“عم زين على بوابات بيروت”.. عن الشاعر المصري زين العابدين فؤاد

“مين مجنون يلاقي حرب في مدينة فيتركها ويسافر؟”.. إنها الجُملة الشهيرة للشاعر المصري الكبير زين العابدين فؤاد (من مواليد عام 1942)، فقد قالها يوم أن بدأت الغارات الإسرائيلية على لبنان، حيث قامت الحرب إثر الاجتياح الإسرائيلي في يونيو/حزيران 1982، وكان زين العابدين يستعد للسفر والعودة إلى مصر، فالتقى أبو عمّار وودعه، لكن قبل السفر بيوم واحد بدأت الغارات، وإحساس زين العابدين أخبره بأنها ليست مجرد غارة إسرائيلية كما حدث من قبل على منطقة “الفاكهاني”، فقد قرر البقاء والمشاركة في المقاومة والنضال بالكلمة والشعر.
كان زين العابدين -ولا يزال- يؤمن بأن الشعر واللحن أحد أدوات النضال، وأنهما ليسا مجرد ترفيه واسترخاء. أَلَمْ يوضع زين خلف جدران السجن بمصر في عهد السادات بسبب الشعر، وذلك لأن كلماته وصوره الشعرية تُحرّض على مقاومة الظلم، وتُحرّض الشعب على الثورة ضد الجوع؟
في ذلك اليوم من عام 1977 سأل المحقق “هل ستة ملايين إنسان الذين خرجوا إلى الشارع للتظاهر خرجوا بسببي؟”، أجابه المحقق نعم، فمدّ زين العابدين فؤاد يده ليُصافح المحقق قائلا “أشكرك على هذه المجاملة الكبيرة، وأرجو أن تتركني أذهب بحال سبيلي”.
هل حقا كانت مجاملة كبيرة وإلى أي درجة؟ أَلَمْ يُغن قصائده الشيخ إمام وعدلي فخري فكانت الكلمات تُلهِب حماس الناس والطلاب؟ أَلَمْ يصفه الدكتور عماد أبو غازي بأنه “من جيلٍ فَتَح صفحة من صفحات التغيير في تاريخ مصر؟”.
لم تكن مجاملة كبيرة إذن، فقد كان المحقق يُدرك خطورة الشعر وقوة الكلمة الثائرة، خصوصا عندما يكتبها مُثقّف ومُناضِل لا ينهزم، عندما يكتبها شاعر اتخذ قرارا بأن يكسر السجن، وألا يدع فرصة للسجن أو السجّان بأن يكسره. أَلَمْ يصفه كثيرون -وهو نفسه بينهم- بـ”المُتفائل المُحترِف”؟ إنه حقا “قصيدة تمشي على قدمين”، فهو “يسكن الشارع ويسكنه الشارع”.
كان زين العابدين يكتب وفخري عدلي يغني
المقاومة اختيار
قرر الشاعر المصري زين العابدين فؤاد البقاء في بيروت، فكانت الغارة الأولى يوم 4 يونيو/حزيران، وموعد تذكرته للسفر كانت يوم 5 يونيو/حزيران، وظلّ المطار مفتوحا حتى يوم 8 يونيو/حزيران. بذلك الترتيب يُؤكد زين أن الفرصة كانت أمامه كي يترك بيروت ولا يبقى فيها أثناء الحرب، لكنه اختار البقاء، واتخذ قرارا متفائلا بتوظيف سلاحه الشعري، فكوَّن ثنائيا فنيا مع عدلي فخري هناك.
كانت ميزة الثنائي زين العابدين وفخري أنهما كرسا موهبتيهما لمواجهة العدو الصهيوني، حيث كانا يتنقلان بين مواقع الاعتداء والهجوم، وقرّرا أن يصنعا كل يوم أغنية قصيرة جدا، حيث كان زين يكتب وفخري يغني، ويتم ترديد الأغنية خمسين مرة في خمسين مكانا في اليوم الواحد، إلى أن كتب ديوانا عنوانه “أغان من بيروت”، أما كلمات الأغنية الأولى حينها فكانت تقول:
من صبرا للمنارة
من حمرا للشياح
تهتف بنا الحجارة
املوا الطرق سلاح
نحمي ضهور الشوارع
نحمي شمس الصباح
نحمي كل البيوت..
بين الحركة الطلابية وبوابات بيروت
ما سبق من ذكريات وصفحات من تاريخ المقاومة في بيروت ومن تاريخ الحركة الطلابية في مصر، نتعرف عليه بفيلم تسجيلي من جزأين؛ “عم زين والحركة الطلابية” و”عم زين على بوابات بيروت”، وذلك ضمن سلسلة “حبر على الرصيف” التي تقف بقوة وراء جميع تفاصيلها المنتجة الشابة دينا أبو زيد، ويخرجها هشام عبد الحميد.

يهتم الفيلم بتقديم معلومات غزيرة على لسان ضيوفه، حيث يُعتبر الضيف الرئيسي وأصدقاؤه ومجايلوه أساسا فيه. كما يستعين صُنّاع الفيلم بمواد وثائقية أرشيفية بصرية عديدة -سواء لقطات فيديو أو صور ثابتة أو صفحات من مجلات ثقافية- لتلك الفترة التاريخية المشتعلة، خصوصا وقت الحركة الطلابية والدعوة للحرب.
إنسانية العم زين
في الجزء الأول من الفيلم المعنون بـ”عم زين والحركة الطلابية” يتم الحديث عنه بمودة وحب كبيرين، وتقدير رفاق مشواره ومَنْ تأثروا بمبادئه، وبعض مَنْ جمع بينه وبينهم السجن، كما تحدثوا عن البعد الإنساني الذي يُميزه، فيجعله يدخل قلب مَنْ أمامه وعقله، وكيف وقف إلى جوارهم في تجربة الحبس، تحدثوا عن رِفقه بالطلبة، وعن الدعم والمساندة التي كان يتطوع بها للطلاب. وهنا يتحدث أستاذ الأدب الإنجليزي محمد هشام عن تجربة السجن ودور فؤاد في تقديم الدعم النفسي له، وقدرته على الصمود والمقاومة.
كما يتطرق المتحدثون إلى مرحلة البدايات والحركة الطلابية ودوره فيها وتأثير الحركة الطلابية على قرار الحرب، يتذكر زين العابدين أنه مع 1968 بدأت الحركة في المجتمع، وهي حركة رفض واحتجاج، لكن البروز الأقوى كان بين عامي 1971 و1972 خصوصا لحركة الطلاب. وهنا يتدخل الصحفي أحمد سيد حسن ليقول -ربما بقدر من المبالغة قليلا- “لولا الحركة الطلابية لما قامت حرب 1973، فقد كانت الحركة الطلابية أحد أهم عوامل الضغط للقيام بالحرب”.
تتضافر شهادات كثيرين بينهم أحمد بهاء شعبان وحلمي شعراوي والروائي إبراهيم فتحي، وذلك لتُؤكد أن اللجنة العليا للطلبة كانت ملمحا أساسيا في علاقة هؤلاء مع الشاعر زين العابدين، والذي بدأ مشواره الإبداعي مع شعر الفصحى ثم تحوّل إلى العامية.
التقى زين العابدين بمجموعة من جيل السبعينيات منهم حلمي سالم والمطرب عدلي فخري، وإن تأخر هذا الثنائي لمرحلة بيروت، بينما في القاهرة قبل تلك الفترة كان عدلي فخري قد كوّن ثنائيا مع سمير عبد الباقي.
سجن القلعة.. إلهام الشاعر
كانت اللقاءات التي تجمعه بأصدقاء مشواره في البداية تتعلق بالنقاش إزاء شعر العامية والزجل والاعتراض عليهما. كان زين معروفا كشاعر، لكن بعد هزيمة 1967 بدأ التفاعل السياسي والحرب والتظاهرات والخلاف مع النظام.

لا يخلو الفيلم من حديث عن انتفاضة 17 و18 يناير/كانون الثاني 1977 المجيدة، وتتوالى الذكريات عندما تم حبسه في قضية عام 1977 لمدة 18 شهرا، حيث أودع في سجن القلعة، وهناك أضربوا عن الطعام مدة أسبوع من أجل نقلهم إلى سجن آخر، وبالفعل تحقق مطلبهم ونقلوهم إلى سجن طره. هناك كان يُعد لمحاضرات تثقيفية، لكن فجأة يأتيه خبر وفاة زوجته الفلسطينية التي سافرت إلى أمريكا لإجراء جراحة هناك.
وفي السجن كتب زين العابدين عددا من أشهر قصائده. نعم كان الإلهام يأتيه طالما قرر ألا ينهزم، وقرر أن يصاحب الحارسَ السجّان الذي كان يرفض الحديث معهم لأنهم ينتمون لليسار، لكنه قرر ونجح، ولاحقاً تولى الجانب المادي لتعليم ابنة السجان.
“اتجمّعوا العشاق”
المدهش في الأمر أن عددا من القصائد التي تغنّى بها الشيخ إمام تخيل البعض أنها من تأليف أحمد فؤاد نجم، بينما الحقيقة أنها من إبداع زين العابدين فؤاد، والأكثر دهشة أن فؤاد يتلقى الأمر بهدوء فيصحح المعلومة بابتسامة، فلا تشعر أبدا أن صدره مُوغر، أو أنه يشعر بالغبن، أو أن إحساسا ما يخالجه بأن قصائده قد سُرقت منه، مطلقا، فلا تفارقه الابتسامة، ويواصل الحديث بسعة قلب وصدر، كأن ما يهمه أن يصل الشعر للناس ويُؤثر فيهم، وليس مهما مَنْ كتبه.
وهذه واحدة من أجمل قصائده المعنونة بـ”اتجمعوا العشاق في سجن القلعة”، التي يقول فيها:
“اتجمعوا العشاق في سجن القلعة
اتجمعوا العشاق في باب الخلق
والشمس غنوة من الزنازين طالعة
ومصر غنوة مفرعة في الحلق
اتجمعوا العشاق بالزنزانة
مهما يطول السجن، مهما القهر
مهما يزيد الفُجر بالسجانة
مين اللي يقدر ساعة يحبس مصر”
إنها كلمات أبدعها زين العابدين فؤاد مثل قصائد أخرى عديدة، إلى جانب أعماله للأطفال. أما الأمر الطريف أنه استكمل قصيدة كان بدأها أحمد فؤاد نجم.
خرج الشاعر من السجن، ونال البراءة في القضية التي كانت تهمته فيها هي الشعر، لكن اسمه ظل على قائمة الممنوعين من السفر، فرفع قضية على الوزير لرفع اسمه من قوائم الممنوعين من السفر وكَسبها. كانت كلفة القضية آنذاك خمسة جنيهات، وبمجرد صدور الحكم قرّر زين العابدين فؤاد تحقيق حلم السفر إلى بيروت، وحقق الحلم.
بيروت.. لقاء الزوجة الثانية
في الجزء الثاني “عم زين على بوابات بيروت” يتحدث ضيوف الحلقة -وخاصة اللبنانيين- عن أسلوبه الذي يتماهى مع أفكاره ومبادئه وتعاونه مع الجميع. يتحدثون عن زياراته لبيت أطفال الصمود وأبناء الشهداء وتجربته معهم، وأهمية ذلك. وهو أثناء ذلك يتحدث عن تجربته مع الأطفال هناك، والتي لم تكن الأولى ولا الأخيرة، فقد شارك في إصدار مجلة كروان للأطفال في ستينيات القرن العشرين -تحديدا عام 1963- لكنها لم تصمد، وراحت ضحية أحداث “مذبحة الصحفيين” الشهيرة عام 1964.

يتحدث هو عن سفره إلى بيروت عن طريق عمّان عندما كَسِب قضيته، فقد كان القرار بالسفر لمدة شهر. حيث سافر يوم 21 أغسطس/آب 1981، ووصل بيروت يوم 1 سبتمبر/أيلول، وذلك بعد أن أحيا بعض الأمسيات الشعرية في عمّان واتفق على أمسيات أخرى، لكن أثناء وجوده في بيروت أمر الرئيس المصري أنور السادات بالقبض على عدد كبير من المثقفين وعددهم 1536 مثقفا، فقرر زين العابدين البقاء في بيروت.
جمعت بيروت بينه وبين زوجته الثانية للمرة الأولى، فقد كانت ناشطة نسائية قادمة من كندا لدعم المرأة الفلسطينية، فقد ظهرت جوسلين تالبوت لتحكي عن تجربتها في دعم النساء هناك، وعن الصعوبات والمعوقات التي واجهتها، ولكن تدخّل البعض جعلها في البداية غير قادرة على التعبير عن موقفها في خدمة قضية المرأة هناك.
هنا وإن كان الحديث مبتورا، لأنها تبدأ بالحديث عن شيء مهم، أي عن المعوقات، وتتركنا من دون أن تخبرنا كيف انتهى الأمر. وهو أمر تكرر مونتاجيا عدة مرات خصوصا مع زوجها بطل الفيلم، إذ كان هناك أحيانا قطع مونتاجي يفقد الحديث تدفقه ويبدو مبتورا، وذلك رغم الجهد الواضح في الاستعانة بعدد كبير من الضيوف، والتصوير بأماكن متنوعة لها علاقة بالسرد. لكن أيضا يظل الفيلم ينتمي للأعمال التسجيلية التلفزيونية، ويغيب عنه الحسّ السينمائي.
عودة إلى الوطن
يحكي زين أيضا عن زوجته وعن تجربتها، عن اللقاء الأول، وعن رغبتها البقاء في بيروت، وعن قراره بالعودة لمصر مرتين لكنه يعود ويبقى، مرة بسبب السادات ومرة بسبب إسرائيل. لكنه لم يستسلم، وعاد إلى مصر رغم أن قصائده ظلت ممنوعة زمنا طويلا، ورغم أسفاره وترحاله بين أقطار العالم وبين كندا واليمن، لكنه عاد واستقر بأرض الكنانة، وبدأت أعماله تُطبع في وطنه.

ها هو الشاعر زين العابدين فؤاد يقترب من الثمانين ولا يزال يحمل بين ضلوعه قلبا ينبض بالشباب، وروحا متأججة يملؤها الحماس والحيوية والتفاؤل، ولا شكّ في أن حياته وتجربته الثرية لا تزال تحتاج للعديد من الأعمال التسجيلية لتوثيقها لأنه جزء من تاريخ مصر.