فاطمة الفهرية.. مؤسسة جامع القرويين وبانية أقدم جامعة في العالم

جامع القرويين “يمتاز دون سائر مساجد العالم الإسلامي بأنه أول بيت لله تشيده فتاة مسلمة

رغم الدهاء الكبير والبصيرة التي أبان عنها عقبة بن نافع القرشي الفهري، القائد العسكري الذي خرج سالما من مرحلة “الفتنة” التي عصفت بالدولة الإسلامية الفتية بعد وفاة الرسول ﷺ بسنوات قليلة، لم يكن هذا الفاتح لبلاد المغرب الإسلامي يتوقع أنه سيخلّف من ذريته فتاة يُخلّد التاريخ اسمها كأول إنسان شيّد جامعة في تاريخ الإنسانية.

إنها فاطمة بنت محمد الفهري القيرواني الملقّبة بأم البنين تارة، وأم القاسم في أخرى، وهي منحدرة من أسرة العلم والتجارة، الأسرة الفهرية التي هاجرت من القيروان في بلاد أفريقية (تونس حاليا)، إلى فاس عاصمة المغرب الأقصى (المملكة المغربية حاليا)، ليتوفى والدها ثم زوجها، مخلّفين ثروة لها ولأختها مريم، وقد اختارت فاطمة أن يؤول نصيبها منها إلى بناء مسجد جامع سيتحوّل تدريجيا إلى منارة للعلم والفكر ومصدر للقرار السياسي.

وقد تحدث عنها الراحل عبد الهادي التازي -وهو أحد أكبر المؤرخين المغاربة في التاريخ الحديث- في بحثه التاريخي الذي نال به شهادة الدكتوراه وجائزة أفضل كتاب بالمغرب في ثمانينيات القرن العشرين، فقال عنها: سكنت فاطمة الفهرية عُدوة القرويين على مقربة من مكان الجامع الذي كُتب لها شرف تشييده. وبالرغم من أننا لم نجد لها ولا لوالدها ذكرا في معالم القيروان ولا في أعلام فاس، فإن عملها هذا كان كافيا لسردها ضمن الخالدين.[1]

يسجل التازي في مقدمة المجلد الأول من كتابه حديثا عن جامع القرويين قائلا: يمتاز دون سائر مساجد العالم الإسلامي بأنه أول بيت لله تشيده فتاة مسلمة، فقد كان المعهود حتى ذلك التاريخ أن تقوم الدولة نفسها ببناء المساجد؛ العاهل أو من يمثله، وقد دخلت فاطمة التاريخ بفعلها العظيم هذا في مدينة تعد أول عاصمة للإسلام في هذه الديار.

بنات الفهري.. إرث ضخم يتسابق في طرق الخيرات

تتفق المصادر التاريخية على أن رحلة فاطمة الفهرية الطويلة نحو إقامة أول جامعة عرفتها البشرية في التاريخ، بدأت بشرائها بقعة أرضية تقع قرب بيتها بمدينة فاس. وقد وقع اختيار الست فاطمة على حقل كان مما صار لأحد رجال الفضل من هوارة، عندما نادى الإمام إدريس الثاني بتعمير العاصمة منذ نحو نصف قرن، ثم ورثه أبناؤه من بعده، وكان الثمن ستين أوقية، فدفعته فاطمة من مالها الحلال الطاهر وأخذت تستعد للبناء في جزء من الحقل.[2]

سعي فاطمة الفهرية لبناء جامع كبير وافق حاجة موضوعية، إذ نقرأ في كتاب المؤرخ عبد الهادي التازي أن من بين المهاجرين القيروانيين الذين لجؤوا إلى فاس منذ الأيام الأولى للإمام إدريس بن إدريس، كان هناك “فريق من أسرة فهرية لم يلبث أن التحقت به بقية أفراد الأسرة في أيام الإمام محيي الدين الأول حفيد إدريس، ومن بين هؤلاء الفقيه أبو عبد الله محمد بن عبد الله الفهري القيرواني الذي أدركه أجله بعد وصوله، فترك ثروة طيبة لكريمتيه فاطمة أم البنين ومريم.

هذا المؤرخ المتخصص يؤكد أن الأختين كانتا على جانب من العلم والفضل معا، فقد تأثرتا بقول النبي ﷺ: (من بنى مسجدا يبتغي وجه الله بنى الله له مثله في الجنة). وعزمت كل منهما على تحقيق مشروعٍ ظَل إلى اليوم شاخصا ناطقا يرفع من شأن المرأة المسلمة إلى الأبد.

وعندما كثر الوافدون على مدينة فاس أيام الإمام يحيى الذي امتد سلطانه وعظمت دولته وحسنت آثار أيامه، واستجدت فاس في العمران وبنيت بها الفنادق للتجار والحمامات، ورحل إليها الفقهاء والعلماء وسائر الناس من الثغور القاصية، “أمست بالناس حاجة إلى مسجد جامع كبير، فإن جامع الأشياخ بالعدوة الشرقية، ومسجد الشرفاء بالعدوة الغربية، كلاهما أصبح لا يفي بحاجة الناس”.[3]

 

تتفق المصادر التاريخية على أن رحلة فاطمة الفهرية الطويلة نحو إقامة أول جامعة عرفتها البشرية في التاريخ، بدأت بشرائها بقعة أرضية تقع قرب بيتها بمدينة فاس

بناء المسجد.. مال طاهر يشيد أعجوبة معمارية وأوقافا فائضة

يتحدث المؤرخ التونسي حسن حسني عبد الوهاب في كتابه “شهيرات التونسيات” عن الطريقة التي سلكتها فاطمة الفهري في بناء المسجد، إذ يقول: التزمت أن لا تأخذ التراب وغيره من مادة البناء إلا من نفس الأرض التي اشترتها دون غيرها، فحفرت كهوفاً في أعماقها وجعلتْ تستخرج الرمل الأصفر الجيد والجص والحجر لتبني به، تحرياً منها أن لا تدخل شبهة في تشييد المسجد.[4]

ويروي الشيخ محمد المنتصر بالله الكتاني في كتابه “فاس عاصمة الأدارسة” أن الملوك والدول المتعاقبة على المغرب تنافسوا في توسيع بنائه ورصد الأموال للقيام به، إذ يقول: زاد فيه أيامَ الدولة الزناتية أميرُها أحمد بن أبي بكر من خُمس الغنائم عام 345، وزاد فيه أيام الدولة المرابطية علي بن يوسف بن تاشفين، ثم لم يزل يوسع ويجدد وتزداد أوقافه أيام دولة الموحدين ودولة المرينيين، إلى أيام دولتنا العلوية الحاضرة.[5]

صورة علوية لجامعة القرويين في مدينة فاس المغربية

فروع القرويين.. مدارس وكراسٍ علمية تحفّ بالجامع

أفضى ثراء جامع القرويين إلى بناء عدد من المدارس حوله، ثم الكراسي العلمية في مختلف أصناف العلوم الشرعية والأدب والرياضيات والفلك.. وقد ذكر محمد المنتصر الكتاني في كتابه “عاصمة الأدارسة” ما يزيد على عشرين مدرسة من المدارس التي أُسست فروعا للقرويين في فاس. كما اشتهرتْ جامعة القرويين بمكتبتها التي أنشئتْ كذلك في العصر المريني، وضُمت إليها فيما بعد مكتبة السلطان المُوحدي يوسف بن عبد المؤمن، لتضاهي مكتبة قرطبة التي كانت تحوي ما يزيد على 600 ألف مجلد من الكتب[6].

شُيّدت إلى جانب القرويين مجموعة من المدارس الداخلية لاستقبال الطلاب، توفرت على عدد من قاعات الدروس، “وقد طُرزت ووشيت بروائع الفسيفساء، وغدت لوحات فنية تسحر النظارة، مما جعل المختصين ينعتون إحداها بأعجوبة فاس”.[7]

كما آوت جامعة القرويين آلاف الأسر من مختلف الجهات المغربية، وإليها يرجع الفضل في تجمع عدد من العشائر والقبائل والمدن المتباعدة في مدينة فاس، بل إنها أغرت طائفة كبرى من الأندلسيين والأفريقيين. ويضيف المؤرخ عبد الهادي التازي إلى جانب هؤلاء وأولئك “نفرا من الفرس والكرد والعجم وجدوا ضالتهم في الاقتراب منها”.

تقول موسوعة “غينيس” إن “أقدم مؤسسة تعليمية جامعية موجودة حاليا في العالم هي جامعة القرويين التي تأسست عام 859 ميلادية

جامع القرويين.. أقدم مؤسسة تعليمية حية في التاريخ

لم تنصف مجلدات التاريخ حفيدة عقبة بن نافع فاتح تونس وباني مدينة القيروان، لكنها حازت رغم ذلك شذرا كانت كافية لتخليد اسمها في أرجاء المعمورة.

وقد قال عبد الرحمن بن خلدون مؤرخ بلاد المغرب الإسلامي ومؤسس علم الاجتماع في وصفه له: “وكأنما نبهت عزائم الملوك من بعدها”، وهذا فضل يؤتيه لمن يشاء من عباده الصالحين، فسبحانه وتعالى إذا أراد لأمة الرقي والرفعة وأذن لها بالسعادة الغامرة، أيقظ من بين أفرادها رجالا ونساء وشبابا وشيوخا، فأحيى فيهم وجدانا شريفا وشعورا عاليا يدفعهم للقيام بصالح الأعمال وأشرفها، وما كان من أجل الدنيا والآخرة.

تقول موسوعة “غينيس” للأرقام القياسية: أقدم مؤسسة تعليمية جامعية موجودة حاليا في العالم هي جامعة القرويين التي تأسست عام 859 م في مدينة فاس. جامعة بولونيا بإيطاليا تأسست عام 1088، وهي تعتبر الأقدم في أوروبا.[8]

عالم آخر مشهود له بالكفاءة هو محمد المنتصر بالله الكتاني، كتب أن جامعة القرويين تعد أقدم جامعة في العالم، إذ يقول: وقد سبقت الزيتونة بتونس والأزهر بمصر، كما أنها تعد أقدم من جامعات أوروبا بمئتي عام إلا تسع سنين، فقد تأسست أول جامعة في أوروبا وهي جامعة ساليرن سنة 1050 م في إيطاليا، ثم أصبحت معروفة بمدرسة نابولي. ثم تأسست جامعة بولونيا للحقوق. ثم جامعة باريس، وقد اعترف بها لويس السابع سنة 1180. ثم تأسست جامعة بادوا سنة 1222م، ثم جامعة أكسفورد عام 1249م، ثم جامعة كمبريدج عام 1284 وجامعة سالامانكا في إسبانيا سنة 1243م.[9]

المساحة الأصلية للجامع كانت محدودة في البداية، ثم أخذت تتسع تدريجيا حتى أصبح المسجد الرسمي الذي يؤدي فيه السلطان صلاة الجمعة

دولة الموحدين والمرينيين.. عصر ذهبي تحت إشراف السلاطين

تقول جل المصادر التاريخية إن المساحة الأصلية للجامع كانت محدودة في البداية، ثم أخذت تتسع تدريجيا حتى أصبح المسجد الرسمي الذي يؤدي فيه السلطان صلاة الجمعة سنة 918م، وبذلك دخل الجامع تحت إشراف الدولة.

وقد كتب المؤرخ المستشرق البولندي الأصل البريطاني الجنسية البروفيسور “روم لاندو”، أن هذا المسجد الإسلامي الكبير الذي يسع مئتي ألف مصل: قد أصبح مند عهده الأول المركز الرئيسي للدراسات الإسلامية في أفريقيا، وأحد المراكز الإسلامية الكبرى في العالم الإسلامي. وهو يتميز كثيرا عن بقية مساجد فاس من ناحية البناء، وقصر الحمراء بغرناطة لا يفوقه حجما وعظمة رغم جماله ولطفه.[10]

ويرى هذا المؤرخ أن العصر الذهبي للقرويين كان خلال القرن الثاني والثالث والرابع والخامس عشر، أي أيام دولتي الموحدين والمرينيين اللتين كانت أيامهما عصر علم وعهد تشييد لما تحتويه من مآثر تاريخية جميلة. ويقول: ولم تكن (جامعة القرويين) مقصد التلاميذ من أفريقيا والعالم الإسلامي فحسب، بل كانت مقصد الأوروبيين أنفسهم في ذلك العصر.

ومن أشهر هؤلاء الأوروبيين الذين تقول المصادر التاريخية إنهم تخرجوا من جامعة فاطمة الفهرية، بابا الفاتيكان “سلفستر” المتوفى عام 359 ه، ويَنسب إليه البعض نقل الأرقام العربية من جامعة القرويين إلى أوروبا.[11]

أما أساتذة جامعة القرويين فجلهم أشهر من نار على علم، فمنهم ابن خلدون وابن الخطيب وابن حرازم وابن باجة، وربما ابن العربي. كما يُعتقد أن ابن ميمون والمؤرخ الأفريقي حسن ابن الوزان المعروف باسم “ليون الأفريقي” كانا من تلامذة القرويين، كما يقول المؤرخ البولوني روم لاندو[12].

ويُرجع البعض مقومات الزعامة التي أهّلت علال الفاسي لهذا الموقع القيادي إلى المضامين العلمية التي تلقاها في جامعة القرويين، رغم ما ينسب إليها من محافظة وتقليد. وتكفي الإشارة إلى أن أهم كتب الفاسي التي يكاد يرتبط بها اسمه، هو كتابه “النقد الذاتي” الطافح بالأفكار الإصلاحية والداعية إلى تغيير الواقع السياسي والاجتماعي انطلاقا من الاجتهاد الفكري، “فكان عميق المعرفة في العلوم الشرعية، أديبا وشاعرا ومفكرا وباحثا اجتماعيا وسياسيا ووطنيا، غيورا على بلاده وعلى وحدة الأمة العربية الإسلامية.[13]

ارتباط اسم الجامعة بالأسماء الكبيرة للعلماء. ولعل أحد أبرز المتخرجين منها هو زعيم الحركة الوطنية التي قاومت الاستعمار الفرنسي بالمغرب، علال الفاسي

جامعة القرويين.. شقيقة الأزهر الكبرى

إذا كان البعض يرى أن الاعتراف بالتاريخ العريق لجامعة فاطمة الفهرية يعني بالضرورة مقارنتها بجامعة الأزهر المصرية العريقة، فإن أستاذا سابقا في جامعة القرويين هو الراحل يوسف الكتاني، خلّف دراسة مخصصة بالكامل لدور هذه الجامعة في تعزيز التواصل بين الشعبين المغربي والمصري، وقد نشرتها المجلة التي تصدرها وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية المغربية.[14]

يقول الكتاني: كانت رحلات كل من الطلبة والأساتذة والشيوخ بين الجامعتين من أهم وسائل التواصل، ومن دوافع استمراره ودوامه واتصاله. ولقد أكد هذا التواصلَ وعززه وقرره وجودُ قواسم مشتركة بين الجامعتين من حيث صفتهما ووظيفتهما ومركزهما، وتشابه وتماثل أنظمتهما وأنشطتهما وانفتاحهما، وانتشار دعاتهما ورسلهما في مختلف الأنحاء والآفاق.

فاطمة بنت محمد الفهري القيرواني الملقّبة بـ”أم البنين” هي أول إنسان شيّد جامعة في تاريخ الإنسانية

قلعة المقاومة.. شريك الغنائم وبيت النور الذي أزعج المستعمر

إلى جانب أدوارها الدينية والعلمية، كانت لجامعة القرويين أدوار سياسية مباشرة، فكانت في مرحلة الاستعمار الفرنسي للمغرب مهد الثورة على الظلم ومنطلق الجهاد ضد المستعمر، لدرجة أن المقيم العام (الحاكم الفرنسي) المشير “هوبير ليوتي” وصفها بأنها “البيت المظلم” الذي ينبغي إغلاقه، لما أظهرته هذه الجامعة من صمود وإصرار على المقاومة في الواجهة الفكرية والدينية، فقد دعت إلى الخروج وترديد دعاء “اللهم ألطف بنا في ما جرت به المقادير، ولا تفرق بيننا وبين إخواننا البرابر”، وذلك عندما استصدرت فرنسا قانون التمييز بين العرب والأمازيغ في المغرب.[15]

وقد سجل المؤرخ عبد الهادي التازي كيف ارتبط تاريخ المغرب الدبلوماسي والدولي بهذه الجامعة، فلا نكاد نجد حركة فاصلة في ماضي المغرب دون أن نجد لعلماء القرويين فيها اليد الطولى. إذ يقول: فإن استجابة المرابطين لنجدة الأندلس لم تكن إلا بعد فتوى صادرة عن رجال هذه القرويين، وإن أول سفارة من المغرب إلى المشرق إنما كانت برئاسة علم كبير من أعلامها تحدث إلى أقطاب بغداد وعلماء الإسكندرية.

ويروي هذا المؤرخ أن القرويين كان الجامع الوحيد الذي يُهدى إليه نصيبه من المعارك البطولية التي كان المجاهدون يخوضون غمارها بنخوة وعزة، وهكذا نجد على طول بلاطه الأوسط عددا من الأجراس التي اقتلعها الجنود من أعالي الكنائس القشتالية بعد أن حولوها إلى ثريات مبهرة، وبعد أن لم يبق من معالمها الأولى إلا حروف لاتينية باهتة.

المصادر: 

[1]  كتاب “في تاريخ المغرب، جامع القرويين المسجد والجامعة بمدينة فاس، موسوعة تاريخها المعماري والفني”، المجلد الأول، عبد الهادي التازي.

[2] كتاب “في تاريخ المغرب، جامع القرويين المسجد والجامعة بمدينة فاس، موسوعة تاريخها المعماري والفني”.
[3] كتاب “في تاريخ المغرب، جامع القرويين المسجد والجامعة بمدينة فاس، موسوعة تاريخها المعماري والفني”.
[5] كتاب ”فاس: عاصمة الأدارسة”، محمد المنتصر بالله محمد الزمزمي الكتاني، الناشر: دار الحديث الكتانية.
[7] كتاب “في تاريخ المغرب، جامع القرويين المسجد والجامعة بمدينة فاس، موسوعة تاريخها المعماري والفني”.
[8] https://www.guinnessworldrecords.com/world-records/oldest-university
[9] كتاب ”فاس: عاصمة الأدارسة”، محمد المنتصر بالله محمد الزمزمي الكتاني، الناشر: دار الحديث الكتانية.
[15] https://archive.islamonline.net/?p=60

إعلان