طاغور.. صاحب فلسفة الحضارة القادمة من المشرق

 

سنان ساتيك

أمسك أخوه ببندقيته، صوبها نحو النمر، أغمض عينه، سدد نحو الهدف.. نمر كاد يفترسهما، لولا أن الرصاصة استقرت في جسده في الوقت المناسب، فلقد خرج طاغور مع أخيه إلى الأدغال لاصطياد النمور؛ الهواية القاتلة التي يمارسها هنود كثر.

رابندرا (الشمس المشرقة)، هذه التسمية التي أسبغها المهارش (القديس بالبنغالية) على الابن الأصغر في أولاده الكثر، والذي أشرق في سماء الأدب بعد أعوام بنيله جائزة نوبل، فكان أول آسيوي يحظى بهذا الشرف.

ولد رابندراناث طاغور في السابع من مايو/أيار عام 1861 في كلكتا لوالد من أعلام “اليوبانيشاد” ذات الأثر الصوفي

 

بيئة دينية وانكسار

ولد رابندراناث طاغور في السابع من مايو/أيار عام 1861 في كلكتا في قصر جوروسنكو لوالد من أعلام “اليوبانيشاد” (نصوص تحتوي آراء وأفكارا دينية فلسفية) ذات الأثر الصوفي، كما أن جده رعى الآداب والفنون. في هذه البيئة تربى طاغور، عاش في أجواء هذه الأسرة الهندية العريقة الثرية، من طبقة البراهما النبيلة، ذات الثقافات المتعددة، تحترف فنونا عدة كالرسم والغناء والشعر، شب هنا في العوامل التي كونته، متيحة له التعلم والفنون، والاقتباس من المحيط.

استجلب والده معلمين ليدرّسوه في البيت، كما اصطحبه معه في رحلاته، إحداها إلى الهيمالايا[1]، وكانت هذه الرحلات أفقا فتح له التفكير والتأمل، ليرى الطبيعة البكر التي جعلته يسمو بخياله فيها.

تتابعت الحالات النفسية المؤثرة في تكوين الشاعر الهندي، فقد توفيت أمه وهو صغير، فاختزنت روحُه ندوبا نفسية انعكست في كتاباته وأشعاره.

أصدر طاغور أول ديوان بعنوان “أغاني المساء” عام 1877، فلقي نقدا مشجعا وأثنت عليه الأوساط الأدبية

 

توشيح بالموت

أرسله والده عام 1878 إلى كلية برايتون في إنجلترا لدراسة القانون، حيث احترف الإنجليزية واطلع على آدابها ونهل منها، لكن نفسه كانت تنزع إلى الفن والأدب، لذا لم يقو على إكمال الدراسة فعاد عام 1880 دون شهادة.

في الهند الأسرة تختار لك مَن تتزوج، فهناك الكلمة العليا للأسرة، طاغور الحالم انصاع لها، والتي زوّجته فتاة لم تتجاوز الثانية عشرة (روايات أخرى تقول كانت في العاشرة) هي مريناليني ديفي، وهو كان في أوائل العشرينيات. استطاعت ديفي أن تبني بيتا يعيش فيه طاغور بسعادة معها، فأنجبت له ثلاثة أطفال[2]، لكنه انتقد هذه الزيجات في المجتمع الهندي في كتاباته لاحقا.

الألم مصير المبدع، وربما مصير الشعراء، لذا فإن الموت دائما يحوم حولهم، يسرق منهم من يؤثرون فيهم، يلتقطهم بعيدا حتى يتألموا فيكون ألمهم إبداعا يحرقهم فينبس بما في دواخله، فقد ماتت زوجته في ريعان صباها ثم ابنه وابنته وأبوه في فترات متقاربة، فصار شعره حانيا وقصائده شفافة، تلهج بمشاعر فياضة يتجلى فيها الصدق والحزن الحقيقي، وتتوشى بمعاني الموت.

بدأ طاغور يترجم إلى الإنجليزية لأول مرة، وكان ذلك ديوانه “قرابين الغناء”فتوّج ذلك بمنحه نوبل عام 1914

 

تأملات في الطبيعة

في تسعينيات القرن التاسع عشر كان مسؤولا عن إدارة العقارات العائلية، فأتيح له الاتصال الوثيق بالإنسانية المشتركة، وتعززت لديه فكرة الإصلاحات الاجتماعية، حتى شارك في الحركة القومية الهندية برؤيته الذاتية[3].

وفي عام 1901 أنشأ في ضواحي كلكتا مدرسة “شانتينيكيتان” (مرفأ السلام)، والتي اختار مكانها في قلب الغاب بين الأشجار ليتاح للطلاب التأمل بسلام ونقاء وتوحد مع الطبيعة متفرغين لتدريب الذات على العمل بمفردها، إلى أن تتماهى مع الجماعة وينصهر الفرد فيها.

أصدر أول ديوان بعنوان “أغاني المساء” عام 1877، فلقي نقدا مشجعا وأثنت عليه الأوساط الأدبية، لذلك تشجع على إصدار ديوانه الثاني فكان “أغاني الصباح” مع إغراقات رمزية ودلالية تحتاج إلى تفسيرات وتأويلات يبتغيها المعنى المراد لكاتب ظامئ للعلم والمعرفة، لاكتشاف حيوات جديدة وسبر الأغوار في النفس البشرية، ولثقافات أخرى وحضارات بعيدة.

توسد شاعر الهند الطبيعة، تأمل فيها، أغرق في الطبيعة الهندية، كتب عنها في شتى الأجناس الأدبية التي وصل قلمه إليها، كما اطلع على ثقافات أخرى في ترحاله عندما زار أمريكا ثم عاد إلى لندن عام 1912 مع ابنه، وفي طريقه بدأ يترجم إلى الإنجليزية لأول مرة، وكان ذلك ديوانه “قرابين الغناء”[4]، فتوّج ذلك بمنحه نوبل عام 1914.

منحه الملك البريطاني جورج الخامس (1865 – 1936) رتبة فارس، لكنه تخلى عن الوسام بعد مذبحة أمريستار احتجاجا على الممارسات البريطانية التي قاومها بشِعره ومقالاته وكتاباته.

امتلك طاغور صوتا شجيا مزج فيه بين الموسيقى والغناء مستفيدا من حياته في لندن، حيث تعرف إلى الأغاني والألحان الغربية التي اقتبس منها موسيقاه وألحانه مع خلطها بالهندية، فقد وضع أكثر من ألفي أغنية (يقال ثلاثة آلاف) بنى عليها الهنود في موسيقاهم المعاصرة، كما أخذت عنه الهند وبنغلادش نشيديهما الرسميين.

امتلك طاغور صوتا شجيا مزج فيه بين الموسيقى والغناء مستفيدا من حياته في لندن

 

شعر إنساني رمزي

جاب العالم مستمرا في الترحال في أوروبا والشرق الأقصى وأمريكا وأفريقيا، يدافع عن الإنسان، آمن به، متجليا في إنسانيته بغض النظر عن دينه أو عرقه أو جنسه، قدّسه لأنه قدرة القادر والصورة التي تجلت فيها عظمته، فلا يجوز للإنسان أن يتجرد من شفقته ورحمته، داعيا إلى التآخي في الإنسانية متأثرا ببيئة هندية أمسكت بهذه الفكرة منذ زمن للخلاص من التعصب العرقي والديني الموجود فيها، ساعيا إلى السلام العام.

ارتكز على ذلك في أعماله الأدبية، مناصرا الحرية الدينية، آخذا بضرورة وجود علاقة وثيقة مع البيئة الثقافية والطبيعية للفرد تجلت في شعره ورواياته وقصصه بواقعية تحكي مشاكل الإنسان وهمومه وعلاقاته الاجتماعية، وهاجم الإجماع الذي كان –برأيه- دائما على باطل، كما غدا مصلحا ثقافيا ارتقى بالفن البنغالي من خلال رفض القيود التي حصرته في مجال الأشكال الهندية الكلاسيكية.

كما أن شعره تأثر بالرمزية، صوّره بها، ألقى بالأساطير فيه لتدلل على المغزى حتى يخوض القارئ في الرمز، ليصير المعنى هدفا يُنشد من الداخل، مما وراء الكلام، لإدراك المعنى، فتنقشع التقليديات ويحلق الإبداع في عالمه، فجاء شعره روحانيا زئبقيا، اصطدم به مع آينشتاين باعتباره صداما بين العلم والروحانية[5].

أقام طاغور فلسفته على أن البعث الجديد سيأتي من الشرق

 

وحدة الوجود

أقام طاغور فلسفته على أن البعث الجديد سيأتي من الشرق، فلا بد للحضارة أن تقوم مرة أخرى بروح شرقية تعتمد الروح، وتزيح النفس المادية التي تنهض على الجسم المادي، فالمدنية الغربية القائمة على القوة المادية لا تغري طاغور ولا يؤمن بها، لأن المادية زائلة، أما الروح فتبقى في الجسد المادي تنمو وتسمو وتتغذى، وعندما يفنى الجسد المادي تعود الروح إلى العالم الأعلى، وعند الموت تنفصل الروح عن الجسد ويلتحق كل منهما بعالمه التابع له أساسا.

نظر إلى العالم على أنه غير منفصل الأجزاء، وأنه وحدة مع الله. الله كائن في المادة وهي كائنة فيه، فالله ليس ذاتا منفصلة.

نفذ ببصيرته إلى النفس الإنسانية، استخرجها، استل منها المعارف القائمة على الهند القديمة المستمدة من تراثها وثقافتها وحضارتها، استنبط منها حقائق وأفكارا استخدمها في تأويل فلسفته، واستدل بأن طول التأمل يصفي الروح والتفكير بالخلق وعوالمه، فتموت الشهوات وتصل النفس الإنسانية إلى اللذة والسعادة الفردية، والتي هي طريق السعادة الجماعية، فنظام الوجود هو الاندماج في الوحدة، يبدأ بالاندماج في الطبيعة، حتى الاندماج باللانهاية، والذي هو أمجد الأشياء والمبدأ الأعلى في الوجود.

في كهولته انتقل إلى التصوير والرسم الغريب الذي يحتاج إلى جهد وفكر ثاقبين لإدراك المعنى

 

رسم غريب وانطفاء الشمس

وصفه غاندي بأنه “منارة الهند”، كما أن طاغور لقّب غاندي بالمهاتما (الروح العظيمة)، ساد احترام متبادل بينهما، فقد أعجب بغاندي زعيما سياسيا وشخصا قياديا ذا أفكار ورؤى تحررية، لكن ذلك لم يمنع من ظهور مناظرات بينهما، فقد تبادلا وجهات نظر مختلفة تماما عن العلم والقومية والتنمية الاجتماعية والاقتصادية والوطنية، فلم ينتقد طاغور غاندي شخصيا، لكن أفكارهما تباينت في نقاط متعددة[6].

 في كهولته انتقل إلى التصوير والرسم الغريب الذي يحتاج إلى جهد وفكر ثاقبين لإدراك المعنى، فلوحاته الأولى أعمال مبتكرة، وعادة ما تركز على الحيوانات أو المخلوقات الوهمية التي تشوبها الحيوية والفكاهة. أما الشخصيات البشرية فصوّرها أفرادا يحملون إيماءات معبرة أو في مجموعات في أماكن مسرحية. وفي اللوحات التي رسمها خلال ثلاثينيات القرن العشرين يجسّد الوجه الإنساني بطريقة تذكرنا بقناع أو شخصية[7].

شحبت “الشمس المشرقة” أواخر ثلاثينيات القرن العشرين وبدأ يخفت نورها حتى انطفأت في الثامن من أغسطس/آب عام 1941.

 

المصادر:

[1] رابندرانات طاغور، روائع في المسرح والشعر، ترجمة بديع حقي، ط 2 (دمشق: دار المدى، 2010)، ص 8.

[2] المرجع نفسه، ص 11. للمزيد عن سيرته راجع المقدمة فيه.

[3] “Rabindranath Tagore: Biographical”, The Nobel Prize, accessed on 4/5/2019, at: https://bit.ly/2H1uwq4

[4] رابندرانث طاغور، قرابين الغناء، ترجمة ظبية خميس، سلسلة الشعر 1195 (القاهرة: المركز القومي للترجمة، 2008)، ص 8.

[5] “Rabindranath Tagore”, Cultural India, accessed on 4/5/2019, at: https://bit.ly/2GUPyWb

[6] “Friendship and love: A glimpse into Rabindranath Tagore’s personal life”, 7/5/2018, accessed on 4/5/20149, at: https://bit.ly/2ZXEJuX

[7] “Rabindranath Tagore: Poet and Painter”, Victoria and Albert Museum, accessed on 4/5/2019, at: https://bit.ly/2DOUE5l


إعلان