العمامة البيضاء.. فيصل مولوي الذي أحبه الشيعة والمسيحيون
صوفي ومسرحي في ذات الوقت، وشيخ سني لكنه يحب الشيعة والمسيحيين ويحبونه. وبينما يغمر أسرته بالسعادة ويقطع آلاف الكيلومترات برا لتجنيب زوجته رهاب الطائرة، يؤمن بالموت في سبيل الحياة ويلتحم بقضايا أمته في ميادين السياسة والفكر وحتى في جبهات القتال.
تلك صورة يرسمها فيلم “العمامة البيضاء” لرجل لبناني لبى نداء أمته فغادر راحة الخلوة الصوفية إلى متاعب الشأن العام وما ضَعُف وما استكان إلى أن أسلم الروح لباريها.
تدور أحداث الفيلم في طرابلس وبيروت وباريس ودبلن ولندن ومدن أخرى، ليحكي قصة القيادي الإسلامي الشيخ فيصل مولوي الذي ولد عام 1941 ورحل في 2011.
وبينما تُطْبق جدران المولوية في طرابلس على ثلاثة قرون من الخلوة والتأمل، لم يكن بوسع الشيخ فيصل الانزواء ولا حتى التروي، إذ كانت تناديه فلسطين بأعلى صوتها، فيما يوشك لبنان على الانفجار حيث تزدحم فيه رؤى اليسار والعروبة وتدفعه الطائفية السياسية إلى الاقتتال.
الفيلم الذي أنتجته الجزيرة الوثائقية وبثته أول مرة عام 2015 ينطلق من مرابع طفولة مولوي في طرابلس، وينتقل معه في شبابه إلى العاصمة بيروت، حيث توطدت صلته بالعمل الحركي رغم توليه القضاء.
يعتمد محتوى الوثائقي على شهادات لأصدقاء طفولة الشيخ ولقيادات فكرية وسياسية خبِرته لعقود، وفي مرات عديدة يتوجه مخرج الفيلم إلى بيت الراحل ليوضح أنه كان يخلع عباءة السياسة والفقه عند عتبة الباب ليتحول إلى شخص عادي همه الوحيد إسعاد زوجته وصغاره وحل المشاكل التي تواجههم.
العمل سرا وعلنا
صديقه أيام الصبا محمد علي الضناوي يوضح أنه كان يعيش همّ النكبة بكلّيته، مما شغله عن المولوية، ويقول إنه انحاز للفكر الإسلامي أمام التقسيمات الطائفية والمد اليساري والعروبي.
يتذكر الضناوي أن مولوي كان عضوا في فرقة مسرحية وأنه انخرط في جماعة عِباد الرحمن ثم الجماعة الإسلامية اللبنانية، ولاحقا ابتعد عن الصوفية المولوية.
وعندما انتقل لبيروت وتعرف على مفتي الجمهورية أقنعه بالانضمام لسلك القضاء ليصبح أصغر قاض في البلاد، إذ كان عمره حينها 25 أو 26 عاما، لكن أبهة القضاء لم تمنعه من الانخراط في العمل الحركي الإسلامي.
في مراحل حرجة تولى سرا قيادة الجماعة الإسلامية، مما جعله صمام أمانها. كان ذلك في عام 1969 وظلت البيانات تصدر باسم أمينها العام فتحي يكن، ثم تكررت التجربة في عام 1976.
البيت الدافئ
هذه الأعباء لم تكن أم عمار تحس بوجودها، فقد حرص على دفء البيت وأبعده كليا عن العمل الدعوي والسياسي، فقالت “كان يجلب السعادة والسكينة ويحل المشاكل للبيت بينما لا نعرف شيئا عن مشاكله الخارجية”.
وبينما يظهر الشيخ في لقطات على خط النار بجنوب لبنان أو في نقاش فكري مع قادة العمل الإسلامي، يتعمّد مخرج الفيلم الانتقال لكريمته عواطف لتسرد كيف ساعدها على تعلم لعبة فيديو، وعندما أتقنتها وتفوقت عليه رد عليها مداعبا بالبيتين الشهيرين:
“أعلّمه الرماية كل يوم
فلما اشتد ساعده رماني
وكم علمته نسج القوافي
فلما قال قافية هجاني”.
وتحكي أم عمار أنها كانت تخاف ركوب الطائرة وأن ذلك لم يزعج زوجها بل قطع بعائلته آلاف الكيلومترات برا في رحلته لأوروبا ففرح الأطفال بهذه الطريقة الممتعة التي لا نزال نذكرها حتى الآن.
في جبهات القتال
الحرب الأهلية اللبنانية التي نشبت عام 1976 وضعت فكر الرجل أمام امتحان، فيروي الفيلم أنه لجأ لمدرسة وأن القذائف كانت تتساقط عن يمينه ويساره، ولكنه لم يتخل عن حبه لوطنه وقيم التعايش التي يؤمن بها.
وفي 1982 خضع الرجل لامتحان آخر، فقد اجتاحت إسرائيل لبنان، وحينها رفض مولوي البقاء على كرسي القضاء ومتابعة تطورات الحرب عبر الإعلام. لقد انخرط في المقاومة ونشط في التعبئة وتموين جبهات القتال.
لم يقتصر أداؤه في المقاومة على الطرف السني، يقول عنه علي فضل الله -وهو نجل المرجع محمد حسين فضل الله- “كنا نجد الشيخ فيصل مولوي رحمه الله سندا قويا للمقاومة في لبنان، بل كان له دور في صناعة بعض مواقعها”.
تتجول الكاميرا في بيروت وطرابلس والجنوب، ويظهر الشيخ إلى جانب رجال المقاومة من فلسطين ولبنان، لتجسد انخراطه الكامل في مواجهة الاحتلال.
الجهاد في أوروبا
لاحقا شعر رفاق الشيخ بأنه أصبح مهددا وملاحقا، وحينها طلبت منه جماعة الإخوان المسلمين الرحيل إلى أوروبا والسهر على مصالح أوضاع الجاليات المسلمة هناك.
وقد حل أبو عمار ضيفا عزيزا على المسلمين في فرنسا. كان ينتظره عمل مرهق تحفه المنغصات والمكاره، لكنه كان صبورا يبتسم للأحداث ولا يضيق بها، كما يصفه العلامة الشيخ يوسف القرضاوي.
في حديثه بالوثائقي يقول الأستاذ الجامعي جلال حلواني إن صاحب العمامة البيضاء وزّع وقته بين الطلاب والجالية في فرنسا، بينما يروي القيادي الإسلامي زاهر العبيدي أنه أعطى أولوية قصوى لتأسيس الجمعيات الإسلامية في أوروبا.
أما الإسلامي التونسي عبد الله منصور فيلخص مهمة مولوي بالقول “جاء بالتجديد وفكرة العالمية.. وتطبيع العلاقة مع الغرب وأن العلاقة مع الناس علاقة سلام وتعارف وأنه لا عداوة بين الإسلام والغرب، وأن الفقه الذي يحكم المسلمين في بلدانهم يختلف عن الفقه الذي يحكمهم في البلدان الأوروبية”.
في عام 1991 أنشأ مولوي الكلية الأوروبية للدراسات الإسلامية في جنوب باريس، وهي مؤسسة هيأت الأرضية الفكرية والفلسفية للوجود الإسلامي في أوروبا.
في فقه الأقليات
نشاطات الشيخ فيصل أزعجت السلطات الفرنسية، وعندما غادر البلاد بنية العودة أوصت باريس سفاراتها بالخارج بعدم منحه تأشيرة الدخول مجددا. لكن الدنيا لم تضق يوما في وجهه، فكان يذهب إلى إنجلترا وألمانيا ويقصده المسلمون الفرنسيون هناك لسؤاله عن شؤون دينهم ودنياهم.
يسرد فيلم العمامة البيضاء تجوّل الرجل في شرق أوروبا وغربها، وكيف أعطى عناية خاصة للمسلمين في دول البلقان، وأنه أول من طرح مبادرة كتابة فقه الأقليات المسلمة.
أسس الشيخ فيصل اتحاد المنظمات الإسلامية في أوروبا وشارك في تأسيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين والمجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث في دبلن.
وأصدر الشيخ فيصل مولوي سلسلة كبيرة من المؤلفات في فقه الواقع لقيت إقبالا بين المسلمين في الغرب، لكونه -كما يقول الشيخ القرضاوي- يكتب في أشد ما يحتاج له الناس، وكان رجلا عاقلا وحكيما ولا يعطي أي أمر أكثر مما يستحق.
ولأن الرجل ترك بصمته في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي، كان مناسبا أن يتحدث في الفيلم رئيس المكتب السياسي السابق لحركة حماس خالد مشعل، حيث تناول مناقبه وكيف كان شخصا يطفح بحب فلسطين وفي الوقت ذاته يطغى الشأن اللبناني على أنشطته واهتماماته.
لقد وصفه مشعل بالقول “كان شجاعا وصاحب مبادرة ولا يتردد في أن يتبنى الفكرة التي يعتقد صوابها حتى لو كانت غريبة على أصحاب الفكر التقليدي”.
وفي لقطات بالفيلم تشاهد صاحب العمامة البيضاء إلى جانب الشيخين القرضاوي وعبد الله بن بيه وعلماء آخرين من بلاد الشام ومصر والسودان ومن المغرب العربي.
رجل للجميع
أراد له رفاقه أن يتوج مساره بعضوية البرلمان اللبناني فترشح للانتخابات عام 1996، ولكنه لم يتقن اللعبة الانتخابية فخذله الحلفاء ورفض أن يعاملهم بأدواتهم، كما تروي ابنته عواطف.
تُجسّد الصور وشهادات الفيلم كيف كانت العمامة البيضاء تبرز في كل مناسبات لبنان، إذ يظهر صاحبها مرة مع رئيس الحكومة السني عمر كرامي، ومرة على المنبر يخطب عن استشهاد الحسين رضي الله عنه ليؤكد مشروعية تخليد الشيعة لعاشوراء، فيما يحسبه المسيحيون قريبا منهم وناصحا لهم.
يروي الوزير المسيحي جان عبيد “كنت أشعر بأنه أقرب إليّ بكثير من المرجعيات في مذهبي أو طائفتي، وأحيانا أكون أقرب إليه من مرجعيات في مذهبه أو طائفته وحتى في دينه.. كان محترِما ومحترَما”.
هذه المكانة علّق عليها المرشد العام للإخوان المسلمين الراحل مهدي عاكف بالقول إنها تعكس الذكاء والاستثناء، فليس سهلا أن يعيش الإنسان في بيئة طائفية مسلّحة مثل لبنان ويحتفظ بمكانة بين الجميع.
كفاح حتى آخر رمق
في سنواته الأخيرة قضّ الداء مضجعه لكنه لم يفصله عن عالم الدعوة ومشروعه الفكري، إذ يعكس الوثائقي كيف تحول مستشفى دار الشفاء بطرابلس إلى مركز تعليم، وكيف أن الشيخ كان يكافح حتى يفتي الناس ويعلّمهم بينما يتهيأ لاستقبال ملك الموت.
ومن سرير المرض تُرافق الكاميرا مولوي إلى مثواه الأخير فتوثق رحيله في الثامن من مايو/أيار 2011، ليعود التونسي عبد الله منصور يغالب الدمع في مشهد مؤثر قائلا “لا يملك مجازاتك إلا الله، فقد علمتنا أن نكون مسلمين حقيقيين في فرنسا وندعو الله أن يسكنك الفردوس الأعلى”.