موسى حداد.. أيقونة جزائرية لا نعرف عنها الكثير

محمد علال

موسى حداد خلال مشاركته في المظاهرات المناهضة للنظام الجزائري

في هذه الأجواء الاستثنائية التي تعيشها الجزائر بين شغف الحرية وحلم التغيير، تشد انتباهنا في اليوم الثاني منذ انطلاق مظاهرات 22 فبراير/شباط المناهضة للنظام الجزائري والرافضة لولاية خامسة للرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة؛ صورة رجل لم يمنعه عمره الـ82 من الوقوف في الصفوف الأولى للمظاهرات المطالبة برحيل النظام، وذلك وسط الحشود والغاز المدمع.

الصورة ورغم أنها لا تقدم ملامح الرجل بدقة، فإن الوشاح الذي كان يضعه على أنفه لحماية أنفاسه من الغاز يؤكد أن الوقوف في ذلك المكان ليس أمرا سهلا على الإطلاق، ويحتاج إلى مقاومة كبيرة من أجل البقاء في ساحة أودان وسط الجزائر العاصمة، والتي تحولت في تلك الأثناء إلى معكسر لقوات الأمن وأصحاب القبعات الزرقاء.

هكذا يختار المخرج الجزائري موسى حداد البقاء دائما إلى جانب الناس وشعارات الحرية. قد لا يكون اسمه كمخرج معروفا لدى كل الجزائريين، لكن أعماله تسبقه، وتاريخه يعكس حقيقة يحفظها كل روّاد الفن السابع في الجزائر. فـ”المخرج عادة ما يكون مظلوما أمام اسم الفيلم وبطل الحكاية”، لهذا فالمعروف لدى العامة أسماء مثل “لالة عيني[i]” و”علي لابوت[ii]” وغيرهما، وهي عنوان لشخصيات بارزة تناولتها السينما الجزائرية في أهم الأفلام، وبين تلك الأسماء لا يمكن لأحد تجاهل اسم “المفتش الطاهر” و”لابرانتي”، وهما شخصيتان برزتا على الشاشة الفضية في واحد من أهم الأعمال التي أخرجها موسى حداد.

عندما أخرج حداد فيلم “المفتش الطاهر” كانت الجزائر تنعم بقدر كبير من الأفلام التاريخية، ففي تلك الأثناء ولد فيلم “معركة الجزائر” 1966، وقدّم المخرج الجزائري لخضر حامينا “وقائع سنوات الجمر” (1974)، وأبدع أحمد راشدي في تصوير مشاهد “الأفيون والعصا” (1973)، وهي أعمال تاريخية ثورية ترفع القبعة لنضال وكفاح الشعب ضد الاستعمار الفرنسي.

 

حداد.. الكوميديا نحو التميز

في سبعينيات القرن الماضي لم يكن هناك عدد كاف من الأفلام الجزائرية التي تحمل روح الكوميديا، أو تقدم شخصية رسمية بثوب هزلي، وقادرة على أن تجمع العائلات حولها أمام شاشة التلفاز للضحك والاستمتاع بلقطات ترسمها مواقف طريفة وبلهجة بسيطة.. هكذا قرر موسى حداد اختيار الطريق الصعب في التوقيت الصعب، وراهن على سيناريو فيلم “عطلة المفتش الطاهر” الذي كتبه الفنان الراحل حاج عبد الرحمن، وقد راهن في الوقت نفسه على خفة دمه كممثل ومنحه دور البطولة، ليتحول العمل فيما بعد إلى أيقونة لا يزال الشعب يعتز بها حتى اليوم. ورغم أن حاج عبد الرحمن رحل عن عالمنا في عزّ الشباب (1940-1981)، فإن أداءه لدور شخصية “المفتش الطاهر” ظل راسخا في الأذهان ومسافرا بين الأجيال.

موسى حداد الذي لا نعرف عنه الكثير هو من رافق نجاح “المفتش الطاهر”، واختار في المقابل أن يبقى في الظلّ، ويترك رفاقه في العمل في مهمة المُضي إلى أبعد نقطة من الشهرة، لتجاوز حدود الخيال شهرة “المفتش الطاهر” ورفيقه الدائم “لابرانتي” التي جسدها الممثل الراحل يحيى بن مبروك، وقد دعم المخرج هذا العمل بخبرة واحد من أهم الممثلين الجزائريين على الإطلاق هو الممثل الراحل حسن الحسني الذي كان يتمتع بشهرة كبيرة خلال تلك الفترة.

النجاح المبهر الذي حققه فيلم "عطلة المفتش الطاهر"؛ فتح شهية التفلزيون الجزائري لإنتاج فيلم جديد بالنكهة نفسها

حداد.. بين الجزائر وفرنسا

تقديم حداد لهذا الفيلم الكوميدي جاء بعد مسار متنوع في عالم السينما بين الجزائر وفرنسا، فقد عمل في بداية الأمر مساعدا في التلفزيون الفرنسي “أورفت”، ثم عاد إلى الجزائر ليعمل لحساب شركة القصبة الخاصة بإنتاج الأفلام، وعمل مساعد مخرج في فيلم “معركة الجزائر” (1966) مع المخرج الإيطالي جيلو بونتكرفو، كما عمل مع المخرج الإيطالي لوتشينو فيسكونتي في فيلم “الغريب”.

ويأتي هذا المسار الزاخر بحكم العلاقات القوية بين الجزائر والسينما الإيطالية والفرنسية في ذلك الوقت، حيث كان عدد كبير من رواد الفن السابع العالمي ينزلون ضيوفا على الجزائر لتصوير أفلامهم، وقد منحت تلك التجربة المخرج موسى حداد فرصة للتكوين أكثر والاحتكاك بالتجارب العالمية، مما فتح له الأبواب ليخوض تجربة الإخراج في وقت مزدحم بالأسماء اللامعة.

المعروف عن موسى حداد أنه رجل متواضع لا يحبذ الظهور في التلفاز، ويفضل أن يكون خلف الكاميرا ونادرا ما يتحدث عن أعماله وإنجازاته، لهذا لم يكن من السهل إجراء حوار معه. في مقابل ذلك يؤكد كل من تعامل معه في المجال الفني سواء من الممثلين في أفلامه أو التقنيين على أنه يتمتع بروح طيبة جدا، كما يقول الممثل الجزائري أحمد بن عيسى في تصريح لوكالة الأنباء الجزائرية “كان لي شرف العمل معه، إنه شخص رائع جدا على المستوى الإنساني، وعلى المستوى المهني فهو رجل يعرف عمله جيدا”.

هو بالنسبة للمخرج علي فاتح عيادي الذي تعامل معه وتعلّم على يده فنون الصنعة؛ “أيقونة في عالم التلفزيون الجزائري، وواحد من أهم مخرجي جيله، فهو يعرف دائما كيف يضيف شيئا من التميز على أعماله، ويعرف كيف يُثير إعجاب التقنيين والممثلين”.

وما يؤكد عليه المخرج الجزائري بلقاسم حجاج أن حداد “من النوع الذي يجذبك إلى عالم السينما لأنه يجسد السينما، ويتنفس السينما والصورة والإبداع، ويمكن ملاحظة ذلك في عينيه وحتى في طريقة حركته وكلامه”.

 

رؤية مغايرة للسينما الجزائرية

النجاح المبهر الذي حققه فيلم “عطلة المفتش الطاهر”؛ فتح شهية التفلزيون الجزائري لإنتاج فيلم جديد بالنكهة نفسها، وقد وقع الاختيار على المخرج ليقدم تجربة في هذا السياق، وقد جاءت بعنوان “حسان طيرو في الجبل” عام 1978، وتم اختيار الممثل الراحل رويشد لأداء دور البطولة، وذلك بعد النجاح الباهر الذي حققه رويشد في شخصية “حسن طيرو” في فيلم يحمل العنوان نفسه أخرجه لخضر حامينا عام 1968.

موسى حداد هو أقل المخرجين الجزائريين تقليدية، فغالبًا ما يخرج عن المواضيع المهيمنة في الساحة، ويعرف كيف يفتح جبهات جديدة، ولا يكرر أبدا تجارب الآخرين، فالمهم بالنسبة له الحفاظ على كاميرته في ذروة التجديد، مع ميل واضح لقضايا الشباب وقصص الأطفال، ورغم أنه لم يقدم الكثير من الأعمال السينمائية إلا أنه واحد من الذين يفتحون الطريق لعشرات المخرجين لشق طريقهم نحو تناول مواضيع جديدة لم تتناولها السينما الجزائرية من قبل، وهذا ما يميزه كمخرج قليل الإنتاج ودقيق الملاحظة.

في تناوله لموضوع الأطفال عبر فيلم “أولاد نوفمبر”، كان موسى حداد حريصا على تقديم الطفل في دور البطل خلال الثورة. صحيح أن العمل جاء في وقت شهد فيه الجمهور شخصية “الطفل عمار” في سلسلة “الحريق”، إلا أن “أولاد نوفمبر” كانوا مختلفين تماما في فيلم موسى حداد الذي أخرجه عام 1975.

ولد موسى حداد عام 1937 بالجزائر العاصمة، هذه المدينة المطلة على سواحل البحر الأبيض المتوسط، وتعرف جيدا أبجديات الهجرة التي جربها موسى حداد كغيره من آلاف الجزائريين، والذي عاد إلى وطنه كأنه مقطع من أغنية “يا الرايح” التي نحفظها جميعا بصوت المغني الراحل رشيد طه.

ولأن الشباب الجزائري اليوم لم يعد يفكر إلا في الهجرة، وأصبحت أخبار السواحل حقيقة تستيقظ عليها الجزائر كل صباح بتعداد الجثث التي يلفظها البحر؛ اختار موسى حداد في آخر أفلامه أكثر القصص تعقيدا ليحكي قصة من يُطلق عليهم اليوم لقب “الحراقة”، ليجمع حكاية “المهاجرين غير الشرعيين” في فيلم بعنوان “حراقة بلوز”.

يعتبر هذا الفيلم آخر عمل أخرجه، وهو من إنتاج شركة “موسى حداد للإنتاج” مع الوكالة الجزائرية للإشعاع الثقافي عام 2012، وقد عُرض في إطار المسابقة الرسمية لمهرجان أبو ظبي في العام نفسه، ومنذ ذلك العرض لم يأخذ العمل حقه من الاهتمام كغيره من عشرات الأفلام الجزائرية التي تعاني الإهمال وعدم التوزيع.

لكن موسى حداد رفقة شريكة حياته أمينة بجاوي التي لا تفارقه لحظة؛ لم تتعبهما كل تلك الظروف الصعبة التي تعاني منها السينما الجزائرية منذ ثلاثين عاما، وها هما اليوم لا يفوتان أي فرصة تحتاج لهما لعرض الفيلم في المدن الداخلية والمناسبات المحلية التي تنظمها جمعيات السينما على قلتها، كما ويحرصان شخصيا على حضور العروض ومشاركة الناس تفاصيل النقاش والحكايات.

 

المصادر:


[i] لالة عيني هي الشخصية الرئيسية في  سلسلة “الحريق” للمخرج الجزائري مصطفى بديع عام 1974 وقد جسد الدور الممثلة الجزائرية القديرة شافية بوذراع.

[ii]  علي لابوانت هو الشخصية الرئيسية في فيلم “معركة الجزائر” للمخرج جيلو بونتيكورفو، وقد جسد الدور الممثل إبراهيم حجاج.


إعلان