وجوه شوقي.. قصة شاعر منحته التقلبات أربعة ألسنة

عباسُ مولايَ أهداني مظلّته
يُظلل الله عباسا ويرعاهُ

ما لي وللشمسِ أَخشى حرَّ هاجرها
من كان في ظله فالشمسُ تخشاه

ليس نشازا في الأدب أن يستظل الشاعر بالأمير وأن يصوره قوة خارقة قادرة على مناطحة الكواكب ودحر الظواهر الطبيعية. المفارقة هي أن يَعْبر ذلك الشاعر إلى الضفة الأخرى، ليُشهر سيفه دفاعا عن الحرية والكرامة.

لنبذُلَنَّ دونَها ضحيَّهْ

النفسَ والنفيسَ والذريَّهْ

ويتغنى بالثورة والوطنية والتمرد، مناديا بأعلى صوته:

وللحُرّيةِ الحمراءِ بابٌ
بكل يدٍ مضرجةٍ يُدقُّ

لكن شوقي لم يكن بدعا في هذا، فقد لعب المتنبي دورين متناقضين، فكان مداحا للسلطان وصوتا له، وفي الوقت ذاته كان حكيما وشجاعا. وقبلهما ظهر طرفة بن العبد سيدا حصيفا ومسرفا عربيدا في بيت واحد.

فإن تبغِني في حلقةِ القومِ تلقَني
وإن تقتَنصني في الحوانيتِ تصطَدِ

ولأن شخصية أحمد شوقي كانت متعددة الأبعاد ومرت بتحولات ومراحل، أنتجت الجزيرة الوثائقية فيلما يسرد حياته بعنوان “وجوه شوقي”، يتناول تحوّله من لسان للسلطان إلى صوت للثورة، ثم حمله لواء التجديد في الشعر، في حين عُرف في طليعة المنافحين عن القديم.

بُث الفيلم في مارس/ آذار 2019، ويتحدث فيه نخبة من الأدباء والنقاد من مختلف الأقطار العربية، ويغطي حياة أمير الشعراء في الوطن والغربة والمنفى.

ابن الأعراق الثلاثة.. نشأة في محيط السلطة والثراء

ولد أحمد شوقي عام 1868 في حي الحنفي بالقاهرة لأم يونانية وأب تركي، ونشأ في كنف جدته التي كانت تسكن وتعمل في قصر الخديوي، فترعرع في محيط السلطة والثراء.

يروي الوثائقي أن شيخه محمد البسيوني كان أول من لفت انتباه القصر إلى موهبته، ومكّنه من لقاء الخديوي توفيق، فأمر بتعيينه موظفا في قلم الكتاب، ثم أوفده لاحقا للدراسة على نفقته في باريس.

نشط أحمد شوقي في هجاء خصوم القصر التابع للخديوي عباس حلمي، فما كان منه سوى إصدار هجاء بحق القائد العسكري أحمد عرابي

ويحكي سيد العيساوي -وهو مدير النشاط الثقافي بمتحف شوقي- أن “شاعر البلاط” ينتمي لشجرة ذات عروق مختلفة؛ العرب والترك واليونان.

وقبل أن يغادر لباريس، تضلّع شوقي في الأدب العربي، ودرس القرآن، وحضر احتفالات قصر عابدين، فأنشد شعرا جميلا في العائلة المالكة.

يقول أستاذ النقد والبلاغة أحمد درويش إن شوقي كان شاعرا عبقريا، ومصر لعبت معه دور المكان، فكان أعظم شاعر بعد المتنبي.

“شيخ المدّاحين”.. إخلاص لساكن القصر مديحا وهجاء

كانت العائلة المالكة هي كل ما يهم أحمد شوقي زمنا طويلا، ولعله اختزل فيها مصر، فكان يبصر بعين القصر ويسمع بسمعه، ولا يعبأ بغضب الدنيا إذا رضي عنه الأمير:

مولايَ هل لِفتًى بالباب معذرةٌ
فعقلُهُ في جلال الملكِ حيرانُ

سَعى على قَدَم الإخلاصِ ملتمسا
رضاك، فهْو على الإقبال عنوانُ

وتروي الروائية الجزائرية حنين عمر أن الخديوي طلب من شاعره دراسة الأدب في باريس، بعد أن كان ينوي دراسة الحقوق هناك، أما الشاعر المصري أحمد سويلم فيحكي أنه استلهم من الآداب الفرنسية، وعاد من باريس مشحونا برغبة التجديد.

لكن شوقي ما لبث أن عاد لسيرته الأولى، فقد حرص على توطيد علاقته بالخديوي عباس، بعد رحيل ولي نعمته وسلطانه الأول الخديوي توفيق.

وعندما أمسك عباس حلمي بمقاليد الأمور كان له تصور مختلف، فعيّن شوقي رئيسا للديوان العربي، وهو منصب شبيه بوزير الإعلام في العصر الحديث.

بعد تنصيب حسين كامل سلطانا جديدا لمصر، فقد شوقي مكانته ونفوذه لأنه كان قد هجاه

يومها قرر شوقي الرحيل من منطقة السيدة زينب، وسكن في المطرية، حيث أنشأ قصره الذي سمّاه “كرمة بن هانئ”، فكانت جسرا إلى قصر عابدين.

ويقول سويلم إن شوقي “وقف إلى جانب الأمير في كل شيء، ولا يكتب القصيدة حتى يعلم رأيه”، أما الشاعر الأردني أيمن العتوم فيروي جانبا من تبعية شوقي للخديوي، فهو لم يكتفِ بالمديح بل هجا خصوم القصر، ومنهم القائد العسكري والثائر أحمد عرابي، الذي يقول فيه:

صَغارٌ في الذهاب وفي الإيابِ
أهذا كلُّ شأنكَ يا عُرابي

وتقول الأديبة هويدا صالح إن شوقي لم ينطلق في هذا النهج من قناعته، بل كان يُحيّد ذاته في التعاطي مع الشأن العام، ويختزل مصر في الأمير الخديوي.

وفي أوج التماهي مع الذات الخديوية، كانت في قصائده ومضات توحي بأنه معذب في شعره ومضطرب، وأنه غير راض عن حقيقة كونه “شيخ المدّاحين”.

وبعيدا عن القوافي لجأ للنثر وعبّر برواية “عذراء الهند” عن الاعتداد بالوطنية، وتمجيده لضباط مصر، بمن فيهم خصم القصر أحمد عرابي.

“لم يُرد له الإنجليز أي دور ونفوْه إلى إسبانيا”

عندما فرضت بريطانيا الحماية على مصر عام 1914، عزلت حلمي عباس، وكان يومئذ في زيارة لإسطنبول، ثم قطع الإنجليز الصلة بين بلاد النيل والعثمانيين، وبدؤوا التنكيل بالأتراك في مصر وحلفائهم.

يومها نصّب الإنجليز حسين كامل سلطانا جديدا لمصر، وفقد شوقي مكانته ونفوذه، لأنه كان قد هجاه من قبل.

حين كتب أحمد شوقي (يسار الصورة) للمسرح اصطفى لنفسه محمد عبد الوهاب (يمين الصورة) وجعله بلبلا يشدو بشعره

حاول ساقي “كرمة ابن هانئ” تلطيف الجو، فاسترضى السلطان كامل بقصيدة شهيرة، يقول فيها:

اللهُ يشهدُ ما كفرتُ صنيعةً
في ذا المقامِ ولا جحدتُ جميلا

أأخونُ إسماعيلَ في أبنائِهِ
ولقد وُلدتُ ببابِ إسماعيلا

لكن ذلك لم يُجد نفعا، فقد أعرض كامل عن خدمات شوقي. يقول المؤرخ الأدبي شعبان يوسف “لم يُرد له الإنجليز أي دور، ونفوْه إلى إسبانيا” عام 1915.

وبعد أن كان جسرا يعبر منه الناس إلى القصر؛ وجد شوقي نفسه وحيدا مجردا من الحظوة والنفوذ، وحز في نفسه أن أصدقاءه لم يحضروا لوداعه، عندما ركب البحر إلى الأندلس.

كانت تلك أول مرة بحياته يعرف فيها شوقي الحاجة، فقد أصابته ضائقة مادية، إلى حد أنه استدان من الناس.

إعادة اكتشاف مصر.. نظرة مغايرة من المنفى الأندلسي

تحكي الأديبة هويدا صالح أن أحمد شوقي تأثر في الأندلس بالنفَس الوجداني لمصر، فكتب قصائد تتقد وجعا، منها قوله:

يا نائحَ الطّلْحِ أشباهٌ عَوادينا
نَشجى لِواديك، أم نأسى لوادينا

وفي المنفى أعاد شوقي اكتشاف مصر، ولم يعد يختزلها في القصر. وقد كتب قصائد وطنية في ثورة 1919، التي قادها سعد زغلول ضد الاحتلال البريطاني.

وعندما سُمح له بالعودة في 1918 تحوّل إلى شاعر وطني، ووجد شباب مصر ينتظرونه، وهتفوا باسمه، مما أثر فيه تأثيرا كبيرا.

طالب شوقي بإنشاء المدارس وحلِّ قضايا المرأة، وغيّر مواقفه من ساسة مصر الذين كان يهجوهم أيام حظوته بقصر عابدين، ولا سيما أحمد عرابي.

صورة تجمع أحمد شوقي وحافظ إبراهيم، وقد نُصّب شوقي أميرا للشعراء بعدما نعته حافظ بهذا اللقب

ثم عاد إلى “كرمة بن هانئ”، ومنها نسج علاقات نفوذ مع زغلول والسلطة القائمة آنذاك، واختير عضوا لمجلس الشعب عن دائرة سيناء.

كتب شوقي في الشأن الوطني والعروبي، وتغنى بالثورة، وتبنى تجديد روح الشعر العربي القديم. يقول أستاذ النقد بجامعة السويس محمود الضبع إن شوقي وقبله البارودي “جاءا في وقت كانت اللغة العربية مهملة”.

ويرى الشاعر المصري أحمد سويلم أن النفَس التجديدي في الشعر يعود لكون شوقي قرأ أعمال “لافونتين”، كما قرأ “أساطير القرون” لـ”فيكتور هوغو”، وألّف على غرارها “كبار الحوادث في بلاد النيل”، فكتب عن الشخصيات الفرعونية والعوائل الملكية في مصر.

وهنا يلاحِظ أستاذ النقد والبلاغة أحمد درويش أن شوقي صبر كثيرا على صدود الناس عن التجديد، فكان حلقة من حلقات التجديد العربي، ومثّل مرحلة الصراع بين الحديث والقديم.

“أميرَ القوافي قد أتيتُ مبايعا”

يرفض بعض الأدباء التسليم بتحول شوقي من شاعر بلاط إلى صوت وطني، ومن خزانة للشعر القديم إلى مبشر بالتجديد.

وهذا الفريق تتزعمه جماعة مدرسة الديوان، ومن أبرز رجالها عباس محمود العقاد، وإبراهيم المازني، وعبد الرحمن شكري، فقد رأوا فيه قديما لا يصلح للعصر الحالي.

وفي نظر العقاد، فإن الأجيال الجديدة لم تتعلم شيئا من شوقي، وإن بيتا واحدا للبحتري عن الربيع يساوي ما كتبه شوقي في ربيعياته، كما اتهمه بالسرقات وإعادة إنتاج المتنبي والبحتري والبارودي.

وتخلُص الأديبة هويدا صالح إلى أن شوقي لم يكن شاعرا ذا وجه واحد، أما محمود الضبع فيقول إنه كان يتجنب الصراع، ويتحكّم فيما يُكتب عنه في الصحافة عبر النفوذ والمال.

ومع قوة خصومه، فقد واصل شوقي حضوره في الشأن الوطني وفي الحقل الثقافي الأدبي، فتكرست مكانته الشعرية في مصر وخارجها، وكتب في المسرح، ولم يسبقه إلى ذلك شاعر مصري، واصطفى لنفسه محمد عبد الوهاب، فاتخذه بلبلا يشدو بشعره.

وفي أواخر أبريل/نيسان 1927، استضافت دار الأوبرا المصرية حشودا ووفودا شعرية من المهجر ومن مختلف الأوطان العربية، وعندما بدأ الحفل أمسك حافظ إبراهيم مكبر الصوت، وأنشد:

أميرَ القوافي قد أتيتُ مُبايِعا
وهذي وُفودُ الشرقِ قد بايعت معي

ومن تلك اللحظة، نُصّب شوقي أميرا للشعراء، واحتفظ بهذا اللقب حتى رحيله في 14 أكتوبر/ تشرين الأول 1932، وكانت وفاته زلزالا هز مصر والعرب، فانهار هرم الشعر، ونعته الصحف، ورثاه الشعراء.


إعلان