الطاهر حداد.. كفّره علماء الزيتونة وانتشرت أفكاره بعد وفاته
حبيب مايابى

اعتنق الأفكار التحررية في طفولته، وطالب بخلْع حجاب المرأة وسحْبِ حق الطلاق من الرجل، ونادى بإصلاح مؤسسة الزيتونة التي اعتبرها حوزة لممارسة الطبقية وتوارث المناصب الدينية، فكان ذلك سببا في الحكم عليه بالكفر والمنع من الزواج ومصادرة الكتب.
الطاهر حداد كاتب وسياسي ومفكر اجتماعي، وأحد دعاة التحديث والمناضلين التونسيين الذين سخروا أقلامهم للتوعية والتثقيف من أجل مناهضة المستعمر، وعانى في حياته بسبب مواقفه الفكرية وانتماءاته السياسية.
وقد أنتجت الجزيرة الوثائقية فيلما بعنوان “الطاهر حداد” يحكي قصة أفكاره التحررية الجريئة التي جعلته معزولا في آخر حياته يصارع المرض ونظرة المجتمع القاسية.
النشأة في الزيتونة
لعائلة فقيرة من ريف الجنوب التونسي أبصر الطاهر الحداد نور الحياة سنة 1899. وهروبا من بؤس الفقر ورغبة في تعليم الولد علوم شرع الله، غادرت العائلة ديارها وحطت رحلها بالعاصمة لتجاور منازل العلماء بالزيتونة، لكن المرض كان أبرز مستقبل لوالدهم حيث قضى عليه بعد فترة وجيزة من قدومه.
تذوَّق الطاهر مرارة اليتم والغربة والفقر في بداية مشواره، إلا أن ذلك لم يمنعه من الدخول بين صفوف الطلبة في رحاب أعرق مؤسسة للعلوم الشرعية في البلد. كما مارس النضال في جامع الزيتونة حيث رفض الإقصاء والتهميش وعدم المساواة بين الطلبة.
وفي حديثه للجزيرة الوثائقية يقول صاحب كتاب تاريخ التكفير في تونس شكري المبخوت “كان الحدّاد في الزيتونة ثائرا لأنه ينتمي إلى الجيل المقصي، فبعض الطبقات تتوارث العلم والمناصب في تلك المؤسسة”.
وبعصاميته وجهود أمه واصل تعليمه حتى حصل على شهادة التطويع التي تخوله العمل في ميادين مختلفة.
وفي بداية مسار المهنة عمل ماسكا للدفاتر في الجمعية الخيرية بالعاصمة لكنه كان شغوفا بمهنة المتاعب التي تُعتبر حينها حاضنة للمثقفين وأصحاب الأفكار المؤثرة.

النضال السياسي والنقابي
كانت تونس بعد الحرب العالمية الأولى تعيش غليانا فكريا بسبب انتعاش الحركة الإعلامية وصعود الحركات التحررية، فاستوعب الحداد اللحظة التاريخية التي يعيشها ورمى بثقله في ساحة معارك الأقلام والخطابات.
وفي سنة 1918 بدأت مقالاته تُنشر في جريدة الأمة وبعض الصحف الأخرى، وكان قلمه سيالا بالأفكار الشائكة مبتعدا عن الديماغوجية (إستراتيجية لإقناع الآخرين بالاستناد إلى مخاوفهم وأفكارهم المسبقة) في الطرح والتحليل فذاع صيته بين القراء والنخب السياسية.
ربطه الإعلام بعلاقات وثيقة بعبد العزيز الثعالبي وهو مناضل بارز ضد الاستعمار الفرنسي، فناصره عندما اعتقل إثر دعوته لقراءة القرآن بنظرة تحررية.
وعندما أُسِّس الحزب الحر الدستوري اصطفاه رئيسه ليكون مكلفا بالدعاية والإعلام، لكن التنظيم السياسي لم يعمر طويلا، حيث واجهته الحماية الفرنسية وتم تغييب قياداته وذهب رئيسه للمنفى.
ظل الحداد يناضل من خلال المنابر الإعلامية فكتب رسالة في إصلاح الزيتونة ونشر مقال الحاكم المعبود.
وبعد قدوم محمد علي الحامي من مكان دراسته في ألمانيا صحبه الطاهر الحداد وتأثر به كمصدر جديد يحمل أفكارا من بلدان تعيش الحداثة وتعرف معنى الاستقلال.
شَكَّل الحامي نقابة التونسيين التي تهدف لمساواة العمال التونسيين والفرنسيين في ظل قيادة من أبناء البلاد، وتولَّى الثائر الترويج لها من خلال الكتابات وإلقاء الخطب بين صفوف العمال، وتصدى للموجة الإعلامية التي شنها المستعمر عليها.
وبعد الإضرابات العنيفة التي قادها النقابيون الجدد تم التنكيل بالمتظاهرين وسجن منهم الكثير، فوثَّق الحداد عمل الهيئة وأهدافها في كتاب نشره سنة 1927 بعنوان “العمال التونسيون وظهور الحركة النقابية”، فصادرته سلطات الحماية الفرنسية ومنعت تداوله.
ولم يكن الشاب الطموح مثقفا وثائرا على المستوى الفكري فقط، وإنما كان مناضلا ومشاركا بقوة في الدفاع عن كل ما يؤمن به.
ويقول عبد الجليل بوقرة الخبير في التاريخ السياسي التونسي للجزيرة الوثائقية “الحداد كان ثوريا ومثقفا عضويا بمعنى أنه لا يكتفي بالتنظير وتوجيه المجتمع كبقية المثقفين وإنما كان يشارك الناس في النضال والنزول لميدان الساحة والمواجهة”.

الحجاب إرهاق للمرأة
بعدما يئس الحداد من جدوى النضال السياسي في تنوير المجتمع، رأى أن الأزمة لا بد من علاجها من الجذور، فبدأ يكتب عن إصلاح التعليم والتركيز على دور المرأة في المجتمع الذي لا يمكن أن يتجسد إلا من خلال إعطائها فرصة لمسايرة ركب الحضارة والتكيف مع قاطرة الزمان.
وفي هذه الحقبة ظهرت مجموعة ثقافية تتخذ من الأدب وسيلة للتوعية وبث روح التحرر فكانت تضم أبو القاسم الشابي في الشعر، وعلي الدوعاجي في القصة والمسرح، والطاهر حداد في الفكر الاجتماعي.
وفي سنة 1931 نشر الطاهر حداد كتاب “امرأتنا في الشريعة” الذي أثار ضجة كبيرة في المجتمع التونسي بسبب أفكاره الجريئة والخطيرة.
فقد ناقش الكتاب مسألة الحجاب واعتبر أنه إرهاق للمرأة، ورأى ضرورة مساواتها في الميراث مدعيا أن أحكامه ظرفية تخضع للزمان والمكان وليست أبدية، ومن نفس الزاوية كان ينظر لمشكلة الطلاق التي اعتبرها ليست عقدة في يد الرجل يحلها متى شاء، وإنما يقع بأحكام المحاكم وليس بأقوال الرجال.

الصدام مع المجتمع
أحدث كتاب “امرأتنا في الشريعة” ضجة في عموم البلاد وخارجها وانتشر بين الناس. وكان علماء الزيتونة بالمرصاد لأخطاء الحداد لأنه طالما كتب في انتقاد مؤسستهم، وعندما نشر كتابه أصدرت هيئة الفتوى بيانا بارتداده وخروجه من الملة، فأصبحت الردود والمعارك شخصية وليست فكرية، حسب تعبير آمنة الرميلي صاحبة كتاب “المرأة في فكر الطاهر بن حداد”.
وبين رؤية تقليدية يمثلها علماء الزيتونة ويتبناها المجتمع، وأخرى حداثية يمتلكها صاحب الكتاب ويؤمن بها قلة من الناس؛ أصبح من الطبيعي أن يكون هنالك تصادم وتغاير في الأفكار.
وقد تسبب الكتاب في سجال بين أصحاب الأقلام، فكتب الزعيم الصاعد حينها الحبيب بورقيبة مقالا بعنوان “التمسك بالحجاب جزء من الهوية”، وزاد النقاش والصخب حول موضوع المرأة حتى كتب مفتي الجمهورية الأكبر الشيخ صالح بن مراد كتابا بعنوان “الحداد على امرأة الحداد”.
سُحب كتاب “امرأتنا في الشريعة” ومُنع من التداول وفصل صاحبه من العمل وأصبح منبوذا في المجتمع، لدرجة أنه إذا خرج في الشارع يتعرض للسباب والضرب.
كان الحداد مؤمنا بأفكاره ويقول “إن الإنسان لا يخرج من دينه إلا إذا أراد هو”. ورغم قوته وإيمانه بأفكاره فإن أزمة كتابه فرضت عليه الانزواء والخروج بعيدا عن الأضواء لأنه لم يصبح مقبولا بين مجتمع محافظ يعتقد أنه تجاوز الأخلاق والهوية إلى الدين ومقدساته.
عاش أزمات نفسية ومتاعب صحية حتى قضى نحبه بمرض السل في 7 ديسمبر/كانون الأول عام 1936 ولم يخرج في جنازته إلا قليل من المودعين.
دخل الحياة بهدوء وخرج منها على استحياء، لكن عمره الذي لم يتجاوز مرحلة الشباب كان صاخبا وثريا بالنضال والأفكار التي قد تكون سابقة لزمانها كما قال عنه طه حسين عندما قرأ كتاباته “لقد عاش قرنين من الزمن قبل زمانه”.
وبعد عقود من وفاته وجدت أفكاره في تونس سبيلا للتطبيق فأقيمت حوله الندوات والملتقيات، وسميت به الشوارع والمكتبات، وبدأت كتبه تُنشر من جديد.