حسن ميكري.. رحيل موسيقار أبدع من خارج الصندوق

خاص-الوثائقية

شرب حليب الفن والثقافة في كنف والديه منذ أبصر النور عام 1942، وجمع بين فن الطرب الغرناطي الذي نقله الموريسكيون لحظة لجوئهم الاضطراري إلى مدن شمال أفريقيا هربا من محاكم التفتيش، وبين أناشيد المديح والسماع التي طالما أطربت الأم أسماع أبنائها بترديدها، وودّع الحياة بشهقته الأخيرة التي “عزفها” يوم الأحد 14 يوليو/تموز 2019.

النبرة “الغربية” التي وسمت أغاني حسن ميكري وإخوته منذ ستينيات القرن العشرين، تجد تفسيرها في احتكاك الأسرة بالثقافة واللغة الفرنسيين، حيث تابع حسن وإخوته دراستهم في المدارس التابعة للبعثة الفرنسية شرق المغرب، وهو ما فتح أعين الإخوة “ميكري” على كنوز الأدب والموسيقى الفرنسيين.

و”بما أن والدينا كانا يمنعاننا من اللعب خارج البيت، فقد كنا نمكث بداخله لنسمع الموسيقى. كان لدينا ميل إلى الطرب الغرناطي، لكن مع بعض الفضول تجاه كل من أسمهان ومحمد عبد الوهاب وعبد الحليم حافظ في بداياته وفيروز، في المقابل كانت أغاني أم كلثوم تحبطنا بطول أغانيها. من بين المفضلين لدينا كذلك في تلك الفترة كانت مجموعات الـ”ـبين فلويد” و”البتلز” وعمالقة فن الجاز”، كما يقول الأخ الأصغر لحسن، يونس ميكري.

ودّع حسن ميكري الحياة بشهقته الأخيرة التي "عزفها" يوم الأحد 14 يوليو/تموز 2019
ودّع حسن ميكري الحياة بشهقته الأخيرة التي “عزفها” يوم الأحد 14 يوليو/تموز 2019

ابن الوز

هو حسن ميكري، ابن العائلة الفنية التي تحوّلت إلى “فرقة” فنية بمدينة وجدة، وحملها بساط الإبداع نحو العواصم الكبرى للمغرب، ومنها ذاع صيت “الإخوان ميكري”، كلقب يرادف لونا موسيقيا متفردا نال الإعجاب على مرّ العقود.

وفي الوقت الذي مالت فيه جلّ ورود الزمن الموسيقي الجميل إلى الذبول مع صعود نجوم الشبكات الاجتماعية وموسيقى الشباب، كان حسن ميكري يبحر في الاتجاه المعاكس، حيث استأنف في السنوات الـ15 الأخيرة نشاطه الموسيقي بإصداره ألبوما غنائيا رفقة شقيقته جليلة عام 2004، ثم تحوّل إلى عرّاب لابنه ناصر ميكري، البذرة الخامسة الآخذة في الإزهار.

بدأ حسن ميكري مسيرته الفنية رساما تشكيليا، يخطّ أحلامه وتأملاته فوق بياض لوحاته البيضاء، قبل أن يداعب القيثارة التي استدرجته نحو عشق الموسيقى ليصبح رائد زمانه في فن “الروك” المغربي، وينتزع لقب الـ”موسيقار” رغم اختياراته الشبابية، ويرحل أواسط يولو/تموز 2019 معانقا سماء العالمية.

كان أبو الإخوة ميكري -الراحل حمادة ميكري- فنانا موسيقيا ونحاتا ورساما، بل يعتبره البعض من مؤسسي الفن التشكيلي في المغرب. “كان لوالدي الفضل في اكتشاف الفنان الذي كان بداخلي، ففي الوقت الذي كان فيه إخوتي يغادرون -خلال أوقات فراغهم- المنزل للعب واللهو، كنت أفضل البقاء في المنزل بالقرب من والدي.. كنت أحب مشاهدته وهو يرسم، وأعشق الاستماع إليه وهو يدندن، وهو الأمر الذي جعله يكون على يقين أنني مشروع فنان، فقرر الأخذ بيدي”.

دور الحاضن للبذرة الفنية الذي لعبه مع ابنه ناصر في سنوات عمره الأخيرة، سبق لحسن ميكري أن لعبه مع شقيقته جليلة، وذلك منذ كانت تطرق باب غرفته خفية عن والدتها، يقول حسن ميكري في حوار صحفي سابق، قبل أن يروي كيف اضطر إلى الدخول في مفاوضات عسيرة مع والدته لإقناعها بالسماح لجليلة بالغناء “وتغني أغاني فيروز وأخرى هندية، لاسيما وأنها كانت مولعة بالسينما الهندية، ولا تفوت فرصة مشاهدة جديدها، وهنا اكتشفت صوتها الجميل الذي يشبه الفنانة فيروز“.

حسن ميكري وعائلته
حسن ميكري وعائلته

بدايات ليل طويل

النواة الأولى للمجموعة الفنية برزت عام 1957 حين هاجرت الأسرة من مدينة وجدة في أقصى شرق المغرب إلى العاصمة الرباط في أقصى الغرب. هناك سجّل حسن رفقة شقيقه محمود أولى أغاني المجموعة، وكانت بعنوان “من يوم حبيتك”، وذلك إلى جانب فرقة الإذاعة الوطنية.

ورغم اعتياد الجمهور على وصفهم بالمجموعة، فإن الإخوة ميكري لم يشكلوا في حقيقة الأمر مجموعة غنائية بالمعنى الشائع بقدر ما كان بينهم تكامل. يقول يونس ميكري موضحا كيف كان محمود ملحنا لأغاني جليلة، بينما لعب حسن دور كاتب كلمات أغاني يونس في كثير من الأوقات “لم نشكل مجموعة إلا لفترة محدودة بالمعنى الصحيح للكلمة، فأخوينا حسن ومحمود شكلا ثنائيا رائعا، بينما كنا أنا وجليلة نغني لوحدنا في أغلب الوقت، ولا نلتحق بأخوينا الأكبرين إلا بين فينة وأخرى”.

هكذا كانت العائلة تتكامل أكثر مما تشكّل مجموعة غنائية. فعندما كان الأخوان الأكبران حسن ومحمود يغنيان، كان شقيقهما الأصغر يونس يتولى العزف على القيثارة، بينما تلعب جليلة دور مرددة الكورال. وعندما يغني الأخ الأصغر، يتحوّل حسن إلى عازف موسيقى.. وبين الطابع الحالم للموسيقى العصرية التي سادت الإذاعة والتلفزة المغربيين حينها، وبين نمط غناء المجموعات الشعبية المغرق في الشكوى من بؤس الحياة، اختار الإخوة ميكري العزف على الوتر الأوسط، ونسجوا مسارهم من مواضيع تلامس المشاعر الإنسانية الكونية، فغنوا للجمال من خلال أغان مثل “هي السمراء” و”حورية”، وأنشدوا لوعة الفراق بإبداعات مثل أغنية “ودّعتو”، ودندنوا بترانيم الغياب كما تحكي أغنية “ليلي طويل”..

نعي ملكي

“وإذ نشاطركم مشاعركم في هذا المصاب الجلل الذي لا راد لقضاء الله فيه، فإننا نسأله تعالى أن يلهمكم جميل الصبر والسلوان، ويجزي الراحل خير الجزاء على ما أسداه لوطنه في الميدان الفني من جزيل العطاء، ويتقبله في فسيح جنانه مع الصالحين والأبرار”، تقول التعزية الرسمية التي وجهها الملك محمد السادس إلى أسرة حسن ميكري، بينما كانت لهذا الأخير رفقة إخوته في الفن والبيولوجيا، قصة مثيرة مع والده الملك الراحل الحسن الثاني.

فبعدما شكّل الإخوان ميكري، حسن وأخويه محمود ويونس وشقيقتهم جليلة، استثناء نوعيا خلال موجة ظهور المجموعات الغنائية في مغرب الستينيات والسبعينيات، وفي الوقت الذي كانت جلّ المجموعات تتخذ طابعا “شعبيا” وإن كان ملتزما، واجهت المدرسة الفنية التي أسستها عائلة ميكري صعوبات خاصة بفعل جمعها بين الهموم الشبابية والموسيقى الراقية، حيث كانت أيدي المتحكّمين في أبواب الإذاعة والتلفزيون العموميين تُقصي الإخوة القادمين من أقصى شرق البلاد.

كانت للملك الراحل الحسن الثاني عادات خاصة، من بينها دعوة مختلف ألوان الطيف الفني والغنائي لتقديم عروضهم داخل القصر، وهو ما قاد الإخوة ميكري إلى لحظة لقاء مع الحظ، حين تساءل الملك عن سبب غياب اللون الموسيقي المتميّز للإخوة ميكري عن المشهد الإعلامي، ليأمر بإزالة الحواجز التي كانت تحول دون ولوج أغاني الإخوة إلى خزانة الإذاعة الوطنية دون المرور عبر لجنة الرقابة.

ليلة من ألف ليلة

في أحد حواراته الصحفية النادرة التي أجراها في أواخر عمره مع صحيفة “الصباح” المغربية، روى حسن ميكري تفاصيل تلك الليلة التي جمعته وإخوته بالملك في إحدى حفلات الاحتفاء بذكرى عيد العرش. “قبل انطلاق الحفل، قال الملك بماذا سنبدأ، بصغارهم أم بكبارهم؟ قبل أن يقرر أن يبدأ بالفنانين الشباب، وقال بالحرف “نبدأ بميكري“، وهو دليل على أن الملك كان على علم بوجودنا وبالموسيقى الخاصة بنا”.

كان حسن ميكري يتميّز عن موسيقيي جيله الذي عاصر أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب، بإبداعه نصوصا شعرية بسيطة بلغة تمتاح من السهل الممتنع، لكنه وفي حضرة الملك فضّل اختيار قصيدة لعليم محمود طاعة، حيث تولّت شقيقته جليلة الغناء رفقة موسيقى شقيقيها حسن ومحمود، وهو ما أثار إعجاب الملك وتعليقه بالقول إن هذه الأغنية ينبغي أن تؤدى مع فرقة الأوركسترا السمفونية، وهو ما تم بالفعل بعد ذلك.

واحدة من الوقائع المثيرة التي يرويها كثير من الفنانين المغاربة عن الملك الراحل، والتي تكشف معرفته وتمكنه الكبيرين من فنون الموسيقى، ما قال حسن ميكري قبل سنتين من رحيله إنه عاشه مع الملك، حين وجّه إليه الملك ملاحظة دقيقة عن عزف القيثارة، داعيا إياه إلى استكمال الدراسة في معهد متخصص وهو ما تم بالفعل، “ولجأتُ إلى المعهد البلدي للموسيقى لأتلقى دروسا في العزف، لاسيما وأنني علّمت نفسي بنفسي ولم أتلق الدروس من معلم خاص، إنما بمجهودي الشخصي”.

إعجاب الملك انتهى بإصداره الأوامر التي ألحقت الإخوة ميكري بسلك وظيفة عمومية أعفتهم من عناء العمل إلى جانب الفن، لينطلقوا بعد ذلك في سماء الإبداع بعد استغنائهم عن تقديم عروضهم في الكباريهات وحفلات الزفاف للحصول على مصدر للرزق.

شهد عقد التسعينيات تواريا للإخوان ميكري عن الواجهة الفنية، وهي الوقفة التي كان حسن ميكري يفضّل اعتبارها "استراحة محارب"
شهد عقد التسعينيات تواريا للإخوان ميكري عن الواجهة الفنية، وهي الوقفة التي كان حسن ميكري يفضّل اعتبارها “استراحة محارب”

إجازة جماعية

شهد عقد التسعينيات تواريا للإخوان ميكري عن الواجهة الفنية، وهي الوقفة التي كان حسن ميكري يفضّل اعتبارها “استراحة محارب”، لأن الإنسان حين “يعمل ويحارب يستحق أن يأخذ عطلة وإجازة ليستعيد أنفاسه ويجددها”.

استغل حسن ميكري هذه الوقفة ليركّز على إنتاج أغان دينية ووطنية، شأنه في ذلك شأن شقيقته جليلة التي “انتقلت من الأغنية العاطفية الاجتماعية إلى الوطنية، وذلك للتعبير عن شكرنا للملك الراحل الحسن الثاني بعد المساعدات التي منحها لنا”، بتعبير حسن ميكري نفسه، والذي راح يستغل فترة فراغه ليتعلّم فن الخط الفارسي ويبدع في كتابة الآيات القرآنية لينتج أكبر لوحة قرآنية في العالم.

عودة وإصرار

“كانت رؤيتي للأغنية تتخطى حدود محيطها من خلال اعتمادي إيقاعات خفيفة وشبابية”، يقول حسن ميكري في أحد حواراته الصحافية النادرة عام 2008، مضيفا أن “من يستمع إلى بعض الأغاني التي أديتها مثل “من يوم حبيتك” أو “ودعته”؛ سيقف من دون شك على تلك النغمات الرقيقة والشبابية وكذلك الموسيقى المتجددة التي كنت أراهن عليها للوصول إلى الآخر ليس فقط المستمع المغربي وإنما عموم الناس في كل مكان”.

بعد إصداره واحدا من آخر إبداعاته الفنية، ألبوم 2008 الذي حمل عنوان “الدار البيضاء باي نايت”، عاد حسن ميكري ليؤكد خياره الفني القائم على الزج بين الموسيقى المغربية واللمسة العالمية. “الموسيقى بطبعها لا تعترف بالحدود الضيقة للوطن الواحد. وهذه ليست المرة الأولى التي أمزج فيها بين الموسيقى المغربية والعالمية؛ بل لي تجارب عديدة في هذا المجال.. أنا أحاول دائما أن أسير بخطاً ثابتة قادرة على خدمة ثقافتي كمغربي، ومن ثم ترسيخ مبدأ الانفتاح على ثقافة الآخر” كما يقول الراحل حسن ميكري.

عندما سأله موقع “مغاربية” هل يمكن اعتبار ألبومه الأخير الصادر سنة 2008 دعوة صريحة للانفتاح على موسيقى العالم؟ قال حسن ميكري “هو كذلك. إنه صرخة فنية موجهة للأجيال الجديدة بكل انتماءاتها العربية والغربية، أؤكد فيها بأن الموسيقى لا تعترف بالحدود الضيقة للوطن الواحد بل هي رسالة إنسانية مفتوحة على كل الشعوب وكل الحضارات”.

وعمّن يكون جمهوره قال حسن ميكري “كل الناس وكل الأجيال وإن كنت أحمل في أعماقي رسالة حب وتقدير لكل الذين جعلوا من الفن رسالة سلم وإخاء وانفتاح على ثقافات العالم”.

 دام ديدام دام

واحدة من أبرز إبداعات حسن ميكري الموسيقية هي أغنية “دام ديدام دام” التي ذاع صيتها في أرجاء العالم بعدما غناها الإخوة الأربعة أول مرة عام 1974.

دام ديدام دام دام ديدام دام..
هاي هاهاي هي هاهاي هاي هي..
يحسب ليك زينة ومضوية على الغير
تلعبي بينا وإنتيا طير صغير
من المحال. الحب صعيب وإحنا ماليه
حفظنا أسراره وغامرنا فيه وعشنا ناره ولعبنا بيه

ترانيم ترافقها موسيقى عذبة رددتها أجيال من المغاربة والأجانب على مرّ العقود، إلى جانب عشرات الأغاني التي كانت تبلغ العالمية بمجرد صدورها، لما تتميز به من لمسة موسيقية خاصة. وإلى جانب “دام ديدام دام” غنى الإخوة ميكري ”يا مرايا” و”قالوا لي نساها”.

حصد الإخوة ميكري جوائز رفيعة مثل “الأسطوانة الذهبية” من شركتي “فيليبس” و”بوليدور”، كما غنوا على مسرح الأولمبيا الباريسي منتصف السبعينيات، وحصل “كبيرهم” حسن ميكري على “الرباب الذهبي” من المجلس الدولي للموسيقيين برعاية “اليونسيكو” و”الميدالية الذهبية” من أكاديمية الفنون والعلوم والآداب بباريس.

هناك في عاصمة الأنوار باريس، عبر الإخوة ميكري بوابة العالمية حين قدّموا حفلا باهرا في مسرح “الأولمبيا” عام 1976، ليتوجوا طريقا طويلة بدأت حين أهدى الأب أبناءه قيثارة لابنه حسن، ذات يوم من بدايات سنة 1954.

كان الأب وهو الفنان التشكيلي والموسيقي والعضو في جوقة الطرب الغرناطي لمدينة وجدة، يكافئ ابنه الذي احتل الرتبة الأولى في مسابقة للفنون التشكيلية نظمت على الصعيد الأفريقي، لكنه في حقيقة الأمر منح مفتاح نجومية استمرت زهاء خمسة عقود.

“لم تفارقني القيثارة منذ ذلك الحين، في حلي وترحالي، وفي لحظات فرحي وحزني، تعلمت العزف عليها لوحدي بعصامية كبيرة، وبها قدمت ألحاني التي شكلت بدايات مجموعة الإخوان ميكري“، وفقا للفنان الراحل في حديث سابق لوكالة الأناضول.


إعلان