آنييس فاردا.. رحيل رائدة الموجة الجديدة في السينما الفرنسية
ندى الأزهري

إحدى أكبر الفنانات في عصرنا، معروفة على نطاق عالمي بأنها من روّاد الموجة الجديدة في السينما الفرنسية في الخمسينيات والستينيات، حققت أعمالا مبتكرة رائدة على الحدود بين الوثائقي والروائي، وتركت أثرا كبيرا في السينما الفرنسية.
هي التي قالت “حاولت عمل الأفلام حين كنت أحسُّها كما كنت أحسّها”، إنها آنييس فاردا المصورة والفنانة التشكيلية والمخرجة الفرنسية التي رحلت الجمعة 29 مارس/آذار الماضي في منزلها بالعاصمة الفرنسية باريس، عن عمر ناهز 90 عاما.
ولدت آنييس في بروكسل عام 1928 من أب يوناني، وتركت بلجيكا حين كانت تحت القصف بداية الأربعينيات وتوجهت إلى فرنسا، حيث استقرت في مدينة “ستْ” جنوب البلاد قبل أن تغادر إلى العاصمة، حيث درست في السوربون ومدرسة اللوفر الفنون والتصوير شغفها الأول، وكان لصورها الفضل في التعريف بها، لا سيما حين عملت مع المسرحي الشهير “جان فيلار” عام 1949.
آنييس.. مسيرة أفلام وثائقية وروائية
آنييس مخرجة مجددة في السينما الفرنسية، يصعب -بل يستحيل- تلخيص حياتها ومسيرتها السينمائية الحافلة والرائعة والممتدة على مدى أكثر من نصف قرن في كلمات قليلة، فهي التي كانت تتنقل باستمرار بين الفيلم القصير والطويل، وبين الوثائقي والروائي، وبرزت منذ فيلمها الأول مؤلفة سينمائية مبشرة بالموجة الجديدة.
حققت آنييس أفلاما روائية غير عادية مثل “المخلوقات” مع ميشال بيكولي وكاترين دونوف، وأفلاما وثائقية تناولت مواضيع متنوعة شخصية وعامة، فمن عوالم عائلتها لا سيما زوجها المخرج جاك ديمي، إلى القصور المشرفة على نهر اللوار، مرورا بأحداث أمريكية مثل ثورة كوبا وحركة الفهود السود والرسومات الجدارية في لوس أنجلوس.
عاصرت آنييس فرانسوا تروفو، وتعرفت على شخصيات شهيرة منهم فيدل كاسترو، وكان لها الفضل في تقديم كبار ممثلي السينما الفرنسية مثل فيليب نواريه وجيرار دوبارديو. أحبّت الموسيقى وتعاونت مع الموسيقي الكبير ميشال لو غراند، وصنعت أفلاما عن مغنين مثل جين بيركن وآلان شوسون، لكن اهتمامها غالبا ما انصبّ أيضا على أناس غير معروفين فأظهرتهم في أفلامها، كهؤلاء العاملات في معمل للألعاب في فيلمها الروائي “واحدة تغني والأخرى لا”، وملتقطو البقايا في السوق في “ملتقطون وملتقطقات”، وذلك في انتقاد لتطرف المجتمع الاستهلاكي، وصيادو مدينة “ست” في فيلمها الأول “الرأس الصغير” الفيلم الذي جمع كل خصائص المدرسة الشابة والجديدة في السينما.

“رأس صغير” وفعل كبير
“كل السينما الجديدة تجدُ بذرتَها في هذا الفيلم”، هكذا كتبت المجلة البلجيكية للسينما عن فيلم “الرأس الصغير”، وصنّفه نقاد بأنه “حرّ ونقيٌّ ومعجزة”، ووصفه المؤرخون السينمائيون بكونه “أحد أوائل أفلام الموجة الجديدة”، وقالت آنييس عنه فيما بعد ردا على التوصيفات بأنها أنجزته عام 1954، فيما الموجة الجديدة بدأت عام 1958، إذاً تاريخيا هو “فيلم نذير”.
“الرأس الصغير” فيلم صور بكاميرا 35 ملم، وبإمكانيات ضئيلة بعيدا عن الدائرة الاقتصادية التقليدية، وهي عادة تابعتها آنييس خلال مسيرتها الفنية، توجّه أكدته في حديث إذاعي بقولها “كنت ربما إحدى الأوائل الذين قالوا بوجوب تصوير أفلام غير مكلفة بسرعة وبتعبير حرّ، مع محاولة كسر واقعية أفلام تلك الفترة على نحو ما”. الفيلم كان كذلك أول ظهور للممثل الفرنسي فيليب نواريه الذي اشتهر فيما بعد وبات من كبار ممثلي السينما الفرنسية.
ويحكي الفيلم قصة رجل يعود لقضاء عطلته إلى حيّه الأول “الرأس الصغير”، وهو حيّ صيادين في مدينة “ست” المطلّ على شواطئ المتوسط، فتلحق به زوجته لتعلن له رغبتها بالانفصال، لكن من خلال جولات في المكان وتأملات في الحياة والمحيط وعلى إيقاع الأحداث اليومية المليئة بالقسوة والمأساوية والاحتفالية لحياة قرية صغيرة، يحصل تطور في نظرة الزوجين وتتجدد علاقتهما.
هذا الفيلم “سيَلبسها” كما يُقال ولن يتركها أبدا، وسيظل يذكّر –بسبب جرأة أسلوبه- بأن آنييس رائدة الموجة الجديدة، وهو قد أوجد لها مكانا في تيار كان كله من الرجال. وحين استعادت آنييس بداياتها عن هذا الفيلم في فيلمها الأخير “آنييس بحسب فاردا” قالت: “كان حينها القليلُ جدا من النساء المخرجات، لكنني حين عملت هذا الفيلم لم يكن همي القول أنا امرأة مخرجة، إنما أن أحقق فيلما جذريا”.
“كليو من 5 إلى 7”.. منارة الموجة الجديدة
حصلت آنييس على جائزة أوسكار شرفية عام 2017، وذلك عن مجمل أعمالها التي شملت أفلاما كلاسيكية مناصرة للمرأة مثل “كليو من 5 إلى 7” الذي فرضت نفسها من خلاله كمخرجة أيقونة، قبل أن تتابع نجاحاتها النقدية في أفلام أخرى مثل “واحدة تغني وواحدة لا” و”السعادة”، ونجاحاتها الجماهيرية مع “بلا سقف ولا قانون”، وهي أعمال اعتبرت من أبرز ما أنجزته.
“كليو من 5 إلى 7″ فيلم خالد بما يثيره من مشاعر مشوقة وحميمية تجري أحداثه في الزمن الحقيقي، فقد صُوّر الفيلم الذي أكد على “سينما الحقيقة” لآنييس عام 1962، ولم تغش فيه -كما قالت في أحد دروسها- لا في المسافة ولا في الجغرافيا.
تابعت الكاميرا في الفيلم البطلة “كليو” لمدة ساعتين (من الخامسة إلى السابعة)، وهي تهيم في شوارع باريس بلا هدف، غارقة في حيرتها وضياعها مستسلمة لهواجس الخوف والشك، فكيف يمكن العيش حين يؤرقك موت منتظر؟
كليو المغنية الباهرة الجمال كانت تنتظر نتائج تحليل طبي، وتنبأت لها العرّافة بإصابتها بمرض خطير. الشابة تعي شيئا فشيئا هويتها، فصدمة الخوف فتحت عينيها للاهتمام بالآخرين والانفتاح على الحياة، إنها مسيرة كليو وطريقها للخلاص، وهي مساهمة المخرجة في الحركات النسائية لذلك العصر بلا خطب ولا صراخ كما ذكرت مرة.
كان “كليو من 5 إلى 7” أول فيلم لامرأة اختير في مهرجان كان، فيلم ذو شاعرية يمزج ذكاء السرد وحساسية النظرة، وتوّج منارة للموجة الجديدة، وإلى اليوم -أي بعد 60 عاما تقريبا- لم يضع شيء من سحره. ففي هذا الفيلم ألّفت آنييس أربع أغنيات على وقع موسيقى الفنان الكبير ميشيل لوغراند، وما زالت تلك الأغاني تثير مشاعر الجمهور.
“السعادة”.. كيف تراها آنييس؟
سنوات ثلاث بعد هذا الفيلم، حققت فاردا فيلما عن “السعادة” ضمنته تساؤلاتها وتجاربها، فهل يمكن تصوير السعادة؟ تقول آنييس عن فيلمها هذا “أردت أن أرى السعادة كما هي من خلال عائلة نموذجية، فالزوج أراد إضافة سعادة على سعادته مع زوجته بحبّ امرأة أخرى تشبهها”.
في هذا الفيلم استخدمت آنييس موسيقى “موزارت” التي وإن عبرت عن السعادة بحيويتها فهي موشّحة بشيء من القلق، كما لعبت على اختيار الألوان لتعطي الانطباع الذي تريده، وذلك من خلال إظهار لونين في نفس المشهد أزرق مع أصفر أو أحمر، وحصد الفيلم جائزة “لوي دوللوك” وهي جائزة مهمة ومرموقة في فرنسا.
عادت فاردا إلى قضية المرأة لكن بمباشرة أكبر هذه المرة، وذلك مع “واحدة تغني والأخرى لا” الذي أنتجته عام 1976، وعرضت فيه تطور وضع المرأة في الستينيات بإثارة القضية النسائية ونضال المرأة لتكون شاهدة على عصرها من خلال رسمها لعلاقة صداقة وتضامن بين امرأتين.

“بلا سقف ولا قانون”.. أكبر النجاحات
وتجسّد اهتمام آنييس بطبقات المعوِزين والمشردين في “بلا سقف ولا قانون” أو “المشردة” (1985)، فهو فيلم يسرد الأيام الأخيرة لمشردة شابة لا شيء يربطها بالحياة، وماتت وحيدة بائسة على الطريق.
فضّلت آنييس في الفيلم تصوير سلوك الشخصية وليس نفسيتها، وقد جسّدت الدور “ساندرين بونير” التي حصدت عنه سيزار أفضل ممثلة فرنسية، وكانت اكتشافا مذهلا للمخرجة.
الفيلم كان أكبر نجاح تجاري لآنييس، ونال الأسد الذهبي في مهرجان البندقية، وبقيت بونير معترفة بفضل آنييس عليها حتى النهاية، وقالت في كلمتها في رثاء المخرجة “حين التقيتك كنتُ زهرةً وغدوت فيما بعد شجرة، وبفضلك تجذرت في هذه المهنة”.
آنييس.. أفلام شهيرة في لوس أنجلوس
اهتمت آنييس على الدوام بالناس، وكانت لا تتردد في إعداد حقائبها وحمل كاميرتها (16 ملم) لتصوير ما يثير اهتمامها، لقد ذهبت خصيصا لأمريكا لتصور “الفهود السود”، وهي الحركة التي تشكلت لمناصرة زعيمهم هوي نيوتن ولمتابعة محاكمته.
بقيت آنييس في لوس أنجلوس مدة ثلاث سنوات (من 1968 وحتى 1970)، والتقت المغني الشهير جيم موريسون في “فرقة دورز”، وظهر في فيلمها “حبّ الأسود”، كما حققت هناك بعد عام 1981 فيلما شهيرا “جدار.. جدران”، وهو عن الرسوم الجدارية التي يرسمها عمال من أصول مكسيكية في شوارع لوس أنجلوس.
“جاكو نانت” و”مئة ليلة وليلة”
مالت آنييس إلى الفيلم الوثائقي الذي شكّل 95% من إنتاجها، وكانت تعبر باستمرار عن هذا الميل بالقول “أحب الوثائقي، لكنني طالما رغبت بتصوير ما أعرفه، ما هو قربي، جيراني، أماكني، الصفوف عند الخباز، أن أقف في زاوية وأصور الناس العاديين، مراقبة الناس خلال أدائهم لأعمالهم وتصوير الأغلبية الصامتة”.
من أفلامها المؤثرة “جاكو نانت” عام 1991، فقد عادت فيه آنييس إلى دفاتر زوجها المخرج الفرنسي الشهير جاك ديمي لتسرد طفولته بأسلوب شاعري. ومع موهبتها في القصّ وفضولها، فقد عرفت أن تحتل مكانا على حدة في السينما الفرنسية لدرجة أنه طلب منها تحقيق فيلم للاحتفال بمئوية السينما.
وفي عام 1995 جمعت في “مئة ليلة وليلة” كبار السينما الفرنسية، ودعت الممثل الأميركي روبرت دونيرو للظهور في فيلمها، فجاء وتعلّم النص بالفرنسية ليردده أمام كاترين دونوف، لكن الفيلم كان كارثة كما تعترف.

“شواطئ فاردا”.. سيزار أفضل وثائقي
بعدها سنوات كوفئ “شواطئ فاردا” في أمريكا وفرنسا، إذ فاز بجائزة سيزار أفضل فيلم وثائقي عام 2008، وذلك لابتكاره وجماله وتقديمه رؤية شاعرية لحياة وأعمال آنييس فاردا.
وغداة أعوامها الثمانين قررت آنييس العودة إلى مسيرتها وحياتها، فهي كانت تحب تسجيل وترتيب ذكرياتها في دفاتر وجمع أكوام من الصور، وتسجيل المعالم الأهم في حياتها الخاصة والفنية، وعبر مرايا منتشرة على شاطئ “ست” عكست ملامح من حياتها هذه.
وفي الفيلم تنقلت آنييس من الشواطئ البلجيكية إلى سنواتها الأولى في ستْ جنوب فرنسا، ومن نوارموتييه على الأطلسي غرب فرنسا إلى شواطئ باريس على نهر السين وبيتها هناك. تزور المؤلفة السينمائية الشواطئ التي علّمت وجودها وحياتها، لكن ليس فقط إذ تحيي أجواء كاليفورنيا في الستينيات، وأمريكا الفهود السود التي اكتشفتها.
وخلال الفيلم تظهر وجوه محبوبة لها وتبرز أخرى اختفت، ومنها جان فيلار وجيم موريسون، وبالطبع جاك ديمي زوجها الذي لم يكفّ عن مرافقتها حتى بعد رحيله.
“وجوه وأماكن”.. صداقة عبر التصوير
من أبرز ما قدمت آنييس في الوثائقي “وجوه وأماكن” الذي انتهت منه في 2016، وقد صورته بالتعاون مع المصور جي آر على طرق فرنسا حين التقيا عام 2015، فهما أرادا على الفور العمل معا لتصوير فيلم في فرنسا بعيدا عن المدن، مسافرين باستخدام الشاحنة الفوتوغرافية للمصور الشاب.
كان شغفهما بالصورة وتساؤلاتهما عنها وعن الأماكن والأجهزة نقاطا مشتركة بينهما، لكنها هي اختارت السينما وهو اختار المعارض في الهواء الطلق. في الفيلم ذهبا نحو الآخرين واستمعا لهم، وصورا البعض منهم أحيانا، كما يروي الفيلم قصة صداقتهما وتطورها عبر التصوير.

سيدة السينما الفرنسية القصيرة القامة
عُرض آخر أفلامها “فاردا بحسب آنييس” في مهرجان برلين السينمائي في فبراير/شباط الماضي، وحصل على جائزة شرفية، فالوثائقي من جزأين وقدمته على شكل درس في السينما، وعادت فيه إلى مسيرتها السينمائية، وإلى فترة حديثة التفتت فيها إلى الوثائقي والفنون البصرية أكثر، وكأنها كانت تتوقع مصيرها، فقد قالت حينها في كلمتها “يجب أن أتوقف عن الحديث عن ذاتي، أن أحضّر نفسي للقول وداعا، للرحيل”.
كانت آنييس فاردا مؤلفة سينمائية منفتحة على كل الأنواع، وستبقى بالنسبة للسينمائيين ومحبي السينما رائدة الثورة السينمائية الفرنسية لسنوات الستينيات، فهي مصورة في أعماقها ابتكرت تشكيلات، وكانت تحوّل أي منظر عادي إلى لوحة تشكيلية بالتقاطها زوايا معينة منه.
اهتمت آنييس بالزمن والأثر الذي يتركه على الأشياء والأشخاص، كهذه اللقطات عن مرور الزمن على سقف بيتها، أو بطاطا على شكل قلب، على يد زوجها جاك ديمي وهي مستقرة على رمال شاطئ “نوار موتييه”، وعلى يدها هي.
لم تكن آنييس تميل لتسميتها سيدة السينما الفرنسية، فقد صرحت مرة في حديث إذاعي لإذاعة “ر تي ل” “كنت دائما قصيرة، وقد نقص طولي من متر و53 سم إلى متر و48 سم، وما يثير غضبي أن يدعوني السيدة الكبيرة للسينما الفرنسية”. (كبيرة وطويلة نفس الكلمة بالفرنسية).