الخضر حسين.. تونسي ارتقى مشيخة الأزهر
“تكبر يا أخضر، وتكونْ شيخْ للأزهر”..
بهذه الأمنية كانت السيدة حليمة السعدية تهدهد وليدها الخضر حسين. لكن الأزهر بعيد من مدينة نفطة بمحافظة توزر التونسية القريبة من الحدود مع الجزائر.
وفي بيئة علمية محافظة تنتهج الصوفية الإيجابية مذهبا، ولد محمد الخضر حسين عام 1876 لتبدأ رحلته الحافلة بالعلم والنضال.
وفي 2019 أنتجت الجزيرة الوثائقية فيلما يسلط الضوء على حياة هذا المناضل والشاعر والفقيه.
يحكي الفيلم كيف أنشأ حسين مجلة السعادة العظمى بتونس، ولقي حظوة من أنور باشا، فعُيّن في وزارة الدفاع والحرب في آستانة، وكتب نقضا وردا على كتاب الإسلام وأصول الحكم، وطالب بالخلافة، وأظهر تأييده للملك فؤاد فنال إمامة الأزهر الشريف.
تعلم القرآن حفظا وتفسيرا على يد أمه حليمة السعدية بنت الشيخ مصطفى بن عزوز، وفي عام 1889 قدم لتونس العاصمة والتحق بجامع الزيتونة.
وكان خاله المكي بن عزوز شيخا ومدرسا بالجامع ففتح له أبواب العلماء الذين أبهرهم نبوغه.
تتلمذ على يد العلامة سالم بوحاجب الذي يعتبر رمزا من رموز المصلحين بتونس وتأثر به كثيرا. بيد أن أعمق تأثير لقيه الشيخ كان من خاله بن عزوز.
يقول فتحي عبد القادر أستاذ التاريخ والحضارة بالجامعة التونسية “إن الخضر حسين تأثر كثيرا في تكوينه بشيخه وخاله المكي بن عزوز”.
وفي مسيرة الخضر العلمية والعملية بدا وفيا لخاله ومعلمه الأول، يقول الدكتور أبزير خلف الله رئيس قسم التاريخ بجامعة تركيا “إن المكي بن عزوز هو الذي أنتج شخصية الخضر وساهم في نحتها”.
عاصر الشيخ الخضر الطاهر بن عاشور وجمعت بينهما الدراسة في جامع الزيتونة مما كان له أثر كبير في عمق علاقتهما الوطيدة.
تكللت مسيرة الخضر العلمية بالنجاح فحصل على شهادة التطويع من الزيتونة وأصبح من المحاضرين والأوجه العلمية المعروفة بتونس فعين أستاذا بالمدرسة الصادقية.
النضال الحذر
كانت الجزائر أولى محطاته الخارجية التي كان يستغل فيها المنبر ويدعو الناس للوحدة والمطالبة بالحرية.
مكث فترة قصيرة بالجزائر لا تبلغ سنة، ثم عاد لتونس ووجد التونسيين في جدل فكري كبير أنتجه قدوم الشيخ محمد عبده وزيارته لتونس.
وفي 1904 أنشأ مجلة السعادة العظمى، وهي أول مجلة ناطقة باللغة العربية في تونس، وقد كان يكتب أغلب مقالاتها.
توقفت المجلة عن الصدور بعد إنشائها بفترة وجيزة. انتقل الشيخ الخضر بعد ذلك لمدينة بنزرت الساحلية فتولى الإفتاء والقضاء والتدريس.
اتخذ من منبر الجامع وسيلة للمناداة بالحرية التي كان يرى مركزيتها في الحياة الإنسانية، فلا وجود لمعنى الكرامة في ظل انعدام الحرية عنده، حيث يقول “إن الأرض إن اندرست فيها أطلال الحرية إنما تؤوي الضعفاء والسفلة ولا تُنبت العظماء من الرجال”.
ويقول مدير المعهد العالي لأصول الدين بتونس منير رويس “لقد كان الخضر يرى أن الحرية ليست مستحدثة في فرنسا، بل نادى بها الإسلام قديما وطالب بها”.
وبعد رفعه لشعار الحرية والخوض في مفهومها ساءت العلاقة بينه وبين جنود الحماية الفرنسيين، فاستدعاه القنصل العام لفرنسا في تونس وعرض عليه العمل في المحكمة الفرنسية فنأى بنفسه عن ذلك.
غادر الشيخ بنزرت ورجع لتونس، ولكنه لم يجد في الزيتونة مبتغاه، فمنعته المشيخة المتمخزنة من التدريس، فحز ذلك في نفسه كما يقول الدكتور فتحي عبد القادر.
الهجرة المباركة
بسبب فصله من العمل ومراقبته من قبل الفرنسيين ضاقت عليه أرض تونس بما رحبت، ووجد الشيخ الخضر نفسه مضطرا للهجرة :
ففي الأرض منأى للكريم عن الأذى
وفيها لمن خاف القِلى متعزل
خرج إلى الشام حيث إخوته هناك، فالتحق بهم وأفاد من علماء دمشق وصحبهم واستقر به الحال وطاب له المقام، قبل أن تأخذه أيادي جمال باشا بتهمة التآمر على الدولة ويقع في ظلمات سجن السفاح.
وبعد أن أطلق سراحه أراد الخروج للآستانة مرة أخرى. يقول الرضا الحسيني بأن الشيخ الخضر “كان يهوى الترحال، ولكن رحلته للشام كان هدفها صلة القربى واجتماع الشمل. يمم الفقيه وجهه لآستانة حيث كان يقيم شيخه وخاله المكي بن عزوز”.
ربطته علاقات قوية بأنور باشا وزير الحرب والدفاع، وأصبح موظفا في وزارة الدفاع مما جعل الكثير من إشارات الاستفهام توضع حول علاقات الفقيه بأصحاب المدفعية والنياشين.
ابتُعث الشيخ من قبل الوزارة الحربية إلى ألمانيا، فاستغل الخطاب الديني وحاضر للمغاربة وحثهم على مقاومة الفرنسيين وفتح مسجدا للجنود المسلمين في برلين.
وبعد سقوط إسطنبول بأيدي الحلفاء عاد من هامبورغ بألمانيا إلى دمشق عام 1919. وعندما دخل الفرنسيون الشام وجد نفسه مضطرا للخروج من دمشق لأن الفرنسيين كانوا قد حكموا عليه غيابيا بالإعدام.
الكنانة وتحقيق الأحلام
كانت حليمة السعدية والدة الشيخ الخضر حسين تهدهده صغيرا “تكبر يا أخضر وتكون شيخا للأزهر”، وقد تبين أن همة الأم وطموحها في ولدها الأصغر سيتجسد فعليا على أرض الواقع.
لكن المنون غيبت الأم قبل أن تشاهد بعينيها ما كانت تراه حلما وتقول هذه رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا.
في عام 1920 حزم الشيخ أمتعته وحل بمصر باحثا عما تخبئه له الأيام، تردد على الازهر كثيرا وحاول الالتحاق بهيئاته العلمية ولم يكن له ما يريد.
وفي إقامته بالقاهرة وأثناء تردده على الهيئات الثقافية التقى بالسيد أحمد تيمور باشا فتوسط له ورفع من شأنه حتى أصبح من طاقم هيئة التدريس في الأزهر.
وبحكم عوامل عديدة أهمها المثاقفة وصراع الأفكار الذي تعيشه مصر آنذاك، أصبح الشيخ ينظر للأمور السياسية نظرة جديدة تقوم على استمرارية الحكم ومركزيته.
يقول مدير المعهد العالي لأصول الدين في تونس “بعدما دخل مصر وجد العلم والثقافة.. فهنالك من ينادي بالحداثة والتجديد وعدم تغييب العقل”.
كان الخضر حسين يحن للخلافة العثمانية ويرى في الخلافة الطريق الوحيد لتخليص الإسلام والمسلمين، كما يؤكد ذلك الأستاذ بجامعة الزيتونة الدكتور علي الصولي قائلا “عندما خرج بدأ فكره السياسي يتوسع.. وكان يرى أن الملاذ الوحيد لعزة الإسلام هو الخلافة”.
القرب من الملك
وفي 1925 ألف شيخ أزهري كتابا سماه “الاسلام وأصول الحكم”، وهو كتاب يرفض فكرة الخلافة ويرى ضرورة مدنية الدولة. ولسنوات عديدة أحدث الكتاب ضجة كبيرة في الأوساط السياسية والعلمية، فانتَدب الخضر حسين نفسه للرد على الكتاب فألف كتاب “نقض الإسلام وأصول الحكم”، وهو الكتاب الذي أظهر فيه تأييده للملك فؤاد، فنال الكتاب إعجاب الملك الذي حدثته نفسه بأن يكون خليفة. واعتُمد الشيخ بعد صدور الكتاب عضوا في هيئة كبار العلماء سنة 1951.
وبعد ثورة الضباط الأحرار أصبح الشيخ إماما أكبر للأزهر سنة 1952. لكن علاقة الشيخ الإمام بالضباط لم تكن على ما يرام وخصوصا بعد إلغاء المملكة وإعلان الجمهورية.
وفي ظروف وملابسات لا تزال غامضة أعلن الإمام استقالته من قيادة الأزهر عام 1954. لم يبين الشيخ أسباب استقالته ولا دوافعها، لكن ما برز بعدها من قرارات وأحكام كإلغاء القضاء الشرعي ودمجه في القضاء المدني قيل إنه كان السبب في قطع حبال المودة بين المخزن والإمام.
وفي سنة 1958 وبعد اعتزاله في بيته ودع العلامة الشيخ الخضر حسين الحياة تاركا وراءه إرثا من العلم يتمثل في مؤلفات نفيسة ومقالات رصينة وسيرة حسنة، فبكته دور النشر وحِلق العلم ومنابر المساجد.