راتكو ملاديتش.. “جزّار البلقان” الذي أقسم على إبادة المسلمين والأتراك
في مثل هذه الأيام من سنة 1995 كانت قرية سربرنيتسا الواقعة في أقصى شرق البوسنة على موعد مع ما أسمته الأمم المتحدة أسوأ عملية إبادة جماعية بعد الحرب العالمية الثانية، كان ضحيتها 8300 شخص من أطفال ورجال المسلمين البشناق على يد القوات الصربية وقائدهم راتكو ملاديتش أو “جزار البلقان” كما يطلق عليه، وذلك بسبب الفظاعات التي ارتكبها خلال قيادة قوات صرب البوسنة في حق المسلمين بهدف تطهير منطقة وادي نهر درينا؛ أي الجزء الشرقي للبوسنة المحاذي لصربيا والمحيط بنهر درينا، بشكل كامل من المسلمين.
ومن مفارقات التاريخ أن قرية سربرنيتسا كانت تعتبر من المناطق الآمنة المنزوعة السلاح والخاضعة لحماية الأمم المتحدة، كل هذا لم يمنعها من أن تتحول لمقبرة للآلاف من المسلمين، تنفيذا لتعليمات الجنرال ملاديتش، الذي كان يصرخ في وجه جنوده بضرورة تطهير المنطقة من المسلمين وبأي ثمن، وكان الثمن هو مجزرة بشعة، تصفها صحيفة غارديان البريطانية بأنها جريمة لا تضاهيها سوى جرائم النازية.
وإذا كانت الكثير من تفاصيل حرب البوسنة معروفة فإن ما يهمنا هنا هو البحث في شخصية راتكو ملاديتش وتاريخه وكيف كان يبرر لنفسه قيادة أبشع عملية تطهير عرقي في أوروبا ما بعد الحرب العالمية الثانية، وكيف كان كُره المسلمين والأتراك خصوصا وقود حملته العنصرية.
ورغم إدانته من طرف محكمة الجنايات الدولية بالسجن المؤبد مدى الحياة، فإن الرجل مازال مصرا على أن ما قام به هو من أجل خدمة بلاده، كما تكشف وقائع اعتقاله بعد 15 عاما من انتهاء الحرب، تواطأً من مسؤولين في بلاده وأيضا من بعض القوى الدولية، لترك الرجل حرا دون عقاب.
طفولة من الكراهية ضد “الأتراك”
ولد راتكو ملاديتش في قريد نائية اسمها بوزينوفسي في الجنوب الشرقي للبوسنة خلال الحرب العالمية الثانية، لوالد من القوميين اليوغسلافيين المتعصبين، وهو أيضا قائد عسكري قتل في إحدى المعارك على يد الحركة الفاشية المتطرفة أوستاشا التي كانت تحظى بدعم من النازية وارتكبت مجازر عديدة ضد من قاوم الاحتلال النازي والفاشي وقتلوا مئات الآلاف من الصرب والغجر ومختلف الأقليات، وتطالب بتأسيس كرواتيا الكبرى المكونة من عنصر كرواتي نقي من خلال اللجوء إلى التطهير العرقي.
ومن الغريب أن العنصرية والتطرف اللذين كانا السبب في قتل والد ملاديتش جعلته يتيم الأب وهو يبلغ من العمر سنتين فقط، لم تدفعه للابتعاد عن أفكار التطهير العرقي، بل على العكس نشأ في بيئة من الكراهية ضد الألمان والكروات والمسلمين، وترسخت هذه الأفكار في عقل ملاديتش عندما اضطر للالتحاق بالأكاديمية العسكرية وهو في سن الـ15، بعد أن خاب أمله في دراسة الطب بسبب الحالة المادية الصعبة لأسرته.
وبسرعة تأقلم مع محيطه العسكري وأصبح مزهوا بارتداء زي القوات اليوغوسلافية، كما حاز على لقب “أتيلا” الملك الذي عاش في القرن الخامس وأسس إمبراطورية شاسعة في روسيا وأوروبا وكانت عاصمتها هنغاريا حاليا، وهو تشبيه مرده -حسب عدد من الذين عاشوا مع ملاديتش- إلى التشابه بين الشخصيتين من حيث العجرفة والغطرسة وحب الحرب.
إجرام.. بشكل مؤسسي
وقد تكرست هذه الصفات مع مرور الزمن عند الجنرال الصربي وسببت له العديد من المشاكل حتى داخل المؤسسة العسكرية المعروفة بالانضباط، حيث حُرم من الترقية في العديد من المرات بسبب سوء سلوكه، وبلغت المشاعر القومية عند ملاديتش ذروتها مع الانهيار الذي شهدته يوغوسلافيا بعد وفاة زعيمها تيتو، ففي تلك الفترة طفت النزعات القومية على السطح ومعها عاد التعصب العرقي لملاديتش الذي رأى أن الفرصة مواتية للانتقام لوالده وإظهار حجم كراهيته للمسلمين الذين كانوا يمثلون بالنسبة له امتدادا للأتراك ووجب التخلص منهم.
ومع بداية الحرب سنة 1991 كُلف بتنظيم وقيادة الحركة الصربية الانفصالية، ومَن أفضل منه يمكن أن يدافع عن هذا المشروع وهو المحمل بكل الأفكار المتطرفة لصالح الصرب. وبالفعل لم يدخر جهدا من أجل إحياء فكرة صربيا الكبرى، يدفعه إحساس بالمظلومية وبأن شعبه قد تعرض للكثير من الحيف وحان وقت استرجاع هيبة الصرب والانتقام من كل من ساهم في مأساة شعبه.
وقد عبرت هذه الطاقة من الحقد عن نفسها من خلال العمليات العسكرية البشعة ضد كل مخالف لحركة الانفصال، وكان دائما ما يبرر بشاعة أعماله بأن “الصرب كانوا يشعرون وكأنهم حيوانات في المسلخ وحان وقت استرجاع هيبتهم”.
ولشحذ همة جنوده كان يردد على مسامعهم “أينما وجد قبر لصربي فهي أرض صربية”، ويضيف بأن “الجيش الصربي هو الجيش الأفضل في أوروبا ولا يشبه حفاة الأقدام في الصومال”، وهو شعار يعكس رغبة الرجل ومنذ البداية في تنفيذ عملية تطهير عرقي ضد كل ما لا يحمل العرق الصربي، وكان ألذ أعدائه هم المسلمون الذين يعدون الحلقة الأضعف في الصراع.
“أنت مسلم.. إذن ستموت”
وأمام الهوس الذي أظهره ملاديتش بفكرة صربيا الكبرى والتعصب لعرقه، لم يجد الرئيس الصربي سلوبودان ميلوزوفيتش أفضل من ملاديتش ليسلمه سنة 1992 قيادة القوات الصربية في البوسنة، ورقي إلى رتبة عماد في مايو/أيار من السنة نفسها بعد شهر واحد فقط من إعلان جمهورية البوسنة استقلالها وانفصالها عن الاتحاد اليوغسلافي، حيث قام ملاديتش وقواته بمحاصرة العاصمة سراييفو وقام بقصفها عدة مرات بالمدفعية الثقيلة، فضلا عن تعرض سكانها للقنص العشوائي.
ووجد الجنرال السفاح الظروف مواتية للاستفادة من تفكك الجيش اليوغوسلافي وشكل جيشا بعتاد قوي هو الذي مكنه من القيام بحملته العسكرية ضد البوسنة، ومكنه عامل المباغتة من السيطرة على 70% من الأراضي خلال ثلاثة أشهر.
وتقول صحيفة لوفيغارو الفرنسية، إن ملاديتش تحول لمهندس أسوأ حملة تطهير عرقي في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، وتضيف أنه كان يأمر قواته بإعدام وتعذيب واغتصاب عشرات الآلاف من الناس والسبب هو أنهم ليسوا صربا، وكان يقسم دائما أن يمحي أثر الحضارة الإسلامية من البوسنة حتى تصبح الأرض كلها لصربيا، وكان هذا القسم يلهب حماس جنوده المتعطشين للدم ويدفعهم لارتكاب جرائم أبشع في حق المدنيين من المسلمين.
ومن بين ما رصدته المخابرات البوسنية خلال حصار الصرب لسراييفو هو توجيهه الأوامر لجنوده بإطلاق النار الكثيف “أطلقوا النار يجب أن نجعلهم مجانين”، هكذا كان يردد الجنرال وهو في عز حملته التطهيرية ضد سراييفو المعروفة بتنوعها الثقافي والعرقي، وهو ما يتعارض مع فكرة النقاء العرقي التي كان يؤمن بها ويسعى إليها.
“حان وقت الانتقام من الأتراك”
في سنة 1993 تم ضم مدينة سربرنيتسا للمناطق الآمنة الخاضعة لحماية قوات القبعات الزرقاء التابعة للأمم المتحدة، وبثت الأخيرة عبر مكبرات الصوت رسائل الأمان لسكان المدينة وحماية المدنيين، وكان من بين شروط ضم سربرنيتسا هو أن يسلم المسلمون في المدينة أسلحتهم، تحت مبرر عدم استثارة الصرب وزيادة التوتر.
ورغم كل التنازلات التي قدمها المسلمون، لم تشفع لهم في وقف زحف قوات ملاديتش التي كان يرى في هذه المدينة عقبة أمام حلمه الأسود في تطهير المنطقة. وبعد حصار ممنهج للمدينة، أعطى الجنرال الأمر لقواته لاقتحامها وإعدام كل الرجال، معلنا انتصاره ومرددا ببهجة “حانت ساعة الانتقام من الأتراك”.
وتخلد لقطات الكاميرا نظرته الباردة والمحتقرة للأطفال الذين تم اعتقالهم وهو يربت على أكتافهم قبل اقتيادهم للإعدام، وكانت الحصيلة مقتل 8000 في واحدة من أسوأ مجازر التطهير العرقي في العصر الحديث.
ولم يجد ملاديتش أي غضاضة في تبرير جرائمه، فالدول حسب منطقه الدموي تولد من القبور، والحدود ترسم بالدم، وكان يعتز بمجازره لأنها حسب أفكاره المريضة جاءت خدمة لوطنه وشعبه، والمثير أن جزءا من مواطنيه مازالوا يؤمنون بهذا الرجل ويرى فيه القائد العسكري العظيم.
ومن الأمثلة على ذلك المقابلة الهاتفية التي أجرتها معه الإذاعة الصربية بعد إدانته بالسجن المؤبد، ففي نهاية هذه المقابلة لم يخف المذيع الصربي تأثره وختم المقابلة بعبارة “شكرا على كل شيء جنرال”، وهي عبارة تخفي نظرة العديد من أبناء بلده، فحتى داخل الجيش كان يحظى بالاحترام وظل يتقاضى راتبه لغاية سنة 2006، ويرى فيه عدد من القادة العسكريين بطلا مغوارا، ولعل هذا ما وفر له حماية خاصة مكنته من الفرار من العدالة الدولية لـ15 سنة.
عسكري انتصر بالغدر
وخلال الجلسات الأولى لمحاكمة ملاديتش بعد اعتقاله سنة 2011، ظهر العسكري العجوز معتدا بنفسه وصاح في هيئة المحكمة “أنا راتكو ملاديتش قائد عسكري، العالم كله يعرفني ويعرف من أكون”، غرور الرجل الذي ليس له حدود واقتناعه بكونه عسكريا لا يشق له غبار تنفيه الأحداث التي تورط فيها، فكان يحقق نصره إما بتقديم وعود كاذبة بالأمان ثم الفتك بمن استأمنه أو الاستقواء على المستضعفين.
ودفعه غروره لاعتقال المئات من قوات القبعات الزرقاء التابعة للأمم المتحدة، والإمعان في إهانتهم عبر ربطهم بأعمدة أمام عدسات الكاميرات القنوات العالمية ويصرح بعدها بأن “حلف الشمال الأطلسي هو منظمة إجرامية والأمم المتحدة تغص بالزنوج”.
ومن الشهادات العسكرية المهمة في حق ملاديتش هو ما جاء على لسان رسيم دليتش القائد العام للقوات البوسنية سابقا، فيقول هذا العسكري إنه “إذا كان هدف ملاديتش هو احتلال البوسنة من خلال الاعتماد على منهجية التطهير العرقي والقتل والاغتصاب، فقد نجح جزئيا في ذلك، لكن من السهل أن تكون قائدا عسكريا عندما يكون لديك كل هذا التفوق في العتاد والجنود، ملاديتش لم يقاتل أبدا ضد جيش حقيقي، ومن وجهة نظر عسكرية فحتى الحرب فيها بعض المبادئ الإنسانية، وهو كان قائدا عسكريا فاشلا لأنه انتهك كل القواعد العسكرية في الاشتباك”.
فإذا كان ملاديتش عسكريا فاشلا، ما الذي يجعل عددا من مواطنيه يخلدون اسمه ويقدورنه، وهو ما يؤكده الصحفي البريطاني إد فوليامي الذي غطى مجزرة سربرنيتسا وكان من بين الصحفيين الذين واجهوا مالديتش خلال محاكمته، ويقول الصحفي في مقال في صحيفة غارديان إن الجنرال مازال محبوبا في المناطق التي تم تهجير أهلها لصالح الصرب، ويقول صاحب كتاب “حياة طويلة للحرب.. البوسنة – الاعتقاد”، إن الحياة في البوسنة تعيش على وقع استقطاب شديد، كل طرف يحاول الانعزال عن الآخر ومشاعر الكراهية في تزايد مستمر، ويؤكد أن ملاديتش يمكن أن يعيش مرتاحا في محبسه بعد أن “أتم مهمته في زرع شجرة الكراهية والعنصرية التي يصعب اقتلاعها”، وهذه خلاصة مفزعة تجعل من جريمة ملاديتش عابرة للعصور.