صالح بن يوسف.. نبش في ملفات الدولة التونسية
عبد الله أيد
كانت جريمة قتل الزعيم صالح بن يوسف جريمة دولة لا يمكن أن يتم تنفيذها دون علم رأس الهرم، وهو الذي لم يكن مرتاحا لوجود صالح بن يوسف بجانبه منذ البداية، لأن تونس -كما يرى- لا تسع رأسين، ولأن الواجب يقتضي من أجل حماية الجمهورية أن تقوم الداخلية والمخابرات بقطف رؤوس قد أينعت وحان قطافها، بل ربما كان مقررا أن تقطف منذ زمن، ولأن رئيس الدولة يرى في صالح غريما سياسيا لا يستحق مجرد الإقصاء بل القتل.
لذلك نظرا للظروف التي تمت العملية فيها، فإنه من السهل أن تميز رائحة الدولة في مسرح الجريمة، وكلما تعمقت -حيث تشير أصابع الاتهام- كان الأمر أشد وضوحا وأكثر دلائل.
نستعرض في هذا الفيلم الذي أنتجته الجزيرة الوثائقية بعنوان “صالح بن يوسف.. جريمة دولة” تفاصيل واقعة فرانكفورت التي أودت بحياة الزعيم التونسي الكبير، ونتتبع خيوط الجريمة وأبعادها، ومنشأ الصراع الذي أنتجها.
الصباح الصحو
في فجر علاقة الزعيم صالح بن يوسف بالزعيم الحبيب بورقيبة، وقبل أن تشرق شمس الاستقلال على الديار التونسية، كان بن يوسف عضدا من أعضاد بورقيبة، وعلى الرغم من أنه لم يكن يقل أهمية عنه، فإن الوضع قَسم لهما الزعامة شقين يقتسمانها، فمنح لبن يوسف لقب الزعيم الكبير، ولبورقيبة لقب الزعيم الأكبر، قبل أن يرتقي إلى لقب المجاهد الأكبر.
كان الزعيم الكبير صالح بن يوسف أكثر شعبية وشهرة وأوسع آفاقا في داخل الحزب، حيث كان الجيل الجديد أكثر احتكاكا به من بورقيبة رئيس الحزب، نظرا لما قام به من دور مهم في نشر الحزب إلى أن تجذر في المجتمع؛ حتى رسم لنفسه شخصية سياسية بامتياز تأبى إلا أن تصنف في شخصيات الصنف الأول السياسية.
وكان مما ساهم في تميز صالح على بورقيبة دماؤه التي تنتمي إلى عائلة من طبقة الأعيان والأثرياء ذوي النفوذ في تونس، حيث كان والده تاجرا من تجار الجملة في مجال المواد الغذائية وتوابعها وغير ذلك، كما أن أخاه كان من كبار الشيوخ في جامع الزيتونة. وهذا المزج بين طبقة المال وطبقة الدين خلق للزعيم صالح بن يوسف مكانة كبيرة، وهو ما مكنه من الالتحاق بالعاصمة تونس مباشرة بعد إكماله دراسة القرآن في جربة، وهي الجزيرة التي كُتب لها أن تكون مسقط رأسه منتصف شهر مارس/آذار عام 1909 حسب الأرشيف الفرنسي.
أغصان حديثة في جذور عتيقة
رغم خشية أبيه عليه من التأثر بالتعليم العصري على حساب التعليم الأصلي المرتبط بالهوية في شقيها اللغة والدين اللذين غذاه بهما طفلا في مرابع جربة، فإن توجسه ذلك لم يمنعه من إلحاقه بصفوف التعليم الحديث في العاصمة ولما يتجاوز الثامنة بعد، فنشأ بذلك منشأ متوازنا يجمع بين ناصية الهوية ومفاتيح الحداثة، مما جسد من شخصه شخصية متوازنة لا تهمل الحداثة، ولا تتخلى عن جذورها.
ثم حملته الأقدار من ثانوية كارنو ذات الطابع الأجنبي المحض التي لا يدرس فيها إلا أبناء الجاليات الأوروبية أو المحظوظون من أبناء التوانسة، إلى مدينة باريس الفرنسية حيث جامعة السوربون، وهناك جللته الجامعة حُلة الإجازة في الحقوق والعلوم السياسية أوائل عقد الثلاثينيات.
وكان له نشاط طلابي كبير في باريس حيث انخرط في صفوف جمعية طلاب شمال أفريقيا المسلمين مع عدد من التونسيين والمغاربة والجزائريين، وإضافة إلى هذا النشاط الأفريقي الأشمل فقد كان له نشاط وطني بحت تمثل في تأسيس شعبة طلابية تابعة للحزب الدستوري الحر.
بن يوسف يستلم الرسن
قام الفرنسيون باعتقال قادة الحزب الدستوري الحر ومنهم الحبيب بورقيبة، ونقلهم إلى الجنوب التونسي عام 1934، وبقي صالح بن يوسف الذي لم تشمله الاعتقالات لأنه لم يكن ذا دور بارز في ذلك الحين، ليجد نفسه ممسكا برسن الحزب الدستوري الذي غاب آباؤه، فأصبح مضطرا ليملأ فراغات القوم وهم بمنفاهم في الجنوب.
غفلة السلطات الاستعمارية الفرنسية عن بن يوسف ونجاته من الاعتقال حينئذ هي ما مكنه من المشاركة في تنظيم إعادة عمل الحزب الدستوري الحر الجديد، حتى أصبح من أهم عناصر الحزب وأكثرهم نشاطا في فترة الثلاثينيات.
نشط بن يوسف في تنظيم عمل الحزب وفتح شُعبا جديدة له في جميع جبهات البلاد، الأمر الذي مكنه من معرفة الحزب من الداخل، وبالتالي أكسبه براعة في التعبئة والاتصال، نتيجة مواهبه وقدراته الإقناعية والخطابية.
ولم يكن الدور الذي قام به من إحياء للحزب أثناء غياب القادة في سجونهم يقل أهمية عن تأسيس الحزب، حيث يمكن أن نقول إن صالح بن يوسف بدأ إعادة بناء الحزب الدستوري الحر من الصفر.
من الأصفاد إلى المنفى
لقد تغافل الأمن الفرنسي بداية الأمر عن صالح بن يوسف، نتيجة انشغالهم بكبار قادة الحزب، لكنهم سرعان ما فطنوا لحركته القوية في التعبئة الحزبية التي قامت عليها آيات وبراهين شتى في مختلف الجبهات، فبدا لهم من بعد ما رأوا الآيات أن يسجنوه، فألحقوه برفقاء النضال في الجنوب التونسي، وأوصدت أقفال السجن على الجميع عام 1935.
كان العام 1936 طالع سعد على بن يوسف، حيث أطلق الفرنسيون سراحه وعاد إلى ممارسة أنشطته الحزبية، فحضر في العام الموالي مؤتمر “نهج التريبونال” المؤتمر الثاني للحزب، والذي كان من أبرز عناصر الحزب الحاضرة فيه، وكان لصعوده إلى قيادة الحزب في هذا المؤتمر دلالة خاصة في وقت اتجه فيه الحزب إلى الصدام مع الإقامة العامة وحكومة الجبهة الشعبية بعد أن يئس من وعودها.
وكنتيجة حتمية لنشاطات صالح بن يوسف التي تمثلت في الصدام مع المقيم العام الفرنسي الممثل لحكومة الجبهة الشعبية، وما تبعها من أحداث عام 1938، قامت فرنسا مجددا باعتقال بن يوسف مع بعض زملائه، ثم تحويله من سجن إلى سجن آخر، وأخيرا بنفيه إلى ما وراء البحر في فرنسا.
خفوت نجم بورقيبة
منذ العام 1938 لم يعد لبورقيبة ذلك الإشعاع والصيت الكبير اللذين كانا يسبقانه في المحافل الحزبية، وفي الساحة الوطنية بشكل عام، بعد أن أخذ منه التضاؤل كل مأخذ نتيجة مواقفه المخالفة للرأي العام.
كان صالح بن يوسف يرى أن وجود بورقيبة في تونس لم يعد ينفع الحركة الوطنية، بل أصبح يشكل ضررا عليها، ففي اجتماع للحزب في دار بن يوسف اقترح صالح أن يتم بعث بورقيبة إلى المشرق من أجل حفظ ماء وجهه، وذلك لكونه لم يعد له أي رصيد من الاحترام الداخلي بسبب موقفه ضد دول المحور أثناء الحرب العالمية الثانية، مما أدى إلى إضعافه محليا بشكل كبير، وانقلاب رأي الشعب -الذي اعتبر موقفه بمثابة خيانة- عليه، إذ إن الرأي العام للشعب حينئذ كان متحيزا للألمان ضد المستعمر الفرنسي.
واتفق بن يوسف مع بورقيبة على أن يقوم برحلة إلى الشرق إبان تأسيس جامعة الدول العربية، من أجل التعريف بالقضية التونسية وحشد الدعم العربي لها، وفعلا ذهب بورقيبة عام 1945 إلى المشرق في رحلة رآها البورقيبيون -فيما بعد- محاولة من بن يوسف للاختلاء بالحزب في غياب الزعيم الأكبر، كي يتبوأ مركز القيادة في الحركة الوطنية ويستبد به لنفسه، رغم أنه لم تكن هناك -لدعم هذا الرأي- خلافات بارزة للعيان بين الرجلين في تلك الحقبة.
وبعد أن شد بورقيبة الرحال إلى القاهرة أصبح صالح بن يوسف المسؤول الأول عن الحركة الداخلية في تونس، لكونه الأمين العام للحزب الدستوري الحر، وخلال الأعوام اللاحقة قام بن يوسف بإعادة هيكلة وتنظيم الحزب داخليا، ثم إحاطته بسوار من التنظيمات الاجتماعية التي شارك في تأسيسها وتنظيمها، كمنظمة الأعراف والاتحاد العام التونسي للشغل.
ونتيجة للأدوار الجسيمة التي قام بها اكتسب شعبية كبيرة، وأصبح القيادي صاحب التأثير الأكبر والصيت الأعظم في الساحة السياسية سواء داخل الحزب أو خارجه، مما يدل على قدرته على تجميع فئات التونسيين المختلفة والمتصارعة وتوحيدها صفا واحدا من أجل هدف موحد. ولقد تجسدت قدرته في تنظيم مؤتمر ليلة القدر في أغسطس/آب عام 1946 الذي استطاع أن يقنع الحزب الدستوري القديم المناوئ له بحضوره، وهو ما يعني حضور الشخصيات السياسية التونسية البارزة بأكملها للمؤتمر.
الشرخ بداية الانكسار
لم تكن توجد بين بورقيبة وبن يوسف خلافات سياسية مبدأ الأمر، إلا أنه قيل لبورقيبة بواسطة بعض أنصاره إن الأمور تكاد تفلت من يديك، وهو أمر تمت المبالغة فيه حسب بعض المؤرخين، بل تمت مغالطة الزعيم بورقيبة فيه، وكان موقف بن يوسف استبقاؤه في المشرق العربي، لكنه أصر على العودة إلى تونس، وعاد بالفعل بالتعاون مع السفارة الفرنسية في القاهرة في سبتمبر/أيلول عام 1949.
بعد عودته من المشرق حضر بورقيبة مؤتمر دار سليم، ووقعت خلافات بينه وبين أنصاره من جهة، وبين أعضاء آخرين في الحزب وصلت بهم حدة الخلاف إلى أن طالبوا بعزل بورقيبة، الأمر الذي اضطر صالح بن يوسف إلى التدخل من أجل إنقاذ الموقف، حيث اقترح جبرا لخاطر بورقيبة أن يتم تعيينه رئيسا للحزب الدستوري الحر، وبالفعل تم إقرار الرئاسة له، وتم تعيين صالح بن يوسف أمينا عاما.
الحكم الذاتي
كان بورقيبة ينظر بمنطق براغماتي بحت قائم على متلازمة “خذ وطالب”، وصولا إلى تحصيل الشرعية داخل المنظومة، ثم البدء بالإصلاح الداخلي تحت قبتها، ونتيجة لذلك سافر إلى باريس في أبريل/نيسان عام 1950 حاملا في جعبته “برنامج السبع نقاط” الذي كان من أهم ما فيه تكوين حكومة تونسية خالصة متجانسة تمارس عملها، ثم تكون مسؤولة أمام البرلمان.
وقد تم تشكيل حكومة تونسية برئاسة محمد شنيق في أغسطس/آب من العام نفسه، متضمنة بين أعضائها الأمين العام للحزب الدستوري صالح بن يوسف وزيرا للعدل كإشراك للدستوريين وجميع الأطياف الوطنية في حكومة هدفها التفاوض مع فرنسا.
بدأت الحكومة ممارسة عملها، لكنها فشلت في تحقيق ما كانت تصبو إليه من تنازلات من طرف الحكومة الفرنسية، بالنظر إلى تشدد الأوساط الفرنسية الاستعمارية، ذلك التشدد الذي يبلغ ذروته حين تتوجه البوصلة تجاه منح التونسيين إصلاحات أو تنازلات قد تقود إلى طريق تحقيق الاستقلال.
معاندة الفرنسيين أججت نيران المقاومة الريفية وسكبت عليها الزيت فالتهبت بفعل رياح الكفاح المقدس، فرد الفرنسيون بسياساتهم الاعتقالية التي شملت أعضاء حكومة شنيق، وكان صالح بن يوسف في فرنسا حين طرقت مسامعه أنباء الاعتقالات، ففر منها صوب بلجيكا، ثم من بلجيكا إلى القاهرة كملاذ آمن له.
القاهرة منحنى التاريخ
عقل الزعيم صالح بن يوسف ركابه في القاهرة ديار بورقيبة القديمة، إلا أن قاهرة بورقيبة لم تكن نفسها قاهرة بن يوسف، فقد تبدلت الأحوال السياسية ودالت دولة الملك فاروق، واعتلت قوة ثورية جديدة مقاليد الحكم في الديار المصرية.
في القاهرة أسهم المشهد السياسي المصري في تغيير قناعة الزعيم بن يوسف الذي كان يناضل بالأمس القريب من أجل التفاوض مع الفرنسيين والحصول على تنازلات تجود بها أياديهم، فقد أصبح اليوم رافضا للمفاوضات ونتائجها، متبنيا خط الكفاح المسلح، مؤمنا بأن الكفاح يجب أن يذهب إلى منتهاه، وأن قبلة القضية التي يجب أن تولي وجهها شطرها هي قبلة الاستقلال التام التي كانت تؤمها أطراف في الحركة الوطنية، ومنذ ذلك الحين أصبح صالح بن يوسف متبنيا لذلك الخيار.
بعد عدة أعوام من إقامته في مصر سافر بن يوسف إلى جنيف ميمّما منها وجهه شطر الشرق الأقصى قاصدا مؤتمر باندونغ في إندونيسيا، المؤتمر الرافض للاستعمار الذي تم تنظيمه من أجل دعم الحركات التحررية الصاعدة في العالم بدعم من الاتحاد السوفياتي، حيث كان ممثلا لتونس في المؤتمر، بحضور حليفه الزعيم جمال عبد الناصر ممثلا لمصر.
تونس.. معادلة جديدة
في يوليو/تموز عام 1954 جاء رئيس الحكومة الفرنسية بنفسه إلى تونس تحت ضغط من المقاومة التونسية التي أقضّت مضاجع الفرنسيين فيها، وأعلن استقلال تونس استقلالا داخليا، ومنحها الحكم الذاتي بشرط إيقاف التحركات العسكرية الداخلية التي كان يقوم بها الثوار.
بهذا الإعلان بدأت جولة جديدة من المفاوضات ساد فيها رأي بورقيبة في غياب بن يوسف، أي الرضى بكل ما يمنحه الفرنسيون من تنازلات من أجل البناء عليه للوصول للمرحلة اللاحقة في طريق الوصول إلى الاستقلال التام، فكما تم تحقيق هذه الخطوة سيتم تحقيق الخطوة التي تليها، ومن هنا بدأ الخلاف.
إلى الوطن مرة أخرى
في سبتمبر/أيلول عام 1955 عاد صالح بن يوسف إلى تونس، وكان في استقباله الحبيب بورقيبة مع حشود كبيرة من التونسيين ترحيبا به وتهليلا بالمستقبل الزاهر الذي شارك في صناعته، لكن هذا التفاهم بين الرجلين لم يعمّر طويلا.
فقد فجر صالح بن يوسف بتصريحاته الإعلامية قنبلة كبرى في المشهد السياسي التونسي برفضه لاتفاقية الاستقلال الداخلي، واعتباره خطوة إلى الوراء لا إلى الأمام، مما أحدث صدى واسعا داخل الأوساط السياسية والشعبية التي بدأت تلتف من حوله وتدعم خطابه السياسي الداعي للحرية والاستقلال الكاملين.
الصراع الكبير
رغم الاعتقاد السائد لدى الكثيرين أنه كان خلافا شخصيا متعلقا بالاستحواذ على الزعامة، لم يكن الصراع اليوسفي البورقيبي صراعا بين شخصين حسب بعض المؤرخين والمقربين من الرجلين، بل كان صراعا على رسم ملامح مشروع مجتمعي.
ومما أزّم الوضع بداية الأمر أن بورقيبة كان قد أعلن عن وضع السلاح حسب اتفاقياته مع الفرنسيين، وطالب المقاومين “الفلّاقة” بتسليم أسلحتهم تطبيقا لاتفاقية الاستقلال التام، وبالفعل قام الكثيرون منهم بذلك، لكن بعضهم رفض فتم قراءة ذلك على أنه انحياز أو تآمر مع الزعيم بن يوسف.
إبان الصراع البورقيبي اليوسفي انقسمت تونس سياسيا وثقافيا إلى فسطاطين عظيمين، فسطاط داعم لبورقيبة، وآخر داعم لبن يوسف الذي وجد في الزيتونيين ضالته المنشودة لكون عائلته زيتونية، ولكون أخيه الشيخ البشير بن يوسف من أبرز رموز الزيتونة آنذاك، فتوكأ عليهم لما رأى فيهم من البعد الشعبي الذي ينقصه، وجنحوا إليه لما رأوا فيه من القيادة التي تنقصهم، فكان دعمهم هو ما أسنده بذلك الامتداد الشعبي العميق داخل البلاد الذي شد عضده أثناء احتدام الصراع.
قام الزعيم الأكبر بورقيبة رئيس الحزب بفصل الزعيم الكبير بن يوسف الأمين العام للحزب، فرفض ذلك وعض نواجذه على الأمانة متمسكا بها، مما جعل كثيرا من التونسيين يتعاطفون معه ويساندونه، حتى تغلبت المعارضة على بورقيبة وأصبح صالح يمثل الشعب التونسي.
في عام 1955 تم تنظيم مؤتمر صفاقس بقيادة بورقيبة دون حضور اليوسفيين وزعيمهم صالح بن يوسف الذي اعتبر أن المؤتمر غير شرعي، لأنه يجب أن ينعقد بدعوة من الأمين العام، وعلى الرغم من كونه هم بحضوره، فإن أنباء وصلت إليه بمحاولات لقتله إن حضر، فألح عليه بعض المقربين منه باتخاذ الحيطة وتوخي الحذر، فامتنع عن الحضور.
لكنه اضطر فيما بعد إلى الهرب إلى ليبيا خشية الاعتقال بعد أن تسرب إليه نبأ بذلك عبر اتصال هاتفي، فتسلل تحت جنح الظلام دون أن يعلم أهل بيته، ويقال إن وزير الداخلية حينئذ علم بهروبه، لكنه فضل السماح له بذلك بدلا من اعتقاله، أو استحسن هروبه سالما.
كل يغني على ليلاه
نتيجة لنجاحاته المتواصلة وانتصاراته المتتابعة تزايد في نفس بورقيبة -حسب بعض المؤرخين- تضخم الأنا، حيث أصبح لا يرى شيئا غير نفسه، ولا يرضيه إلا ما يرى، فكان يتصرف بطريقة استبدادية تجاه زملائه مما أدى إلى تناقص شعبيته؛ بينما كانت شعبية اليوسفيين تتزايد يوما بعد يوم بسبب الشعار الجذاب “الاستقلال التام” الذي نادى به بن يوسف من أول يوم حط فيه رجله عائدا إلى الوطن.
وعندما أدرك بورقيبة أن الأمر أفلت من يده، وبأن الحركة الوطنية أصبحت تسلك الخط الذي يسير عليه صالح بن يوسف طار إلى فرنسا، فطالب بالاستقلال التام من عقر الديار الفرنسية، وفعلا حصل على الاستقلال التام عام 1956، موجها بذلك ضربة قوية للحركة اليوسفية.
الحسم
كان صالح بن يوسف ينظر إلى بورقيبة على أنه غريم سياسي، بينما كان بورقيبة -حسب بعض المؤرخين- ينظر إلى بن يوسف على أنه غريم سياسي لا يستحق مجرد الإقصاء، بل يستحق القتل.
تم حسم هذا الصراع الذي استُخدمت فيه جميع وسائل الدولة بطريقة دموية جدا، بل وتمت الاستعانة فيه بالعدو الأول فرنسا، حيث قامت طائراتها بقصف اليوسفيين، ثم تلت تلك المرحلة سلسلة محاكمات أنتجت في معظمها أحكاما قاسية جدا تصل حد الإعدام تجاه أولئك المعارضين اليوسفيين، وعلى رأسهم الغائب الحاضر الزعيم صالح بن يوسف الذي حُكم عليه غيابيا بالإعدام.
بلغ عدد من وقع بين فكي المقصلة ستين شخصا، إضافة إلى أعداد كثيرة أخرى ممن قضوا نحبهم خارج إطار المحاكمات، حيث تم دفن مئات الأشخاص من اليوسفيين في معتقل “صباط الظلام” المسكوت عنه بالمدينة العتيقة.
كوني شجاعة.. لقد مات
عام 1961 سافر الزعيم الكبير صالح بن يوسف من القاهرة إلى ألمانيا برفقة زوجته، وهناك أثناء الاستعداد للذهاب إلى كوناكري لحضور مؤتمر الحزب الديمقراطي الغيني، اتصل عليه ابن أخت البشير زرق العيون طالبا منه بإلحاح لقاء خاله الذي كان يد بورقيبة اليمنى من أجل التنسيق للقاء جديد مع بورقيبة، حيث التقى به في فندق بمدينة فرانكفورت تاركا زوجته تنتظر في المقهى، وما إن دخل الغرفة ينتظر وصول البشير حتى خرج له قاتلان من الحمام يحملان مسدسات صامتة، وقتلاه من وراء ظهره دون أن يراهما.
في تلك الأثناء كانت امرأته قد استبطأته فجاءت تبحث عنه ففجعت به يقطر دما، حملته للعلاج محاولته تدارك الرمق الأخير، لكن مشيئة الله كانت أسرع، ففي منتصف الليل أتتها ممرضة ألمانية تتحدث الفرنسية وخاطبتها قائلة: كوني شجاعة، لقد مات.
وصل جثمان الزعيم الكبير إلى القاهرة، فكان في استقباله الكثير من الأعيان من أبرزهم الأمير عبد الكريم الخطابي رمز ثورة الريف المغربية، وصُلي عليه في جامع عمر مكرم، وشيعه المصريون بالورود، ودفنوه في مقبرة الشهداء، حيث نقش على قبره: عاش مجاهدا، ومات شهيدا.