نزار قباني.. المتمرد المحارِب والمحارَب

دمشق مرة أخرى أقولها هي أمي
جسدي تشكل هنا
لغتي تشكلت هنا
أبجديتي تشكلت هنا
وكل قصائدي فيها نكهة من الخوخ الدمشقي
سليل أبي خليل القباني رائد المسرح السوري، وابن رجل يعمل في معمل حلويات يطلى وجهه كل يوم بهباب الفحم نهارا، ويجتمع في داره رجال حركة المقاومة ضد الاستعمار الفرنسي ليلا؛ لذا يهاجم نزار من يتهمونه بأنه من ذوي الدم الملكي.
الانقلابي الإشكالي المتمرد
القدر، ربما، عبث بمصير نزار قباني، فكانت ولادته في الثالث والعشرين من مارس/آذار 1923 مع انقلاب الحياة إلى الربيع، فعاش انقلابيا ثوريا على الحياة، وعلى الخرافة والجهل، ذا شخصية إشكالية غنية، تتمرد على الشائع محاولة نزع الأقفال وتكسير القيود والجمود، للمزج بين العتيق الأصيل والجديد الحداثي.
كبر في الدار الدمشقية التي تتوسطها البحرة، فيها عرف نزار الحياة والموسيقى والنضال ضد الاستعمار. تلك الدار تملؤها الروائح العطرة، والأشجار والرياحين والياسمين. هنا تنشّق أنفاسه الأولى، منها تعلم مفرداته. كما أن المنمنات في داره وفي دمشق القديمة عموما أثرت به، وصقلت ألفاظه، وكونت تشكيله الداخلي.
75 عاما عاشها نزار، قضى منها خمسين عاما في الشعر، حارب فيها بالكلمة، واجه الطغاة والمستبدين صارخا في وجههم.
حورب من رجال الدين في سوريا في الخمسينيات عندما اتهموه بالإباحية بعد قصيدته “خبز وحشيش وقمر”، فقد غزا مطارح في جسد المرأة لم يجرؤ أحد على الإقبال عليها، صوّرها بتفاصيلها وبعدها الجسدي الشهواني، نفذ إلى جسدها بصورة جديدة كليا، دعاها إلى الثورة وللجهر بحقوقها، دافع عنها وناصرها في معظم أشعاره التي توّجها سيدة عليها، مستخدما مفردات جسدية لم تستعمل سابقا.
كما هاجمه رجال الدين في مصر، وطالبوا بمنعه من الدخول إليها، لكن الرئيس المصري جمال عبد الناصر أصدر قرارا بوقف تلك الإجراءات.
الاغتراب حتى التجدد
في طفولته أصيب إصابة بليغة في عينه كادت تفقده إياها، وبعمر الستة عشر عاما سافر مع المدرسة في رحلة إلى روما على متن سفينة فرأى البحر بامتداداته والدلافين، فاستوحى من تلك المناظر ديوانه الأول “قالت لي السمراء”، ودوّن ما جال في ذهنه مباشرة كي لا ينساه. وعندما أصدر ديوانه الثاني “طفولة نهد”، غيّر أحمد حسن الزيات اسمه إلى “طفولة نهر” في مقالة نقدية نشرت في مجلة الرسالة، ليتدارك ما سيثيره هذا العنوان.
للموت أثر عميق في نفسه، فلم يفارقه منذ صغره، إذ ماتت أخته انتحارا، وابنه بمرض القلب، وزوجته الأولى ووالدته، وزوجته الثانية بلقيس في تفجير السفارة العراقية في بيروت، فرثاها بقصيدة شهيرة، فبينما كان في مكتبه في شارع الحمرا في بيروت سمع صوت الانفجار، فأحس أن هذا الانفجار سيتردد صداه داخله[1].
تخرج محاميا، لكنه لم يرافع في قضية واحدة، عمل في السلك الدبلوماسي أكثر من عشرين عاما، فكان هذا العمل تجربة أغنت معارفه بأسفارها وتنقلاتها وحيواتها، فاغترب حتى تجدد، حتى امتلك أدوات تعينه ليجابه الشعر ووعورته.
فلسفة شعرية
“السكنى مع الشعر في بيت واحد لمدة خمسين عاما كالسكنى في العصفورية (مستشفى الأمراض العقلية) لا تعرف فيها طبيعة مرضك.. ومتى سيطلقون سراحك.. كالسكنى على حافة البركان.. لا تعرف متى يهدأ.. ولا تعرف متى يثور.. كالزواج من امرأة مجنونة.. لا تعرف متى تعانقك.. ولا تعرف متى تخنقك.. ليس هناك مزاح مع الشعر..”[2].
يرى نزار أنه لا ضير ألا يعرّف الشعر، ينظر إليه فنا لا يُقيّد؛ لأنه يكره الحدود، فليُترك على هواه، لغة يفهمها القارئ بإدراكه.
شعره صادق، فهو لا يلعب دورا على ورق الكتابة ودورا آخر على مسرح الحياة، ولا يضع ملابس العاشق حين يكتب قصائده ثم يخلعها عند عودته إلى البيت[3].
أحاسيسه تلقائية لا تكلف فيها، يؤمن بأن الشعر محاولة أو مخطط لتغيير الكون، ففي شعره الحياة مكرسة للعالمَين الشعري الجمالي والأخلاقي السامي، وكل منهما عالم يبسط ظله على الوسيلة التي تؤديه ألا وهي الصورة[4].
كما ينحو إلى أن الشعر شحنة كهربائية تصدم أعصابك وتنقلك إلى واحات مليئة بالضوء منتشرة على رموش الغيوم. لم يعتقد أن الشعر بتعبيره الفني هو صورة للطبيعة، بل هو إعادة تشكيل لها إلى صورة أكثر اكتمالا، ووئام أكثر روعة[5].
على حوافّ الحداثة
لم يصعد شاعر دمشق باللغة إلى نخبوية تستعصي على الشارع، ولم ينزل إلى لغة محلية غير مفهومة، أمسك بلغته وأدخلها في الشعر وزخرفها لتقارب الفئتين، فلم يجعلها مبهمة ولم يخلخل بنية الشعر، وابتكر لغة متصالحة بقاموس فريد يجمع القديم والحديث والدارج والفصيح.
نصب أساسا متينا بنى عليه فلسفته الشعرية، فنضح بشعر صار الأكثر مقروئية، فهو لا يقبل أن يتخلف عن قراءته مواطن عربي، فيذهب إليه معتذرا لأنه ربما أخطأ في مخاطبته، إذ يعتقد أنه لم يفهم كيف يصل إليه، لأنه لم يدرك لغته، ويرى أن الشاعر هو الشارع[6] بجناس حروفي.
يسير بشعره على حوافّ الحداثة، لم يأنف منها ولم يغرق فيها، بنصوص عفوية عمودية وتفعيلية، وهو في الشكلين مجرِّب متمرس وصانع ماهر ومعلم كبير، وقصائده النثرية لا توضع محل مقارنة مع قصائده الموزونة، من باب إنصاف شعريته وليس التقليل من قيمة وسيط النثر[7]، فقد حبك النمطين وسبكهما بلغة ثرية سهلة اتسمت بحيوية تنساب منتقلة بالشعر مع مَجازاته واستعاراته وكناياته إلى مناطق أخرى حديثة، بانزياحات دلالية تتواتر فيها، فجاءت القابلية الشعرية تنسجم مع الابتكارات الحديثة، على الرغم من تأصيلها الراسخ في أفضل التقاليد العربية.
كما آمن بأن قصائده يجب أن تقرأ بالطريقة التي ينظر بها الطفل إلى القمر، أي بعفوية وامتصاص كامل[8]. ثم أدخل موسيقية التعبير الشعري والتواتر الشعوري والإيقاع الجمالي عبر الكلمة المكتوبة أو المقروءة التي صاغها شعراء عرب وأجانب[9].
سياسة وترحال أخير
مال شعره الرومنسي الغزلي إلى الشعر السياسي والوطني بعد نكسة 1967 التي آلمته ألما شديدا، كما تضامن مع أطفال الحجارة ينظم لهم قصائد تمجد مقاومتهم.
بعد وفاة بلقيس الزوجة الثانية لنزار غادر بيروت إلى القاهرة، وهوجم هناك من نقادها وصحفييها، كما انتقد السادات بعد اتفاقية كامب ديفد، فحط رحاله في سويسرا ثم لندن، حيث توفي في الثلاثين من أبريل/نيسان 1998، وحُمل نعشه إلى دمشق ليدفن في ترابها الذي لم يفارقه يوما.
المصادر:
[1] للاطلاع على القصيدة: https://bit.ly/2VsjKBa
[2] “خمسون عاما من الشعر”، موقع نزار قباني، شوهد في 26/4/2019، في:
https://bit.ly/2IWw3z0
[3] مختارات هدباء قباني، موقع نزار قباني، شوهد في 26/4/2019، في
https://bit.ly/2GJpvCr
[4] سحر هادي شبر، الصورة في شعر نزار قباني: دراسة جمالية (عمان: دار المناهج للنشر والتوزيع، 2011)، ص 80.
[5] SALMAN M. HILMY, “Thoughts Inspired by PBS’s Two-Sentence Report on The Death of Syrian Poet Nizar Qabbani”, Washington Report, October-November 1998, accessed on 26/4/2019, at: https://bit.ly/2VpmyPz
[6] حوار مع الشاعر الراحل نزار قباني، يوتيوب، 9/10/2015، شوهد في 26/4/2019، في:
https://bit.ly/2PxEXEd
[7] صبحي حديدي، ” نزار قباني وقصيدة النثر”، القدس العربي، 9/4/2007.
[8] Hilmy.
[9] شبر، ص 70.