أندريه تاركفسكي.. قيثارة السينما وسمفونية الخلود

عبد الكريم قادري

ولد أندريه تاركفسكي في الرابع من أبريل/نيسان 1932 بمدينة تقع على ضفاف نهر الفولغا الشهير بمدينة زفارجيه بروسيا

أسس المخرج الروسي الكبير أندريه تاركفسكي (1932-1986) طوال مسيرته الفنية، مسارا حافلا بالإنجازات السينمائية، كان فيها مبدعا لا متبعا، متحررا من النمط الكلاسيكي والفهم القاصر للسينما، غامر وخلق لنفسه اتجاها سينمائيا يعكس ما كان يصبو إليه من أن تكون السينما أكثر من تقنية وعناصر قصصية موروثة وفق نمط معين، وأن تكون الأفلام التي يُحققها عامرة بالإحالات الفلسفية التي كانت تؤرقه، يُجسد فيها الشاعرية التي يتطلع لها، شاعرية مؤسسة على أركان معرفية تولّد الجمال والمعرفة، وتجعل المُتلقي يقف مطولا أمام أي مشهد من أفلامه متأملا، وفي نفس الوقت مستمتعا بالتفاصيل الصغيرة التي يصنعها ويزرعها في أركان وزوايا فيلمه.

هذه الرؤى الثاقبة لهذا المخرج العبقري لم تأت من عدم، بل هي نتاج وعي معرفي وحضاري واجتماعي تشكّلت عبر سنوات نحته المعرفي الذي استخلصه من مشاهداته المتنوعة لأفلام لويس بونويل وإنجمان بريجمان وأكيرا كيروساوا، وقراءاته العميقة لعمالقة الأدب والفلسفة على غرار دوستويفسكي الذي قال عنه “بإمكان دوستويفسكي أن يصبح غاية ما أريد أن أفعل في السينما”، وهرمان هيسه وآخرين، بالإضافة إلى الشعراء الخالدين، ومن بينهم والده أرسيني تاركوفسكي الذي يُعد واحد من بين هؤلاء الذين نشأ على نصوصهم الشعرية.

وعن طريق هذه الفسيفساء المعرفية تأسس وعي أندريه تاركفسكي الذي أبهر العالم -ولا يزال- بمجموعة من الأفلام، يحمل كل واحد منها بعدا نظريا وجماليا، أنتجت مدرسة سينمائية يستفيد منها كل عاشق للسينما في أي جيل وعبر مدار السنوات.

 

عبقري على ضفاف الفولغا

ولد أندريه تاركفسكي في الرابع من أبريل/نيسان 1932 بمدينة تقع على ضفاف نهر الفولغا الشهير بمدينة زفارجيه بروسيا. عاش بعيدا عن والده الشاعر الروسي أرسيني، وهذا بعد طلاقه من والدته التي تربى عندها مع أخته.

درس الإخراج بمعهد غيراسيموف للسينما الذي تخرج منه سنة 1962، حيث أنجز فيلما قصيرا تحت عنوان “ملعب التزحلق والكمان” الذي حصد الجائزة الأولى في مهرجان الأفلام الطلابية في نيويورك سنة 1961. وبعد سنة أخرج باكورته “طفولة إيفان” (1962)، وهو الفيلم الروائي الطويل الأول الذي جلب له الاهتمام الدولي، وأثبت من خلاله جدارته كمخرج.

ويحكي الفيلم عن طفل اسمه إيفان عمره 12 سنة، يحاكي من خلاله المخرج تجارب الحرب العالمية الثانية المريرة، من أجل إظهار مآسي الحروب ودمارها، والألم الذي يمكن أن تسببه للعالم أجمع وللطفولة بشكل خاص.

وعلى الرغم من أن الفيلم لم يعكس رؤى المخرج الفلسفية ورؤاه السينمائية، فإنه أظهر موهبته للعالم. وقد نال الفيلم الجائزة الأول، وهي الأسد الذهبي، في مهرجان فينيسيا (البندقية) سنة 1962 مناصفة مع فيلم “نهار خاص” للمخرج المعروف فاليريو زورليني، لتتوالى فيما بعد تجارب أخرى أكثر حرفية، جسد خلالها نظرياته في الأفلام التي كانت تعتمد على مبادئ شعرية، وفي كل فيلم يُظهر لمسة جديدة، خلق من خلالها اتجاها بات يعرف بـ” التيار الشعري للسينما الذاتية”.

 أخرج تاركفسكي في مساره الإبداعي الذي امتد لنحو 25 سنة، سبعة أفلام عكست توجهه السينمائي بشكل كبير، سواء تلك التي أخرجها في روسيا أو خارجها، مثل فيلم “نوستالغيا” (1983) الذي أخرجه في إيطاليا وروى من خلاله معاناة الفنان في الحياة، وارتباط آلامه مع المشاكل الوجودية والاجتماعية التي يمكن أن تواجهه في الحياة، حيث وصفه المخرج بقوله “أردتُ الفيلم أن يكون عن الارتباط القاتل للروس بجذورهم الوطنية، ذلك الارتباط الذي سيحملونه معهم لبقية حياتهم بصرف النظر في أي قدر قد يرميهم به. ما كنتُ أتخيله وأنا أصنع نوستالغيا هو ذلك الإحساس الشديد بالشوق الذي يملأ فضاء شاشة ذلك الفيلم ليصبح القطعة الباقية من حياتي، والتي من الآن حتى نهاية أيامي سأحمل داءها المؤلم في روحي”.

أما الفيلم الثاني الآخر الذي أخرجه خارج روسيا وهو آخر أفلامه فهو فيلم “سكارفايس” (1986) الذي أُنتج بالسويد بمساعدة المخرج الكبير بريغمان. وقد قال الأخير عن الفيلم إنه تحفة سينمائية، وهو الفيلم الذي حاول أن ينجزه طوال حياته.

أما عن أعظم أفلامه والذي لا يزال إلى اليوم يثير الأسئلة وتقام حوله العديد من الدراسات حول العالم، فهو فيلم “مرآة” (1975) الذي عكس فيه عمق تجربته وسيرته الذاتية، أحلامه وكوابيسه ونظرته إلى الطبيعة والحياة، وهذا ما فعله في أفلامه الأخرى بشكل نسبي مثل “أندريه روبلوف” (1966)، و”سوليارس” (1971)، و”ستالكر” (1979).       

 

الحرية والحياة.. معارك مع الرقابة

عاش أندريه تاركفسكي في حياته العديد من المعارك مع الرقابة الروسية بشأن أفلامه التي عملت على تجاهلها أو منعها من العرض، وفي أبسط الحالات عرضتها وسط ظروف غير مواتية في قاعة درجة ثانية أو ثالثة، بهدف تكسيره وحجب النور على معجبيه.

ولقد دوّن تاركفسكي في يومياته العديد من هذه الآلام والمآسي، وترجمها من الروسية كيتي هنتر بلير، ونُشرت في كتاب سنة 1994 بعنوان “الزمن داخل الزمن”، وترجمها للعربية أمين صالح.

وقد سجّل تاركفسكي في هذه اليوميات تأملاته الفلسفية عن الحياة والحرية، وقال عنها “ليس للحياة غاية، لو كانت هناك غاية فإن الإنسان لن يكون حرا، بل سيصبح عبدا لتلك الغاية، وحياته ستكون محكومة بمعايير جديدة تماما: معايير العبودية، مثل الحيوان الذي غاية حياته هي الحياة نفسها، استمرار النوع. الحيوان يتحمل ثقل نشاطاته المستعبدة، لأنه يستطيع أن يشعر بغاية حياته غريزيا، وبالتالي فان عالمه محدود. الإنسان من جهة أخرى يزعم أنه يتوق إلى المطلق”.

كما تحدث عن الروح التي تسكن الجسد والتي هجرها الإنسان الحديث ولم يعد يهتم لأمرها، في حين أصبح مستهلكا لا يهتم إلا للمادة. الجنس البشري سارع إلى حماية الجسد ولم يهتم أبدا بحماية الروح. وفي مسار تاريخ الحضارة، الشطر الروحي من الإنسان قد انفصل أكثر فأكثر عن الشطر الجسدي المادي. والآن في الامتداد اللامتناهي للظلمة نستطيع فحسب أن نكتشف، مثل أنوار قطار راحل، النصف الآخر من وجودنا فيما ينطلق بعيدا.. على نحو متعذر تغييره، والى الأبد. الجنس البشري فعل كل ما بوسعه لإبادة نفسه، بادئا بالإبادة المعنوية.. الموت المادي هو مجرد النتيجة”.

رافقت الانتكاسات النفسية والمادية تاركفسكي طوال مساره، وفي الكثير من المحطات وقف أمامها طويلا، ليعترف “أنا متعب، في أبريل سوف أبلغ الأربعين من العمر، مع ذلك لم أشعر قط بالأمن والطمأنينة. كان لدى بوشكين الأمان والعزم بدلا من الحرية، لكنني لا أملك أيا منهما، 15 فبراير 1972”.

لكن مقاومته الشرسة تجعله يتجاوزها ويمضي، يبحث عن مشروع يجسد من خلاله أحلامه المؤجلة، عن هامش للحرية، عن فن حقيقي يجسد ما يصبو إليه: “هل سأظل مرة أخرى جالسا في مكاني لسنوات، منتظرا أن يتكرم شخص ما ويسمح لي بالعمل بحرية، أي بلد استثنائي هذا.. ألا يريدون نجاحا فنيا عالميا، ألا يرغبون في أن تكون لدينا أفلام وكتب جديدة وجيدة؟! إنهم يخافون من الفن الحقيقي. الفن بالنسبة لهم لا يمكن إلا أن يكون ضارا لأنه إنساني، بينما غرضهم هو أن يسحقوا كل ما هو حي، كل شعاع إنساني، كل توق إلى الحرية، كل ظهور للفن على أفقنا الموحش. لن يرتاح بالهم إلا إذا أزالوا كل إمارة من إمارات الاستقلال وحولوا الناس إلى مرتبة القطيع، 23 فبراير 1972”.

عاش أندريه تاركفسكي في حياته العديد من المعارك مع الرقابة الروسية بشأن أفلامه التي عملت على تجاهلها أو منعها من العرض

ويأتي الحزن امتدادا

في معظم حواراته ومرورا بمحطات حياته يظهر تاركفسكي بأنه عاش ويعيش الألم، فقد عاش طفولته بعيدا عن الأب، تزوج مرتين، ناهيك عن مراحل الديون والإفلاس التي رافقته دائما، كما حرمته سلطات الاتحاد السوفياتي من أن يرى ابنه، ومنعته من السفر ليلحق به إلى المنفى.

وهذا ما فعلته أيضا مع زوجته لريسا كيزيلوفا التي مُنعت هي الأخرى من السفر معه في الكثير من المرات، خاصة عندما ينجز أفلامه خارج روسيا، إذ تعد زوجته ومساعدته في الأفلام، ناهيك عن مرضه الذي ألم به في السنوات الأخيرة، وجعله يتألم كثيرا، بعيدا عن مرافقة العائلة.

لكن قبل أيام فقط من وفاته وبعد ضغط عالمي كبير سمحت السلطات لابنه كي يلتحق به في فرنسا، لكن بعد أيام قليلة فقط توفي، دون أن يعيش لحظات جميلة مع ابنه، وهذا كان في يوم 29 ديسمبر/كانون الأول 1986، عن 54 عاما. ترك خلفه إرثا كبيرا من الأعمال الخالدة التي جعلت منه أيقونة عالمية للسينما عبر كل العصور.  


إعلان