طيب تيزيني.. رحيل أحد أهم مئة فيلسوف في القرن العشرين

خاص-الوثائقية

الفيلسوف السوري يبكي بحرقة في السنوات الأخيرة على بلاده، وعلى ما ألمّ بها

بعد سنوات من الخراب الذي حلّ بسوريا، تنقل ابنة طيب تيزيني عنه أنه كان يشجع مَن حوله قائلاً: أيها الانكسار العظيم، لقد لطّخْتَنا بعار الرجال القادمين من خرائب التاريخ! وأنتِ يا نجمة الصبح البهيّة، لك العلمُ أننا كالطود نغذّ السير إليك بشوق وحكمة واقتدار.

 

تفكيك التراث

الفيلسوف السوري يبكي بحرقة في السنوات الأخيرة على بلاده، وعلى ما ألمّ بها. وهو المولود في مدينة حمص السورية عام 1934. انتقل بعدها للدراسة في تركيا ثم بريطانيا، حتى توقف في ألمانيا التي حصل فيها على درجة الدكتوراه في العلوم الفلسفية عام 1967 عن أطروحته “تمهيد في الفلسفة العربية الوسيطة”.

أول كتاب صدر له كان باللغة الألمانية، ثم نشر عام 1971 كتابه الأول باللغة العربية “مشروع رؤية جديدة للفكر العربي في العصر الوسيط”، والذي بناه على أطروحته التي نال فيها الدكتوراه، ثم طور هذا الكتاب إلى مشروع فكري مكوّن من 12 جزءاً، فكان رؤية جديدة للفكر العربي منذ بداياته حتى المراحل المعاصرة، دخل فيها إلى القضايا الأساسية والإشكاليات وعرضها على الملأ محللاً إياها، ومقدماً حلولاً تنويرية ليقوم المجتمع على أسس سليمة ومتينة يتساوى فيه الناس في الحقوق والواجبات، يبني على الماضي بأخذ الأفكار والعبر، بمقاربات حيوية تلائم العصر الحديث المتغير والمتسارع، والسير بالنهضة العربية وتذليل العوائق أمامها لتكون نهضة تسير بتقدم وثبات.

تَساير هذا المشروع مع مشروعات تنويرية نهضوية، واضعاً عدة مؤلفات في ذلك، فعاد إلى التراث وفككه معتمداً على رؤية ونظرة جديدتين في إثارة نقاشات فلسفية لتطوير الواقع والنهوض به.

استمر في هذا المشروع عشرات السنين مستحثاً الأمة على النهوض والبناء، لكن سقوط بغداد عام 2003 جعله يدرك أنه لا أمل في الغد ضمن هذا النهج، فجاء هذا الطرح تشاؤماً لدى الآخرين، مغايراً لما أفرغ فيه سنوات طويلة من البحث والتنقيب. لكن تيزيني أوضح أن هذه دعوة للبناء من الصفر لاستعادة كل ما أصبح خارج التاريخ[1].

عمل طيب تيزيني مدرساً في جامعة دمشق

أجوبة الفكر العربي

كما وضع مؤلفات عديدة عن التراث والثورة مثل “مِن التراث إلى الثورة.. حول نظرية مقترحة في قضية التراث العربي”، و”من الاستشراق الغربي إلى الاستغراب المغربي.. بحث في القراءة الجابرية للفكر العربي وفي آفاقها التاريخية” الذي جاء رداً على مفكري وفلاسفة عصره -ولا سيما محمد عابد الجابري- في تبيان الأخطاء التي وقعوا فيها من وجهة نظره، ليجيب عن أسئلة ملحّة تتصل بالفكر العربي، ولتعميق الحوار العلمي كي يتطور هذا الفكر، ولا سيما في مرحلة كانت تتهيأ لـ”تطبيع ثقافي حضاري” مع إسرائيل للانتماء إلى شرق أوسطي للعرب بديلاً عن انتمائهم القومي التاريخي[2].

عمل مدرساً في جامعة دمشق، كما اختارته مؤسسة كونكورديا (Concordia) الفلسفية الألمانية الفرنسية عام 1998 واحداً من مئة فيلسوف في العالم للقرن العشرين.

واستكمالاً لرؤيته في التجديد والتفكير ألقى بأفكار تهدف إلى توحيد الوطن العربي بالأفق التاريخية التي لا تزال مسيطرة ومؤثرة فيه، مع تكوين ديمقراطيات وطنية تحكمه حتى يحقق وحدته القومية التقدمية، متجاوزاً التخلف التاريخي لتحقيق الحرية والعدالة للكادحين.

هذا الطرح يبين أن تيزيني وقف إلى جانب الفئات المستضعفة والكادحة، ساعياً في كتاباته إلى تشكيل واقع عربي جديد يحصلون فيه على حقوقهم وامتيازاتهم ليعيشوا بكرامة دون تسلط أو ظلم[3].

 

مناظرات مع البوطي

يحاكي تيزيني دائماً قضايا الأمة، فبعدما كتب عن التراث والثورة، لجأ إلى الكتابات عن الإسلام وطرح الإشكاليات مثل “النص القرآني أمام إشكالية البنية والقراءة”، كما دخل في حوارات مع رجال الدين، مثلما دخل في نقاشات مع مفكري عصره سابقاً، كتلك التي جمعته بالعلّامة محمد سعيد رمضان البوطي، لكن هذا اللقاء لم يكن صدامياً، بل كان لقاء حوارياً متكاملاً متفاعلاً، فغايته التأثير المتبادل وتلاقي الأفكار بوعي، لتكون أساساً يُنتج عليه مجتمع سليم يقوم على احترام الذات، مع الانطلاق من نقاط محددة تُعالج وتُشخص بأسلوب معرفي لدى كل منهما[4].

كما أنه تحرك نحو تيارات أخرى، كالصوفية كونها فلسفة محددة نتجت داخل الدين الإسلامي، مثلها مثل الفلسفة العربية التي نمت داخله أيضاً ثم عملت على تجاوزه والسعي نحو أفق جديد[5].

ثم ساير الواقع العربي بتقييمه الحالة الراهنة بأنها مقيدة بـ”قانون الاستبداد الرباعي” المتكوّن من عناصر “الاستبداد بالثروة” و”الاستبداد بالإعلام” (تحديد ما يُقال) و”الحزب المهيمن” و”الاستئثار بالسلطة”، والعنصر الأخير يقوم على الدولة الأمنية التي تسعى إلى أن تُفسد مَن لم يَفسد بعد، ليصبح الجميع مُدانين تحت الطلب، وعملية الإفساد هذه هي السبيل نحو حماية المُفسد، وبالتالي فإن التوقف عن الإفساد يُسقط كل هذه المنظومة[6].

 

بكاء على سوريا

لم يجعل نفسه حكَماً ولم يدّع أنه يمتلك الحقيقة الكاملة، لكنه أراد أن يكون البديل، أي أن يكون صوتاً مختلفاً ينقد التراث ويكشفه كما ينقد الواقع ويكشفه، باتباع فكر علمي منهجي موضوعي واع لما حدث ويحدث.

لا يسع المفكر إلا أن يقف مع الشعب ضد السلطة الغاشمة، فانسجمت مواقف تيزيني مع الشعب السوري ضد النظام هناك، معتصماً أمام وزارة الداخلية في العاصمة السورية دمشق مع ثلة من المعتصمين المطالبين بالإفراج عن معتقلي الرأي، فاصطدم برجال الأمن منكلين به، معتقلين إياه عدة ساعات، رافضاً إطلاق النار على المتظاهرين في بداية الثورة.

كما شارك في اللقاء التشاوري الحواري في يوليو/تموز 2011، مطالباً بتفكيك الدولة الأمنية لأنها تريد أن تفسد كل شيء.

ولكن بعد الانشقاقات في الجيش، وظهور السلاح المُدافع عن المظاهرات السلمية وتفشيه بين أيدي الناس وتحوّل الصراع إلى حرب دموية، فضّل تيزيني الوقوف جانباً متفرغاً للكتابة، متسائلاً عن دور الفيلسوف وسط الدماء وأزيز الرصاص[7].

لذا اجتنب هذا الواقع غير المهيأ لبناء أمة تنهض من جديد، حتى رحل وحيداً السبت الماضي (18 مايو/أيار 2019) عن عمر ناهز 85 عاما، رحل في مدينته حمص التي لم يغادرها رغم حومة الحرب التي أحاطت بها.


[1] فوزية فريحات، “المفكر السوري طيب تيزيني في ذمة الخلود”، مونت كارلو، 18/5/2019، شوهد في 19/5/2019، في: https://bit.ly/2Wc4etA

[2]  طيب تيزيني، من الاستشراق الغربي إلى الاستغراب المغربي.. بحث في القراءة الجابرية للفكر العربي وفي آفاقها التاريخية (حمص/دمشق: دار الذاكرة/دار المجد، 1996).

[3] طيب تيزيني، على طريق الوضوح.. كتابات في الفلسفة والفكر العربي (بيروت: دار الفارابي، 1989).

[4] طيب تيزيني، الإسلام والعصر.. تحديات وآفاق، إعداد وتحرير عبد الواحد علواني، ط 2 (دمشق: دار الفكر، 1999).

[5] طيب تيزيني، التصوف العربي الإسلامي.. فرادة في الحضور الوجودي والاستحقاق القيمي، دراسات فلسفية 3 (دمشق: منشورات الهيئة العامة السورية للكتاب، 2001)

[6] “رحيل المفكر طيب تيزيني.. صاحب “قانون الاستبداد الرباعي”، المدن، 18/5/2019، شوهد في 19/5/2019، في: https://bit.ly/2VPXNwQ

[7] عمار المأمون، “طيب تيزيني.. الإنسان الوحش والعودة إلى ما قبل التاريخ، الجديد، 1/8/2015، شوهد في 19/5/2019، في: https://bit.ly/2VO3njf


إعلان