن أجمل ما ألفه في أفلامه كان مقطع “أغنية لارا” في فيلم “دكتور جيفاغو”. ويقول جار: “ديفد لين يعرف جيدا أين يستعمل الموسيقى، في السيناريو الأصلي كانت هناك علامات واضحة بخصوص مكان الموسيقى أين تبدأ وأين تنتهي، هو يريد أن تأتي الموسيقى دون أن نحسّ بقدومها، أو نسمع قدومها أو رحيلها، لقد كان رجلا رائعا”.

“الرسالة”.. عبقرية اللحن

من المؤسف أنه ليس هناك الكثير من المراجع التي تتحدث عن حياة موريس جار خارج مكتبه حين يشرع في كتابة نوتة فيلم، لكن بعض التصريحات هنا وهناك تبين أن جار ارتحل إلى الشرق الأوسط مرات عدة خاصة إيران ومصر، وذلك حتى ينبش في تراث موسيقى الشعوب الشرق أوسطية. ويُقال إنه في تأليفه لموسيقى فيلم “الرسالة” كان جار يتجول في شوارع القاهرة مستمعا لأذان مصطفى إسماعيل ومحمد رفعت ومحمد صديق المنشاوي، إضافة للعبقري مصطفى العقاد الذي جعل موريس جار يغوص في تراث الشام وخاصة حلب، ليخرج بذلك بموسيقى فيلم الرسالة.

ومن منا لا يتذكر المشهد المهيب للفيلم حين دخلت جيوش المسلمين مكة، حيث ركض أحد الفرسان صارخا في أهل مكة أن “ادخلوا بيوتكم.. جيوش المسلمين تدخل مكة من أبوابها الثلاثة”.

في إيقاع يبدو للوهلة الأولى أنه إيقاع حرب يبدأ المشهد، لكنه ينقلب فيما بعد هادئا رصينا مسالما مع راية بيضاء تلوح أمام جيوش المسلمين، ينقشع الخوف شيئا فشيئا لتنطلق الأوركسترا وتعزف الأذان في مقام الحجاز، مع جملة “لا تعبثوا بمكة وارفقوا بأهلها ولا تسيئوا معاملة أحد”.

الراحل مصطفى العقاد مع الممثل أنطوني كوين في فيلم الرسالة الشهير

الموسيقى والصورة

لم تكن الموسيقى التي يؤلفها موريس جار عملا تكميليا للصورة أو الحوار أو الفيلم إجمالا، فهي الحوار الذي لم يكتب في الفيلم أحيانا، وهي الصورة التي لا تستطيع الكاميرا أن تنقلها أحيانا أخرى.

ففي حوار لجار مع موقع “سينيزيك” يقول: “تعلمت مع المخرج فرانغو أن الموسيقى يجب أن تكون دائما مواجهة للأحداث مقابلة للصورة، لا أن تفسر الصورة، وهو ما تعلمته لاحقا مع المخرج ديفد لين، وبالنسبة لي فالموسيقى الجيدة يجب أن تقول ما لم تستطع الصورة قوله”.

كان موريس جار يسخر من كليشيهات موسيقى فيلم عن الحرب، فمن غير الضروري أن يصاحب مشهد مرور جنود مشاة موسيقى طبول أو موسيقى يتخللها صوت حاد لوقع أقدام، كان جار يرى ذلك عاديا وروتينيا.

من هنا يمكن القول إن الموسيقى يمكن أن تنتصر أحيانا على الفيلم، والمؤلف يمكن أن يتجاوز المخرج حين تصبح الموسيقى فيلما داخل الفيلم.

حين نستمع لموسيقى الستار الهندي المصاحبة لعبور القافلة في فيلم “ممر إلى الهند” والموسيقى المصاحبة لموت فانيسا في مشهد الختام في فيلم “إيزادورا”، أو لحن لارا في “دكتور جيفاغو”، أو موسيقى الحرب في فيلم “الرسالة”.. ذلك الدمج العبقري لموسيقى الشعوب والغوص في ما وراء الصورة واللحن؛ جعل موريس جار فعلا الملحن صاحب الألف أذن.


إعلان