نيلسون مانديلا.. البطل الأخير
كان نيلسون مانديلا يتجول مع الأمير تشارلز في عام 1996 في حي بريكستون المتعدد الأعراق الذي يقع جنوب لندن، حيث استقبله حشد كبير من اللندنيين السود والبيض. وبينما يسير مانديلا ببطء خلال الحشد، وقف الأطفال ينظرون إليه بإعجاب، ويمدون أيديهم ليلامسوه.
اتجه بعدها إلى ساحة “الطرف الأغرّ” التي يحتل أحد جوانبها مبنى مجلس جنوب أفريقيا، وهو القلعة القديمة للتمييز العنصري التي صارت الآن رمزا للتحرر، وقتها أُغلقت الساحة في وجه حركة المرور، واكتظت بالناس الذين يرتدون قمصانا طبعت عليها صورة مانديلا، ويحملون الأعلام الخفاقة.
ظهر مانديلا على شرفة مبنى مجلس جنوب أفريقيا، ليبدو كأنه البابا يبارك الجماهير أكثر من كونه سياسياً يحييهم قائلا “أود أن أضع كل واحد منكم في جيبي”.. قالها مانديلا متحدثا عن الحب دونما ارتباك، ويضيف “أنا لست متشنجا ولا خائفا من الحب، فالحب عظيم الإلهام”.
لقد كان ظاهرة وقتها اجتاحت العالم، دون أن يكون هناك وسائل تواصل اجتماعي. وفي الوقت الذي كان العالم يشهد صراعات قوية وكرهاً للسياسة وأصحابها، فإن مانديلا كان بالنسبة لهم بطلاً نادراً، بل آخر الأبطال الذين غيروا العالم ودربوا قلبه على الإنسانية ونبذ العنصرية. ولم يكن هذا الحب في بريطانيا وحدها بل في أوروبا وأمريكا وآسيا.
المحامي الصلب والفخور الثائر
وقد ظهر مانديلا في هذه المرحلة من عمره بشكل مختلف عن شبابه إذ عُرف وقتها بأنه المحامي الشاب الصلب، والفخور الثائر في جوهانسبيرغ في فترة الأربعينيات والخمسينيات حيث كان يعمل في وظائف متنوعة، ومن ثم التحق بجامعة جوهانسبيرغ لدراسة القانون، وسرعان ما انخرط في الحركات المناهضة للفصل العنصري في البلاد، وانضم إلى حزب المؤتمر الوطني الأفريقي سنة 1942.
وقد عمل بالتعاون مع مجموعات شبابية أخرى على تحويل الحزب إلى حركة شعبية تستمد قوتها من صفوف الفلاحين والعمال، ووجدوا أن الأساليب المتبعة غير مجدية إطلاقا، لذلك تبنى الحزب سنة 1949 سياسة جديدة تعتمد على الإضراب والعصيان المدني والمقاطعة حتى تحقيق جميع الأهداف المتمثلة في تمتع السود بالمواطنة الكاملة، وإعادة توزيع الأراضي بينهم وبين البيض، وتمتعهم بالحقوق النقابية، فضلا عن إلزامية التعليم ومجانيته لجميع الأطفال.
وهكذا نجد المحامي الشرس -الذي كان ينظر بريبة إلى عالم البيض العدائي، والذي كان يلقي الخطب العنيفة الصاخبة يشجب فيها الإمبرياليين البريطانيين- قد تغير، وتحولت ابتسامة ذلك الشاب المشرقة وحماسته إلى نظرة جدية عابسة لكنها مرحبة تنم عن الدفء الأصيل، وحين كان يسأله أحدهم عن هذا التغيير يجيب ضاحكا “ربما لأني كنت عندئذ في موقف دفاعي”.
وبالفعل كان مانديلا قد مر بمواقف حاسمة وصعبة جعلت قناعاته ووسائله تختلف من مرحلة إلى أخرى، خاصة على مستوى النضال، فقد كان مانديلا مؤمنا بالخيار السلمي، لذلك قاد حركات الاحتجاج والنشاطات السلمية ضد الحكومة وسياساتها العنصرية، مما دفعها إلى اعتقاله مع 150 شخصا آخر، ووجّهت لهم تهمة الخيانة العظمى، ولكنه سرعان ما خرج نتيجة ضعوط شديدة على الحكومة من قبل المحتجين.
وكان حزب المؤتمر الوطني الأفريقي في الوقت ذاته يعاني انقساما داخليا نظرا لأن بعض أعضائه كانوا يرون أن النشاطات السلمية لم تعد مجدية في وجه سياسات القمع والتعسف للحكومة.
من المقاومة الشعبية إلى الكفاح المسلّح
ومن هنا تغير مسار كل شيء، فقد أعلنت الحكومة عام 1961م أنّ دولة جنوب أفريقيا جمهورية للبِيض، ودعا مانديلا جميع المنظمات الدولية إلى مقاطعة الحكومة التي كانت ردة فعلها عنيفة وعنصريّة، ممّا دفع مانديلا للاختفاء والعمل السريّ.
وفي العام نفسه أسس الجناح المسلّح لحزب المؤتمر الأفريقي المعروف باسم “أومكونتو وي سيزوي” أو “رمح الأمّة”، واعتنق الفكرة القائلة بأن الكفاح المسلح هو السبيل الوحيد لتحقيق التغيير المنشود.
وقاد مانديلا في ذات السنة إضراب العمال الذي استمر ثلاثة أيام، كما توجه إلى دول أفريقيّة أخرى للحصول على الدعم، فسافرَ إلى بوتسوانا وتنزانيا ومصر والجزائر والمغرب، ثمّ اتجه لبريطانيا وإثيوبيا، وعندما عاد إلى بلاده ألقت الحكومة القبض عليه عام 1962 بتهمة التحريض ومغادرة البلاد بطريقة غير شرعيّة، وصدر عليه حكم بالسجن خمس سنوات، ثم أعيدت محاكمته في محكمة ريفونيا بتهمة الأعمال التخريبيّة والسعيِ لقلب نظام الحكم بالعنف، وحُكم عليه بالسجن مدى الحياة.
السجن مدى الحياة
أمضى مانديلا بصحبة بقية المتهمين من قادة حزب المؤتمر الوطني الأفريقي في جزيرة روبن 18 عاما من أعوام سجنه البالغة 27، قبل نقله إلى سجن بولسمور عام 1982، وهناك أصيب بالسّل نتيجة الرطوبة الشديدة وظروف العيش غير الصحية، فلم يحظَ بالمعاملة الطبية المناسبة نظرًا لأنه سجين أسود، لكن ذلك لم يقف حائلًا أمام طموحه الجامعي، فحصل على درجة البكالوريوس في القانون عبر نظام المراسلة مع جامعة لندن.
يقول مانديلا عن السجن في كتابه “رحلتي الطويلة من أجل الحرية”، “في غضون شهر استقرت حياتنا على روتين ثابت، فالروتين هو الطابع الأساسي لحياة السجن، كل يوم كسابقه، وكل أسبوع كالأسبوع الذي مضى، وتتداخل الشهور والسنون، وكل ما يخرج عن هذا النمط يثير إزعاج السلطات، فالروتين هو علامة السجن الناجح، كما أن الروتين مريح للسجين، وهذا ما يجعله فخا خطيرا كذلك، ويعين على مرور الوقت بسرعة، الساعات بكل أنواعها ممنوعة في الجزيرة، فلم نكن نعرف الوقت بالتحديد، وكنا نعتمد على الأجراس وصفارات الحراس وصيحاتهم في تحديده، بل كنا نجد صعوبة في تحديد اليوم والشهر أحيانا، لذلك كان أول ما قمت به كتابة تقويم على جدار الزنزانة لأن فقدان المرء لحاسة الزمن يجعل من السهل عليه أن يفقد عقله. في السجن تخف حركة الزمن.. إن الدقائق في السجن تمر كأنها سنون، بينما تمر السنون وكأنها دقائق”.
وقد أجرى في السجن محاورات مع شخصيات سياسيّة، ورفضَ أن يكون خروجه من السجن مشروطاً، ففي سنة 1985 عرض الرئيس بيتر ويليام بوتا على مانديلا الحرية مقابل تخليه عن الكفاح المسلح، لكنه رفض ذلك. وتوالت جلسات التفاوض بين الحكومة ومانديلا دون تحقيق أي اتفاق.
وقال يومها في خطاب للجماهير ألقته بالنيابة عنه ابنته زيندزي في العاشر من فبراير/شباط 1985 وسط هتاف الجماهير الذي لم يسمح لهم القانون في جنوب أفريقيا بسماع خطب مانديلا لمدة عشرين عاما “إنني لأستغرب للشروط التي تعتزم الحكومة أن تقيدني بها، فأنا لست برجل عنف ولم نلجأ إلى النضال المسلح إلا عندما سُدت في وجهونا جميع أبواب المقاومة الأخرى، فليُرنا بوتا أنه يختلف عن أسلافه وينبذ هو العنف وليعلن أمام الملأ استعداده للقضاء على نظام التفرقة العنصرية، وليرفع الحظر عن منظمة كل الشعب؛ حزب المؤتمر الوطني الأفريقي، وليطلق سراح كل المسجونين والمبعدين. إن الأحرار وحدهم هم القادرون على التفاوض، أما السجناء فلا حق لهم في أن يبرموا الاتفاقيات. وعليه فلن أتعهد بشيء ما دمت لا أملك حريتي، وما دمتم أنتم يا أبناء هذا الشعب لا تملكون حريتكم، فحريتكم هي حريتي ولا يمكن الفصل بينهما.. إني عائد”.
من ظلمة الزنازين إلى سدة السلطة
وفي عام 1990 أُطلقَ سراح نيلسون مانديلا دونَ أية شروط، بعد أكثر من 27 عاماً في السجن، وإلغاء أحكام الإعدام في البلاد، فضلا عن إزالة جميع القيود المفروضة على الأحزاب السياسية، بما في ذلك حزب المؤتمر الوطني الأفريقي.
وانتُخب نيلسون مانديلا رئيسًا للمؤتمر الوطني الأفريقي سنة 1991، وتفاوض مع رئيس البلاد آنذاك -وهو آخر رئيس في نظام التمييز العنصري بجنوب أفريقيا فريدريك ويليام دي كليرك- على إجراء أول انتخابات متعددة الأعراق في البلاد، وبذلا معاً جهوداً للتخلص من النظام العنصري، مما جعلهما ينالان مناصفة جائزة نوبل للسلام عام 1993.
وهكذا أُجريت أول انتخابات ديمقراطية في البلاد بتاريخ 27 أبريل/نيسان 1994، ليصبح بذلك مانديلا أول رئيس أسود في تاريخ جنوب أفريقيا بعد أن خرجت من نظام التمييز العنصري وتبنت دستوراً جديداً تعددياً.
وفي سنة 1999 قرر مانديلا التقاعد فلم يترشح لفترة رئاسية ثانية، وركز على الأعمال الخيرية من خلال مؤسسة مانديلا الخيرية لمكافحة الإيدز، وصندوق نيلسون مانديلا للطفولة، واختارته الأمم المتحدة سفيرا للنوايا الحسنة عام 2005، إلى أن توفي في الخامس من ديسمبر/ كانون الأول عام 2013 بجنوب أفريقيا بعد صراع طويل مع المرض.
وودعه شعبه بالدموع والزهور، وحضر جنازته عدد كبير من قادة العالم، وأعلنت دول كثيرة الحداد حزناً عليه، وبقي أيقونة تاريخية للتسامح والنضال والحرية إلى جانب مارتن لوثر كينغ وغاندي والأم تيريزا.
المصادر:
1 مانديلا، نيلسون، رحلتي الطويلة من أجل الحرية، Spal publishers، South Africa ، 1998
2 سامبسون، أنطوني، مانديلا السيرة الموثقة، العبيكان، المملكة العربية السعودية، 2001
3 خضر، مجد، من هو نيلسون مانديلا، موضوع أكبر موقع عربي، 2018 https://mawdoo3.com/%D9%85%D9%86_%D9%87%D9%88_%D9%86%D9%8A%D9%84%D8%B3%D9%88%D9%86_%D9%85%D8%A7%D9%86%D8%AF%D9%8A%D9%84%D8%A7?fbclid=IwAR1tQoPc0hafei9spTZfCzfiS69ECPfaO9e0ElvQbMXSxB0400R5ogAv4xQ
4 Arageek، من هو نيلسون مانديلا، 2018، https://www.arageek.com/bio/nelson-mandela?fbclid=IwAR3T6dLwobs7Nddkj6XMfCk0WBAFJS2i8qtlcxc6EXYojqQB7lEy7CJTrKA
5 الجزيرة نت، نيلسون مانديلا، 2014 https://www.aljazeera.net/encyclopedia/icons/2014/10/16/%d9%86%d9%8a%d9%84%d8%b3%d9%88%d9%86%d9%85%d8%a7%d9%86%d8%af%d9%8a%d9%84%d8%a7?fbclid=iwar35kzbzb7uavfelk-xp3ibz5gznelq5xag4bgdj1zfmkmltjsfgilnr-6m