المغربية آسية الوديع.. أم السجناء وبنت المناضلين وأختهم
خاص-الوثائقية

عندما زار الملك محمد السادس إحدى المؤسسات العدلية في المغرب عام 2000، كان في استقباله العديد من المسؤولين وجميعهم انحنوا جدا لتعظيمه وتقبيل يده، ما عدا سيدة قصيرة القامة رفضت الانحناء ولكنها صافحته بحرارة وأمسكت بيده طويلا.
وفي المساء استُدعيت السيدة للقصر فسرى الرعب بين عائلتها وأصدقائها، فقد كانت البلاد قريبة عهد بحقبة الملك الحسن الثاني، وفي العادة من خرج لا يعود في مثل هذه الحالات.
لكن محمد السادس احتفى بها في القصر وطلب منها مرافقته ووزير عدله في زيارة تفقدية غير معلنة لأحد السجون، وفي الطريق سألها عن الشخص الذي تعلمت منه مثل هذا السلوك.
فضّلت المجاملة وردت بأنها تعلمت ذلك من الوزير، لكن الملك رد بأنه يعرف الجهة التي علمتها مثل هذه القيم، وطلب منها أن تحدثه عن عائلتها.
وبالفعل، فالملك يعرف البيت الذي تربت فيه المناضلة آسية الوديع ويعرف أيضا الثمن الذي دفعه والداها وإخوتها جراء تصدّرهم المظاهرات والاحتجاجات والإضرابات المنادية بالكرامة والإنصاف.
بيت التحرر
ولدت آسية الوديع عام 1949 في مدينة آسفي المطلة على المحيط الأطلسي، ونشأت في وسط نضالي، فقد كان والدها محمد رجلا تحرريا وكذلك أمها الأديبة ثريّة السقاط.
آسية هي البنت البكر للعائلة النضالية، وقد تميزت في مراحلها التعليمية ودرست في المغرب وباريس وحصلت على الإجازة في الحقوق والتحقت بسلك القضاء في مرحلة مبكرة من شبابها.
لكن الغليان التحرري في البيت لاحقها في العمل ولم يناسبها أن تظل قاضية في نظامٍ سَجن والدها ولم يفرج عنه إلا بعد أن تحول إلى هيكل عظمي، ثم رُمي بأخويها خلف القضبان.
مسيرة آسية الوديع ترويها الجزيرة الوثائقية في فيلم بثته مؤخرا بعنوان “المناضلة المغربية آسيا الوديع”. تضمّن الفيلم شهادات مؤثرة من إخوتها ومعارفها وصورا وقصصا من المغرب في سنوات “الجمر والرصاص” في عهد الحسن الثاني، وأخرى من حقبة المصالحة والإنصاف في زمن محمد السادس.
في بداية الفيلم تتحدث أختها عن والدهما محمد الوديع الآسفي الذي خبر النضال والسجون في حقبة الاستعمار وبعد الاستقلال.
وتروي أن والدتها ثريّة السقاط شبت على حب الفن والأدب وأصدرت ديوانا شعريا عن سَجن أولادها، ولها كتاب بعنوان “مناديل وقضبان”.
وفي عام 1965 اندلعت انتفاضة التلاميذ ضد مقررات وزارة التربية والتعليم، ولعلع الرصاص في الدار البيضاء وقُتل المئات، وكانت عائلة الوديع في طليعة النضال.
يعرض وثائقي الجزيرة مشاهد من انتشار الشرطة في شوارع وساحات الدار البيضاء، فيما يظهر الملك الحسن الثاني يُلقي كلمة عبر التلفزيون ويتوعد المتورطين في الزج بالأطفال في التظاهرات ويتعهد بتطبيق القانون.
ويروي صلاح الوديع أن والده كان يحضر ويغيب، وكان أبا روحيا للحركة الاحتجاجية، وتحول بيته إلى ملتقى لمناضلي حزب الاتحاد الوطني ذي العقيدة الاشتراكية.

استفحال القمع
في بداية السبعينيات استفحل القمع في المغرب بعد أن تعرض الملك الحسن الثاني لمحاولتي اغتيال وفقد الثقة في أقرب الناس منه ليدخل المغرب عصر القبضة الحديدية.
وفي تلك الفترة كانت الشرطة دائما تطوق بيت الوديع، لأن والدهم كان في خصام دائم مع النظام وسبق أن سجن وتعرض للتعذيب والمعاملة السيئة وخرج هيكلا عظميا وزنه 25 كيلوغراما فقط.
وفي عام 1974، سار صلاح وعزيز على درب والدهما فشربا لاحقا من الكأس ذاته التي سقاه إياها النظام؛ القمع والسجن والتعذيب.
ويروي صلاح “في هذه الدار حصلت أشياء مهمة، تأسست نقابات وكيانات سياسية وحدثت مقابلات مع صحفيين أجانب”.
وعندما حضر رجال الأمن إلى البيت للقبض على الأخوين عزيز وصلاح، احتجت أختهما القاضية على الإجراء لأنه لم تكن بصحبتهم مذكرة قبض وتفتيش.
لكن احتجاجها لم يجد نفعا، فقد اقتيدا للمعتقل وحكم القاضي بسجن كل منهما 22 عاما، فأطلقت أمهما الزغاريد لحثهما على التجلّد، وعلى الفور رددا مع رفاقهما نشيد الاشتراكيين بالمغرب:
لنا يا رفاق لقاء غدا
سنأتي ولن نخلف الموعدا
فهذي الجماهير في صفنا
ودرب النضال يمد اليدا
سنشعلها ثورة في الجبال
سنشعلها ثورة في التلال
وفي كل شبر سنبعثها
نشيدا يجدد روح النضال
فلا السجن يوقفنا والخطوب
وليس يهدم عزم الشعوب
طغاة النظام مضى عهدهم
وشمسهم آذنت بالغروب ..

وداعا للقضاء
كان ذلك في مطلع الثمانينيات، ويومها استقالت آسية من القضاء والتحقت بمهنة المحاماة، وأبقت على وهج التحرر في بيت محمد الوديع، فكافحت ضد الظلم وخنق الحريات في كل مدن المغرب.
وبعد رحيل الملك الحسن الثاني في يوليو/تموز 1999، أطلق وريث عرشه الملك محمد السادس حقبة الإنصاف والمصالحة، وارتخت قبضة الأمن على المشهد السياسي فتنفس الناس الحرية في المغرب.
وكما كانت حاضرة بقوة في مواجهة الحقبة الأولى، ألقت بثقلها في العهد الجديد وسخّرت وقتها للدفاع عن سجناء الحق العام وتثقيفهم وتمكينهم من التعليم واستعادة إنسانيتهم وكرامتهم.
وفي عام 2000 عُينت آسية الوديع مسؤولة بمركز الإصلاح والتهذيب في سجون الدار البيضاء. تروي زميلتها في العمل المدني الدكتورة تيجانية فرتان “نظام السجون كان قويا وصلبا، فانخرطتْ آسية في العمل الإنساني وكانت تعطي فيضا من المحبة لا حدود له ووجدت ضالتها في السجون”.
تمكنت آسية الوديع من زعزعة نظام مبني على القمع والمحسوبية ويخلع عن السجناء آدميتهم، فدخلت للسجون وتمكنت من التواصل مباشرة مع السجناء.
لفتت جهودُها الملك محمد السادس فتبرع لجمعية مدنية ترأسها بمليار درهم وأطلقت عليها الصحافة أم السجناء في المغرب، نظرا لتكريس وقتها لنزلاء السجون وخصوصا الأحداث منهم.

بصمات حانية
وعندما أدرك المتنفذون مباركة العرش لجهودها كفّوا عن مضايقتها، لتتمكن لاحقا من إقناع السلطات بإنشاء مدرسة متعددة الاختصاصات لتكوين السجناء على مختلف المهن.
وفي مقطع فيديو تتحدث أم السجناء قائلة “الطريق طويل وشاق وأعتقد أن علينا استيعاب هذا والوقوف أمام أي خرق لحقوق الإنسان ولنحقق الكرامة والعزة التي ناضل من أجلها جيل كامل من شباب هذه البلاد، ولحسن الحظ التقت هذه التراكمات النضالية مع الإرادة الملكية”.
ومن ضمن المتحدثين في وثائقي الجزيرة مدرب كرة القدم عزيز بودربالة، حيث يقول “العلاقة بين السجناء وآسية كانت علاقة غير عادية”.
ويضيف أنها استدعته لقضاء وقت مع السجناء للحديث إليهم وتنظيم مباريات بين فريق منهم وآخر من اللاعبين الدوليين السابقين “ولعبنا خارج السجن في مدينتي الدار البيضاء وسلا”.
ويعلق صلاح الوديع على صلابة أخته بالقول إنها لم تكن تعرف معنى المستحيل، ويمكن أن تذهب في وقت متأخر من الليل لمساعدة طفل صغير.
ويضيف “وبعد تقلدها المسؤولية لم تعد تقضي معنا الأعياد وإنما مع السجناء، وتبذل جهدها لجمع التبرعات لتحضر لهم خرافا وعجولا تنحر لهم في السجن”.
وإلى جانب تمكين السجناء من الالتحاق بالتكوين المهني، كانت أول من زودهم بالمجلات وأجهزة التلفاز والأفلام وغير ذلك من وسائل التثقيف والترفيه.
أما المسؤول بمؤسسة محمد السادس للإدماج عزيز بلماحي فيشدد على أنه لا يمكن لأحد ادعاء حماس وإخلاص آسية الوديع في المجال الحقوقي وخصوصا فيما يتعلق برعاية السجناء.
وبعد مسيرة حافلة بالقوة والتحدي، رحلت آسية الوديع في 22 نوفمبر/تشرين الثاني 2012، وودعها المغرب في جنازة مهيبة شارك فيها مستشارو الملك والفنانون والرياضيون وووريت الثرى في مقبرة الشهداء.
ويقول شقيقها صلاح إنه لا يمضي يوم دون أن يعزينا أربعة أشخاص على الأقل في وفاتها رغم مرور أزيد من ست سنوات على رحيلها.