شولا كوهين.. قصة لؤلؤة الموساد الإسرائيلي في لبنان
لسنوات عديدة أغوت إسرائيل اللبنانيين بالجمال والأناقة، فاخترقت الساسة وسلبتهم معلومات خطيرة في لحظات صفاء، لكنهم عاملوها بالمثل فأوقعوها في الحب ومنحتهم قلبها وباحت لهم بكل أسرارها.
تعود الجزيرة الوثائقية إلى حقبة الثلاثينيات من القرن العشرين، عندما قررت سيدة مرموقة في وادي أبو جميل ببيروت أن توظف جمالها وجاذبيتها لخدمة الحلم الصهيوني في إقامة دولة يهودية على أرض فلسطين.
هذه السيدة هي شولا كوهين التي ولدت في القدس لأب يهودي مصري، وعندما بلغت السادسة عشرة تزوجها ثري يهودي لبناني ورحل بها إلى بيروت.
الفيلم الذي يحمل اسم الجاسوسة “شولا كوهين” بُث في 2016. ويتحدث للعديد من الخبراء والضباط والساسة والمحللين من إسرائيل وفلسطين ولبنان، ليسلط الضوء على قصة أول اختراق صهيوني للمجتمع اللبناني.
من موقعها في بيت رجل ثري تعرفت شولا كوهين على العديد من التجار، والساسة وأدركت أن بإمكانها جمع المعلومات والتغلغل في المجتمع الذي انجذب لجمالها وحبها للحياة.
أنشأت سيدة بيروت صالونا للفن والموسيقى وبات قبلة كبار الساسة ورجال الأعمال، وقد استعانت بفتيات جميلات لسلب الضيوف ألبابهم وأسرارهم في نهاية المطاف.
الرسالة الأولى.. أريد أن أساعدكم
يبدأ الفيلم من مذكرات الجاسوسة نفسها، إذ تحكي أنها بادرت بالتطوع لخدمة الحلم اليهودي وبعثت برسالة مختصرة إلى “الوكالة اليهودية” تقول فيها “اسمي شولا كوهين. أعيش في وادي أبو جميل ببيروت. أريد أن أساعدكم”.
يقول المختص في الشؤون الإسرائيلية ناصر لحام إن الوكالة اليهودية كانت مسؤولة عن كل اليهود، وكانت تدير شبكة من الجواسيس حول العالم قبل نشأة إسرائيل وبناء جهاز الموساد عام 1984.
ويروي المحلل الإسرائيلي رونين برغمان أن ديفد بن غوريون أنشأ عالم المخابرات على ثلاث مراحل هي المخابرات العسكرية والأمن السري الداخلي وأخيرا جهاز الموساد الذي ورث عناصر وإمكانيات الوكالة اليهودية وأنيطت به المهمات الاستخباراتية في الخارج.
الرسالة الأولى بعثت بها شولا مع عابر سبيل إلى مستوطنة “مسكاف عام” في فلسطين، وعلى الفور قبلت الوكالة اليهودية العرض، ولم يكن هناك خيار آخر نظرا لشح العملاء في الدول العربية.
جاسوسة في قلب بيروت
بعد أسابيع وصلها الرد من الوكالة اليهودية وطلبت منها المساعدة في إيجاد مخبأ لرجل يهودي في لبنان.
وهنا يتحدث الفيلم للمتخصص في الدراسات الفلسطينية صقر أبو فخر، ليوضح أن بيروت كانت في تلك الفترة محطة لاستيعاب اليهود وإرسالهم بطرق متعددة لفلسطين، وفي هذه الأجواء بدأ نشاط شولا كوهين.
واظبت شولا على استضافة نخبة المجتمع البيروتي مثل ضباط الجيش والموظفين الكبار المطّلعين على المعلومات الرسمية الحساسة.
وقد أصغت كثيرا للتجار القادمين من مناطق الجنوب وجمعت معلومات عن تدريبات الثوار الفلسطينيين.
وعندما نجحت في المهمة الأولى، جاءها رجل جنوبي يدعى موسى العبد الله وأبلغها بأن مجموعة من الصهاينة يرغبون في لقائها في بلدة “المطلي” على الحدود بين فلسطين ولبنان، وكانت هذه المرة الأولى التي عبرت فيها الحدود منذ عام 1936.
عندما وصلت فلسطين التقت “بريزنك” وهو مسؤول في عصابات الهاغاناه وطلب منها الاستمرار في تزويد الصهاينة بمعلومات عن الثوار والسلاح والناس على الحدود بين فلسطين ولبنان.
بعد نكبة فلسطين عام 1948 وقيام إسرائيل على أرض مغتصبة، كان وجود شولا كوهين أكبر نجاح، وكان بإمكان قادة الاستخبارات القول لبن غوريون “لدينا جاسوسة في قلب لبنان”.
رجال حول شولا
في البداية كانت آلية التواصل مع الاستخبارات تتم برسائل مشفرة عبر الإذاعة العبرية، فعندما تبث أغنية لعبد الحليم حافظ قد يعني ذلك “لقد استلمنا رسالتك”.
لكن الوسائل تطورت فيما بعد، فخلال سهرة في بيروت تعرفت شولا على يهودي فرنسي يُدعى جورج مولخو، ولاحقا زودها بالحبر السري وآلات تقنية للتواصل مع الاستخبارات الإسرائيلية.
استعانت شولا بكثيرين لتنفيذ مهماتها في لبنان، ومن بين هؤلاء جورج أنطون وليلى مزراحي وموظف المالية محمود عوض الذي كان يستدرج الساسة ويحصل منهم على المعلومات الحساسة.
بَنت سيدة الحفلات علاقات قوية مع الجمارك اللبنانية، واستطاعت استخدام جوازات سفر مزورة.
ومع نشاطها في جمع المعلومات عن الثوار الفلسطينيين واختراقها للوسط السياسي في لبنان، ظلت مهمتها الأساسية هي العمل على تهريب اليهود إلى فلسطين.
تروي في مذكراتها كيف رافقت عائلات يهودية سورية لاجتياز الحدود، قائلة “كنت حاملا في شهري السابع، اجتزت معهم الحدود سيرا على الأقدام لساعات”.
وعندما عزز لبنان رقابته على الحدود، تعقّدت عمليات تهريب اليهود نحو فلسطين، لكن شولا غيرت خطتها واعتمدت على التهريب عبر البحر، من خلال ما سمي حينها بسفينة الأربعاء.
لبنان يفتح عيونه
في عام 1958، انتُخب قائد الجيش اللبناني فؤاد شهاب رئيسا للجمهورية، وقرر إنشاء “المكتب الثاني” في مخابرات الجيش اللبناني.
وفي الفيلم الوثائقي يروي الجنرال جهاد سعد أن والده العميد أنطوان سعد كان رئيسا للمكتب الثاني وأنه ضم يومها صفوة الضباط مثل غابي لحود وسامي الخطيب وآخرين.
وذات مرة طلب وزير المالية رشيد كرامي من رجال المكتب الثاني مساعدته في حل لغز اختفاء الطوابع المالية بسرعة فائقة، وحينها تقررت مراقبة الموظف محمود عوض.
أثناء مراقبة هاتف عوض اعترضوا مكالمة بينه وبين سيدة. لم يتمكنوا من تحديد هويتها لكن العنصر الذي تولى تحليل المكالمة قال إن حديث السيدة كان مميزا، مما يشير إلى أنها من الطبقة الراقية.
عند هذه النقطة توجه مخرج الفيلم إلى وزير الداخلية السابق اللواء سامي الخطيب ليقول “بعد أسبوعين اكتشفنا أن شولا ليست سيدة عادية في بيروت. هذه أول مرة نصطدم بالواقع الإسرائيلي جاثما في أرضنا”.
حب صنعته المخابرات
وحينها، كانت شولا كوهين في أوج جمالها وجاذبيتها وفي ذات الوقت تعاني من سآمة الحياة مع زوجها العجوز. وهذه المفارقة اكتست أهمية كبيرة بالنسبة لرجال المكتب الثاني.
بعد فترة وجيزة تعرفت السيدة الراقية على أستاذ يدعى سمعان واتفقت معه على تقديم دروس خصوصية لأطفالها. كان شابا في العشرين من عمره، قصير القامة “ويتمتع بجاذبية ملفتة”.
بدل التركيز على دفاتر الأطفال، أولى سمعان عناية خاصة لمشاعر أمهم الجميلة وما لبث أن وصل لقلبها ومنحته حبها وثقتها.
لكن سمعان ليس سوى اسم حركي لضابط استخبارات لبناني يدعى ميلاد القارح، كان على علاقة وثيقة بالعقيد غابي لحود الذي لعب دورا بارزا في قضية شولا كوهين.
عرف سمعان كيف يخترق أسوار شولا، وبدأ رجال غابي لحود استلام معلومات حصلت عليها المرأة بعقلها ومنحتها بعاطفتها.
تقول لؤلؤة الموساد في مذكراتها إن سمعان تغزل بجمالها وعرض عليها التعاون لصالح المخابرات الإسرائيلية فقبلت عرضه، وسهلت لقاءاته بضباط الموساد وسافرا معا إلى روما وتل أبيب.
ذات مرة خُتم جواز سفرها في تل أبيب وبدت عودتها للبنان بذات الجواز مستحيلة. لكن سمعان تحرك بسرعة لإنقاذ “حبيبته” واتصل بموظف في بيروت وأصدر لها جوازا بديلا.
إلى الشقة العلوية
يروي الخطيب أن رجال المكتب الثاني استأجروا شقة فوق بيت شولا وأخرى في العمارة المقابلة. ويضيف “بدأنا التنصت عليها، وفي الشقتين كان الدوام متواصلا على مدار الساعة”.
“التقطوا المعلومات التي تبعث بها لإسرائيل وحللوها ومنها عرفوا عن الشبكة التي بنتها على مدى سنوات في لبنان”.
كانت السيدة تلتقي ساسة لبنانيين وعربا وترصد التحركات العسكرية والمناقشات الحكومية وترسلها بالحبر السري عبر وكلائها”.
أما موظف المالية محمود عوض فكان يتولى الجانب المالي لشبكتها فيدفع الأجور ويساعدها أيضا في تهريب أموال اليهود من الدول العربية إلى ما بات يعرف بإسرائيل.
القبض على الحبيبة
وبعد أن سلبها سمعان كل أسرارها وعرف رجال غابي خريطة تحركاتها واتصالاتها، حانت لحظة القبض على جاسوسة كان اللبنانيون يعتقدون أنها مجرد سيدة راقية تضفي المزيد من الجمال على ليالي بيروت.
وكما كان يحصل دائما، أقامت شولا كوهين حفلا في بيتها ببيروت وكان سمعان أول الحاضرين. وعندما فتحت الباب شهر مسدسه في وجهها فانهارت حين أدركت أن حبيبها ليس سوى عدوها.
قبض عليها رجال المكتب الثاني. ويروي الخطيب أنها لم تُتعب المحققين فقد كشفت لهم عن كل ما تملكه من أسرار وزودتهم بأسماء عملاء إسرائيل في لبنان.
شكل الخبر صدمة في الأوساط الإسرائيلية، فالجاسوسة الحديدية التي يسميها الموساد اللؤلؤة انهارت على يد المخابرات اللبنانية وبفعل عشقها لشاب عشريني.
حوكم عناصر شبكتها أمام القضاء العسكري. وفي عام 1962 صدر حكم بإعدامها، ونتيجة لضغوط دولية ومن فرنسا بالذات، خفف الحكم إلى السجن عشرين سنة مع الأشغال الشاقة.
وخلال حرب 1967 أسرت إسرائيل عددا كبيرا من الجنود العرب واشترطت مبادلتهم بشولا كوهين ويهود آخرين.
وفي صيف 1967 اقتيدت الجاسوسة في سيارة عسكرية إلى بلدة الناقورة الجنوبية، وسُلّمت للجنة من الصليب الأحمر الدولي، سلمتها بدروها للطرف الإسرائيلي. وهناك استُقبلت بحفاوة وكرمت مرارا وتحولت إلى إحدى أساطير الموساد.