مسحّراتي المحروسة.. عبق مكاوي ووهج الإذاعة ومسرح العرائس

“اصحى يا نايم، اصحى وحّد الدايم، وقول نويت بكره إن حييت، الشهر صايم والفجر قايم، اصح يا نايم وحد الرزاق، رمضان كريم”.

تقع منطقة السيدة زينب بجنوب القاهرة، وتكتظ بمساكن البسطاء والأسواق والمطاعم وعربات الخيول والحمير، وتتناغم في أزقتها وساحاتها أصوات الباعة والمغنين وترانيم الدراويش والمنشدين.

وسط زخم الألحان والأصوات ولد سيد مكاوي عام 1928 لأسرة فقيرة، وفقد بصره في مرحلة مبكرة من عمره، لكنه أحس بالسعادة والجمال فكان توليفة من الحب والطرب والشجن وتردد صدى لحنه في أرجاء القاهرة على مدى عقود.

وفي مطلع 2018 في فيلم بعنوان “مكاوي.. مسحراتي المحروسة” سلكت الجزيرة الوثائقية دروب مسحراتي المحروسة، فتجولت بين إذاعة القاهرة ومسرح العرائس لتحكي قصة من “نور الخيال وصنع الأجيال”.

تروي ابنته أميرة أنها كانت تعتقد في البداية أنه مبصر، إذ يلعب الدومينو بحرفية ويُصلح الأجهزة ويستمتع بالحياة من حوله.

في حضن التراث.. على نهج القدماء

أما رحلته مع الفن فانطلقت من الأغنية التراثية، وذلك نظرا لتأثره بالمنشدين والقراء ومشايخ الصوفية في حي السيدة زينب.

ولم يكن سيد مكاوي بدعا في هذا، فالعديد من القامات الغنائية بدأت مسيرتها الفنية مع الأغاني التراثية والدينية نظرا لعمق تأثيرها في وجدان المجتمع.

وفي حديثه لوثائقي الجزيرة يلاحظ أستاذ الموسيقى محمد الحلواني أن مكاوي سار على نهج زكريا أحمد وإبراهيم النجار وآخرين نمت ذخيرتهم الموسيقية في حضن التراث.

سيد مكاوي كان له دور بارز في “الصور الغنائية” التي يكتبها كبار الكتاب والشعراء ويغنيها نجوم الطرب

ويقول كاتب سيرته الصحفي ماهر زهدي إن مكاوي انتصر على الإعاقة بمرحه وخفة دمه واحترف التلحين والغناء والتمثيل، ورُوى عنه قوله “يمكنني تلحين المنثور”.

ويتحدث المؤرخ الفني طارق الشناوي عن حضور شخصية مكاوي في أعماله، قائلا “عندما تسمع موسيقاه ترى خفة دمه وشخصه وأسلوبه”.

ولأن مكاوي كان يبوح بأحاسيسه للمخرج الكبير بدرخان فقد مكنه هذا الأخير من تجربة التمثيل في فيلم العروسة الصغيرة.

كما كان لسيد مكاوي دور بارز في “الصور الغنائية” التي يكتبها كبار الكتاب والشعراء ويغنيها نجوم الطرب أيام ازدهار الموسيقى والفن في المحروسة القاهرة.

الليلة الكبيرة.. أجمل عمل فني شعبي في مصر 

في مايو/أيار عام 1961 شهد مسرح العرائس في القاهرة عرض أوبريت “الليلة الكبيرة” التي اعتبرت أجمل عمل فني شعبي في مصر على مدى عقود. والأوبريت من كلمات صلاح جاهين وألحان سيد مكاوي ويصف المولد الشعبي في مصر.

يظهر في الوثائقي تصريح أدلى به سيد مكاوي لإحدى الصحف قائلا “الليلة الكبيرة ليس لها شبيه، وأعمالي سرقتُها من تراب مصر وناسها”.

نجاح الليلة الكبيرة علق عليه أستاذ النقد الموسيقي الدكتور زين نصار بالقول “ما زلنا نحب التفرج على الأوبريت”، أما الحلواني فيقول إن الليلة الكبيرة كانت صورة شعبية وقصة من الشجن والجمال.

لحّن مكاوي أيضا مسرحيات كثيرة بينها الولد الشقي ومدرسة المشاغبين، وكان في كل عمل يقوم به يبدو فكاهيا ومرحا وسعيدا وقريبا من البسطاء.

 “هنا القاهرة.. شهر الهدى والصيام”

وبحلول عام 1965 كانت الشهرة فتحت أبوابها للفنان الضرير، فقد صقلت مواهبه في الغناء والتلحين والعزف على العود وحتى في التّمثيل.

يومها كان للإذاعة زخمها وعبقها في البيوت والمقاهي والمطاعم والنوادي الشعبية، إذ كانت وسيلة ترفيه ونافذة على الموسيقى والفن ولسانا يتحدث عن قضايا الشعوب وهمومها وأحلامها وآمالها.

وفي رمضان تتوهج الإذاعة بمصر ويلازمها عشاقها من الإفطار وحتى السحور، ولا يزال المصريون يحنون لأيام “هنا القاهرة.. شهر الهدى والصيام”.

في ذلك العام استدعت الإذاعة سيد مكاوي للمشاركة في إحدى حلقات المسحراتي التي تقدمها عادة فرقة موسيقية وتُبث على الهواء.

لكن الشيخ سيد مكاوي اقترح أن يقدم الحلقة بشكل مختلف فقال “أطلع في يدي طبلة في الشارع: اصحى يا نايم وحد الدائم، قول نويت بكرة صايم”.

قدم الحلقة بشكل طبيعي من دون فرقة ومن دون آلات، فأحبها الناس على نطاق واسع وتردد صداها في مختلف الأحياء الشعبية.

ولاحقا استمرّ مكاوي في تقديم الحلقة إلى أن لُقّب بمسحراتي القاهرة، وتحول إلى طقس رمضان ليلي يلامس وجدان الناس ويحنون إليه كل عام.

النقاد والموسيقيون الذي تحدثوا في الوثائقي أكدوا محورية مكاوي في عالم الغناء ووصفوه بملك الإحساس الشعبي، فحتى الكلمات الرومانسية يضيف لها لمسة شعبية تنقلها من العمق إلى السطح كما في “حكاية نحن الاثنين” التي لحنها لليلى مراد.

مكاوي.. ما خطرتش على بالك يوم

وقد ساهمت الإذاعة في التعريف بمواهب مكاوي فتهافتت عليه المطربات يطلبن ألحانه، فلحن لفايزة أحمد “يا نسيم الفجر صبح”، ولنجاة الصغيرة “لو بتعزني”، ولصباح “أنا هنا يا ابن الحلال”، ولسميرة سعيد “بعدين نتعاتب”.

وبينما كان مكاوي في أستوديوهات إذاعة القاهرة لتقديم حلقة من برنامج “نور الخيال وصنع الأجيال”، تعرف على سيدة الغناء العربي الفنانة أم كلثوم.

مكاوي يُمثل في فيلم “العروسة الصغيرة” بعد أن مكّنه صديقه المخرج بدرخان من ذلك

ظهر مكاوي ذاته في الوثائقي يتحدث عن هذا اللقاء “أعجبها التتر، وعندما سمعت البرنامج اتصلت بي لألحن لها يا مسهرني ما خطرتش على بالك”.

وكان لأم كلثوم ما أرادت، فقد لحن لها سيد مكاوي كلمات الأغنية ولقيت نجاحا كبيرا في عالم الموسيقى، وهذا اللحن أضاف شحنة جديدة لفن أم كلثوم.

وجع الوطن.. حين ينتهي الدرس

ولئن كان المرح يحتل حيزا مهما من كلمات وألحان سيد مكاوي، فإن الوجع لم يغب عنها إذ كان ملتحما بقضايا وطنه وأمته، فلحّن كلمات أغنية “الدرس انتهى لمّوا الكراريس” التي كتبها رفيق دربه جاهين وغنتها شادية، بعدما قصفت إسرائيل مدرسة “بحر البقر” وقتلت العديد من التلاميذ المصريين.

وفي حديثه بوثائقي مسحراتي المحروسة، يقول الإذاعي محمود عبد العزيز إن “سيد مكاوي كان ملتحما بالإذاعة وبقضايا وطنه”. وقد عكست أغنية “الدرس انتهى” حالة الشعب المصري الموجوع بعد نكسة 1967 فكانت كربا شديدا وحزنا عميقا وجرحا نازفا.

دعوني أعمى.. انسجام مع الذات

مكاوي الضرير قدم للموسيقى العربية ما لم يقدمه كثير من المبصرين. وعندما أتيحت له فرصة استعادة بصره من جديد رفض الفكرة من دون تردد.

وذات مرة سافر صلاح جاهين للعلاج في الاتحاد السوفياتي وعاد فرحا لأنه التقى بطبيب كبير في العيون وشرح له حالة سيد مكاوي وأخبره بإمكانية علاجه.

وعلى الرغم من عمى مكاوي، فإنه غنى ولحن وعزف ومثّل وركب الدراجات ولعب كرة القدم، ولذا كان منسجما مع ذاته وراضيا عنها.

الضرير مكاوي قدّم للموسيقى العربية ما لم يقدمه كثير من المبصرين

ورغم استعداد والدته للتبرع له بقرنيتها وتكفل الدولة بنفقات العلاج، فإن مكاوي لم ير أهمية للخضوع للعملية، إذ كان يرى الأشياء ببصيرته وفلسفته.

ويروي أصدقاؤه أنه كان يحس بجمال الحياة ولم يطمئن لاستعادة بصره حتى لا يرى الأشياء القبيحة والأمور السيئة، فرفض بمنتهى البساطة.

وداعا مكاوي.. الرضا بالقدر

في 21 أبريل/نيسان عام 1986 رحل صلاح جاهين، وفي 21 أبريل/نيسان 1997 ترجل رفيق دربه مسحراتي المحروسة فحزن الناس لفراقه.

وفي الفيلم تروي ابنته أميرة سيد مكاوي ظروف وفاته، وكيف فضّل أن يقضي آخر وقت في غرفتها وفي حضنها وأنه كان راضيا بقدره ومصيره.

والدة مكاوي تبرعت له بقرنيتها حتى يُبصر، لكنه رفض ذلك لإنه كان يرى الأشياء ببصيرته وفلسفته

لكن شهادات وثائقي الجزيرة تؤكد أن سيد مكاوي لم يرحل، فقد خلدته أعماله العظيمة وأغانيه الجميلة ومسيرته الرائعة.

وحتى هذا الحين لا تزال مصر تعيش على سحر وعبق سيد مكاوي، وكأنه ما زال يدندن في أحياء القاهرة يوقظها بلطف ثم يطربها ويهدهدها إلى أن تنام من جديد.