سعد الله ونّوس.. مسرح حتى اللحظة الأخيرة

سنان ساتيك

 

جابر: إذن.. ليختلفا، وليفقأ كل منهما عين الآخر. لن ألطم خدي وأمزق ثيابي لأن الخليفة والوزير مختلفان.

منصور: هس… (ويلتفت حوله خائفا أن يكون حولهما سامع) اغسل فمك، وإلا رموا عنقك. لن أندهش لو رأيتك يوما مقطوع اللسان.

جابر: وأنا لن أندهش لو رأيتك مشنوقا لأسباب سياسية.

حوار في مسرحية “مغامرة رأس المملوك جابر” للمسرحي السوري سعد الله ونّوس، يبين علاقة المواطن بالسلطة وحالة الرعب والخوف من الحديث في السياسة.

 

أفكار التغيير

تلك الحالة التي حملها ونوس في مسرحياته يستصرخ بها الشعب الخامد وينهض محققا حريته وحقوقه، مستمرا فيها حتى رحيله في الخامس عشر من مايو/أيار 1997، بعدما تعايش مع السرطان خمس سنوات، سلّى نفسه عنه بالكتابة وقاومه بالمسرح، ملوما من الآخرين على استمراره في كتاباته عن المسرح الذي ينحسر وهو يعاني مرارة المرض، معتبرا ذلك خيانة لصديق عمره المسرح، وهو يريد أن يدافع عنه ليستمر هذا الفن/الظاهرة الحضارية.

قرية تقف على هضبة مرتفعة ببيئة بحرية ساحرة صبغت خصال سعد الله ونوس وتمرداته، وأفكاره التي تحمل التغيير الذي رافقه منذ ولادته في التاسع عشر من فبراير/شباط 1941 في بيت تُرابي متواضع في قرية حصين البحر في محافظة طرطوس السورية، نشأ فيها طفلا نحيلا منعزلا يحمل آراء تختلف عن أقرانه، يراقب ما يدور حوله، يستخلص منه العبر، فقد كتب في الثانية عشرة “إن بلادنا العربية كانت بلاد الشهامة والكرامة، كانت بلاد الحضارة والازدهار، كانت منذ قرون في أوج مجدها، وأرقى درجات سؤددها المتعالي، معتمدة على ذلك في اجتماع كلمتها واتحاد آرائها وعناصرها. أما الآن فقد مزقتها سموم الأديان والطائفيات.. فانحطت إلى الحضيض.. حتى صارت أشياء منثورة..”[1].

سعد الله ونوس مع صلاد السعدني على هامش عرض مسرحيته “الملك هو الملك”

 

كسر الحدود الوهمية

حصل على الشهادة الثانوية عام 1959 فأُرسل في بعثة لدراسة الآداب في القاهرة، وكتب فيها أول مسرحية “الحياة أبدا” (غير منشورة)، ثم حصل على شهادة جامعية من كلية الصحافة في جامعة القاهرة عام 1963 وعاد إلى سوريا موظفا في وزارة الثقافة.

“حكايات جوقة التماثيل” أول مجموعة من المسرحيات القصيرة أصدرها عام 1965. أوفد إلى باريس عام 1966 لمتابعة دراساته العليا، لكنه عاد بسبب نكسة يونيو/حزيران، فكتب ردا عليها مسرحية “حفلة سمر من أجل 5 حزيران”[2] واجهت وحاكت أسئلة الهزيمة بشكل فني جمالي يجهد في تبيان الأسباب ووضع الحلول، وجاءت خيبة أمل مدمرة/عملا رائدا في الشكل والمضمون، يكسر الحدود الوهمية بين الشخصيات والجمهور، ويخلق تفاعلات بينهما، ساخرا من الدعاية الرسمية ويشكك في أسباب الهزيمة العربية، آملا في جذب الجمهور إلى الدراما وتحركه احتجاجا لتغيير واقعه[3].

أسس مجلة أسامة الشهيرة عام 1969 وثبت خطواتها الأولى، ثم انصرف عنها إلى تأليف المسرحيات فكانت “مغامرة رأس المملوك جابر” و”سهرة مع أبي خليل القباني”؛ لأنه مؤمن بقدرة المسرح على الفعل في حركة التاريخ، يخطو فيه للبحث عن مسرح عربي جديد برؤى مختلفة.

 

إدانة المثقفين

عُين في عام 1977 مديرا للمسرح التجريبي في دمشق، فانطلق فيه بشراكة مع المسرحي السوري فواز الساجر بفضاءات تغزو الآفاق وتسعى لاستنهاض الشعب، لكن هذه التجربة توقفت لسفر شريكه إلى موسكو، فانصرف بمشروعه من العملي إلى النظري في كتاب “بيانات لمسرح عربي جديد”. لكن الأمل العملي يؤوب بإياب الساجر من موسكو باتجاه نحو الإنسانية.

بعد سنوات قليلة، وفي 1992 تحديدا، أصيب بسرطان في البلعوم الأنفي، فسافر إلى باريس للعلاج، وسابق الزمن وجاراه لينتهي من الأعمال، فقد قصُر العمر أمامه، المرض متفش والعلاج الكيميائي يأكل جسده، يدخل في غيبوبات متقطعة، يصحو منها فيكتب ما في ذهنه، فأنهى مسرحية “منمنمات تاريخية” عام 1993 التي حكت عن علاقة المثقف بالسلطة بسردية تروي حصار دمشق على يد تيمورلنك، وابن خلدون نموذجا للمثقف بصورة سلبية قاتمة، ربما تلك إدانة منه لخيانة المثقفين وانحيازهم، واعتصامهم بحيادية العلم الذي يكتفي بالوصف والمراقبة والتحليل[4]. ثم كتب مسرحية “يوم من زماننا”، ثم مسرحية “طقوس الإشارات والتحولات”.

مصير ونوس الألم، وقدره العذاب مرة أخرى، إذ جاءه السرطان في كبده. وفي باريس منحه الأطباء أمل البقاء بـ5%، وأنه بحد أقصى يعيش ستة أشهر.

وثانية بدأ يسابق الزمن، يعيش على أمل إنهاء أعمال بين يديه رغم الانكسار وأنه قد يفارق الحياة بأي لحظة، حتى أنهى مسرحية “ملحمة السراب”. ثم كان آخر نص مسرحي له “بلاد أضيق من الحب”.

ونوس سعى إلى مسرح متحرر يثور على الطغيان، نصه متين رصين يحتاج قارئا يمسك به فيفهمه ويدرك مغازيه

 

“نحن محكومون بالأمل”

كلفه المعهد الدولي للمسرح بكتابة رسالة يوم المسرح العالمي وهو يئن تحت المرض، ألقاها على خشبة مسرح الحمراء في دمشق، وألقيت بلغات عدة في مسارح العالم، قال فيها عبارته الشهيرة “نحن محكومون بالأمل، وما يحدث اليوم لا يمكن أن يكون نهاية التاريخ”[5].

في هذا الخطاب دعا إلى حوار شامل بين الأفراد وبين الأمم. فقد حدد المسرح نقطة لإطلاق هذا الحوار، والذي يمكن أن ينمو ليشمل جميع دول وثقافات العالم.

سلطة العقل فوق كل السلطات، هي الحاكم الأوحد، تُميز الجيد من الرديء والصحيح من الخطأ. بحث عن الجمالية في كتاباته بما يتلاءم مع الموروث العربي بتطويره وتطريزه بحداثة تحافظ على الأصالة، يخلخل القيم والثوابت وإعادة التفكير فيها لنفخ روح جديدة تتكيف مع العصر وتغيراته، هاجسا بإصلاح العالم، ينقده، يحفزه ليخرج جمالياته ليبنى عالما متوازنا، مع حزن على هذا العالم الذي يرفض الإصلاح، ولا سيما في منطقتنا التي يحيط بها الاستبداد. يستفز القارئ، يستحث فضوله، يطرح تساؤلات بأدوات المسرحي الفذ المتكاملة، مفككا السلطة وطرق سيطرتها.

سعى إلى مسرح متحرر يثور على الطغيان، نصه متين رصين يحتاج قارئا يمسك به فيفهمه ويدرك مغازيه، يحول الكلمات إلى فعل حقيقي يحرك ويبدل ويجعل العالم يسير في طريق التغيير.

سياسته حملها من المواطن الضعيف الصامت المغلوب على أمره، ألقى إليه قلقه، وجه إليه رسائل وإسقاطات ليوقظه من سباته حتى ينشد الحرية المطلقة.

صورة تجمع سعد الله ونوس مع والده ووالدته وابنته في فترات تألق حضوره ككاتب مسرحي

 

معايير فنية جديدة

أخذ على نفسه الدفاع عن المسرح ضد القوى المهيمنة التي تهدد الثقافة الحديثة في كل مكان، فالمسرح ليس تعبيرا عن المجتمع المدني فقط، بل هو شرط ضروري لتأسيسه ونموه، لأنه لا يوجد مسرح حقيقي خارج المجتمع المدني، ولا يوجد مجتمع مدني في غياب الديمقراطية واحترام حقوق الأفراد[6].

انطلق بمسرحه بمعايير فنية جديدة، وطرح إشكاليات وعلاقات مختلفة، فبداياته المسرحية كانت مثالية متفلسفة تتمحور حول الوجود وماهية السطة، مرمزا فيها ببنى هيكلية، إلا أن سفره إلى باريس أتاح له اطلاعا أوسع فكثف في العرض، وتوسع فيه بتصورات ورؤى جديدة، وبتغريب ثقافي عالمي ملون. ثم صارت الشخصيات متحولة تسعى وراء التغيرات للهروب والتأرجح حتى تبلغ مبتغاها وتوصل الرسالة، مع التحولات بعد منتصف الثمانينيات وهيمنة الرأسمالية وبروز تيارات متشددة.

يقوم مسرحه على قراءة المجتمع العربي في بُناه العميقة وفي سيرورته وصيرورته، “قراءة أفقية وعمودية تتلاقى فيها أبعاد الزمن، قراءة تتجاوز النقد إلى نوع من الإحاطة التي تتضمن نوعا من إعادة التكوين، لا في ما يتعلق بالمجتمع وحده، بل في ما يتصل أيضا بالفرد ووعيه”، إنه يقارب الحياة والأشياء بطريقة إبداعية جديدة وبجمالية جديدة أيضا[7].

رحلت مكتبته إلى الجامعة الأمريكية في بيروت، فعَلا نقاش بين المثقفين السوريين[8]، كما أعلى سعد الله ونوس نقاشا مسرحيا إبداعيا سيظل محل حكي ودراسة ردحا زمنيا طويلا.

 

 


 

[1] نبيل صالح (تحرير وإشراف)، رواية اسمها سورية، ج 3، ط 2، ص 1467.

[2] المرجع نفسه، ص 1468.

[3] Ursula Lindsey, “University Press Draws New Readers for Renowned Syrian Playwright”, AL-FANAR MEDIA, 4/4/2019, accessed on 12/5/2019, at: https://bit.ly/2WFifgm

[4] فخري صالح، “سعد الله ونوس: الرائي الذي تنبأ بالمقتلة السورية”، الفيصل، 1/11/2017، شوهد في 12/5/2019، في: https://bit.ly/2YtezPp

[5] صالح، ص 1475.

[6] Manal A. Swairjo, “Sa’dallah Wannous: A Life in Theater’, ALJADID, accessed on 12/5/2019, at: https://bit.ly/2WG8Bds

[7] حازم نهار، “في الذكرى السنوية السابعة لرحيله: سعد الله ونوس ملحمة صراع بين الموت والحياة”، الحوار المتمدن، 25/5/2004، شوهد في 12/5/2019، في: https://bit.ly/2VvlOJC

[8] “جدل بين المثقفين بسبب مكتبة سعد الله ونوس”، الراية، 1/4/2017، شوهد في 12/5/2019، في: https://bit.ly/2HgA6VD


إعلان