عبد الحميد الثاني.. أول من عُرضت عليه “صفقة القرن” ورفضها
“عندما يذكر التاريخ اسمك أيها السلطان العظيم
سيكون الحق معك وفي صفك
افترينا عليك دون حياء
وأنت أعظم السياسيين في عصرنا
قلنا: إن السلطان عبد الحميد ظالم
قلنا: إن السلطان عبد الحميد مجنون
قلنا: لا بد من الثورة على السلطان
وصدّقنا كل ما أوعز به الشيطان إلينا
وتسببنا عندما ثرنا في إيقاظ الفتنة وكانت نائمة”[1].
هذه أبيات شعرية مترجمة من اللغة التركية، وناظمها ليس سوى الشاعر رضا توفيق بلوك باشي، أحد رموز المعارضة الشرسة التي واجهها “آخر الخلفاء” العثمانيين، والذي تُجمع كتب التاريخ على أنه أخّر سقوط الإمبراطورية الإسلامية ثلث قرن على الأقل، بينما تنقسم الروايات إزاء موقفه من التسلل الصهيوني إلى فلسطين.
وريث الرجل المريض
صادف وصول عبد الحميد الثاني عرش السلطنة دخول الدولة العثمانية مرحلة وهن باتت تُعرف بنعت “الرجل المريض”، في مقابل دخول أوروبا مرحلة جديدة من التطوّر والفكر الذي بثته الثورة الفرنسية، وأيقظت معه المشاعر القومية لدى الشعوب الخاضعة لحكم الإمبراطوريات[2].
السلطان عبد الحميد الثاني الذي بات التاريخ يحصي العام الأول بعد قرن كامل من رحيله، عاد إلى الواجهة في الشهور الأخيرة، حين حفّزت الصفقة التي تعرضها إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب على الدول العربية للقبول بتسوية نهائية للقضية الفلسطينية، بالمساومة التي تقول بعض مراجع التاريخ إن السلطان العثماني عبد الحميد الثاني تعرّض لها على يد القادة المؤسسين للحركة الصهيونية، ورفضها رغم الإغراء الكبير الذي قدّمه اليهود حينها، بإعفاء الآستانة من ديونها الخارجية عبر دفعها نيابة عنها.
السلطان.. شيطان أم بطل؟
رغم تضارب الروايات التاريخية بين من “تُشيطن” السلطان عبد الحميد الثاني ومن تُلبسه رداء البطولة، فإن عودة التاريخ إلى النقطة التي انطلقت منها دائرة استحواذ الحركة الصهيونية على فلسطين والقدس، أعاد للرواية التي خلّفها عبد الحميد نفسه في كتاب مذكراته إلى دائرة المصداقية، خاصة أن قصة التآمر الداخلي والخارجي على هذا السلطان تكرّرت بعض فصولها مع قادة لاحقين لتركيا أمثال عدنان مندريس وتورغوت أوزال ونجم الدين أربكان ورجب طيب أردوغان[3].
فإلى جانب هدف إستراتيجي للقوى الأوروبية في أواخر القرن الـ19 وبداية القرن الـ20، والمتمثل في تفكيك الإمبراطورية العثمانية وتقسيم أراضيها بين مستعمرات ومناطق نفوذ لهذه الدولة أو تلك، صادفت فترة حكم السلطان والخليفة عبد الحميد الثاني مرحلة سعي الحركة الصهيونية العالمية -مدعومة من بريطانيا- للاستحواذ على فلسطين بواسطة التملّك والاستيطان، لجعلها أرضا “يهودية” عندما يحين موعد سقوط الإمبراطورية وتفكيكها إلى دويلات.
مخططات واجهها السلطان الذي لا تجد حتى المراجع المدافعة عنه حرجا في وصفه بالدكتاتور والمستبد، لما قام به من تعطيل للدستور وتجميد لعمل مؤسسة البرلمان بواسطة سياسات وقرارات حاول من خلالها محاصرة التسلل الصهيوني إلى فلسطين ومقاومة الضغوط والإغراءات الرامية إلى انتزاع موافقته على تهويد فلسطين.
“فرمانات” ضد الصهيونية
أهم تلك الخطوات التي قام بها عبد الحميد الثاني لصدّ الهجمة الصهيونية، إصداره قوانين تمنع الهجرة اليهودية إلى فلسطين، وتربط دخول اليهود إليها بمجيئهم حجاجا أو زوارا عابرين مقابل دفع 50 ليرة تركية والتزامهم بمغادرة البلاد خلال 31 يوما[4].
سلطات الإمبراطورية العثمانية قامت بتعيين متصرّف خاضع بشكل مباشر لسلطة الباب العالي في إسطنبول، وكانت تعمد إلى إبلاغ القناصل بانزعاجها من تجاوز أحد الرعايا المدة المسموح له بها للإقامة في فلسطين، فيما كانت تمنع اليهود بشكل صارم من الاقتراب من منطقة القدس، بل إن المدينة المقدسة أصبحت منطقة عسكرية (سنجقا) مستقلة عن منطقة الشام تتبع مباشرة إلى سلطة الباب العالي.
فترة حكم السلطان عبد الحميد الثاني شهدت أيضا إيصال المياه إلى القدس من مياه “أرطاس” (قرية واقعة بمحافظة بيت لحم)، وذلك سنة 1901. كما تسجّل كتب التاريخ للسلطان عبد الحميد الثاني قيامه بتجديد سبيل قايتباي الواقع بين الصخرة المشرفة وباب القطانين، وبناء المدرسة الرشيدية المقابلة لباب الساهرة خارج السور، كما أُنشئت في عهده السكة الحديد التي تربط المدينة المقدسة بـ”يافا” الساحلية، وذلك بدءا من العام 1892 [5].
محاولات هرتزل
لم تكن مدينة القدس -في فترة اشتداد الهجوم الصهيوني عليها ومحاولات التحايل على السلطان عبد الحميد للتسلل إليها- تتمتع بمكانة دينية ورمزية تاريخية فقط، بل كانت تعيش فترة ازدهاء اقتصادي وتجاري كبير، حيث كان حرفيو وتجار المدينة يستفيدون من تدفقات مالية كبيرة قادمة من أوروبا، مما خلّف حركة توسّع عمراني كبيرة جعلها تتوسّع خلف الأسوار التاريخية.
وبعد ربطها بخط سكة حديد مع مدينة “يافا” الساحلية، كانت فلسطين تتحوّل إلى مركز تجاري شديد الجاذبية، وهو ما أجج المطامع الصهيونية تجاه المدينة المقدسة، بل إن بعض المصادر تذهب إلى أن ممانعة السلطان عبد الحميد في التنازل عنها للحركة الصهيونية، كانت مما عجّل بإزاحته عن الحكم وتفكيك الإمبراطورية العثمانية.
وفي الوقت الذي كان فيه زعيم الحركة الصهيونية العالمية ثيودور هرتزل يوالي زياراته إلى إسطنبول وتقديم عروضه المغرية بسداد جميع الديون المستحقة على الدولة العثمانية تجاه الأوروبيين، كان الباب العالي يوالي إصدار الفرمانات التي تمنع دخول اليهود إلى مدينة القدس وتقيّد وجود الأجانب في فلسطين بشروط صارمة[6].
وتحدث رئيس منظمة الصهيونية العالمية ثيودر هرتزل في يومياته مشيرا إلى عام 1896 قائلا “سوف نقدم للسلطان 20 مليون جنيه إسترليني لإصلاح الأوضاع المالية المتدهورة في تركيا، منها مليونان بدلاً عن فلسطين، و18 مليونا يُمكن استخدامها في تحرير تركيا من الحماية الأوروبية، وشراء سندات ديونها”. عرض لم يتمكن هرتزل من تقديمه مباشرة إلى السلطان عبد الحميد، لأن هذا الأخير لم يستقبله. “قابلتُ ابن الصدر الأعظم وهو مستعد لتفهم مشروعنا والمساعدة فيه، لكن اعتراضه الوحيد هو مصير الأماكن المُقدسة”، وفقا لهرتزل[7].
عاد هذا الأخير في بداية القرن الـ20 لينتزع مقابلة مباشرة مع السلطان عبد الحميد، فقد جرى لقاء استمر ساعتين بين الرجلين في القصر السلطاني. وتنقل مذكرات هرتزل عن السلطان عبد الحميد طلبه في ذلك اللقاء من هرتزل السعي لتخفيف ضغط الصحافة الأوروبية على الأتراك، خاصة في موضوع القضية الأرمنية، لكنه مع ذلك رفض عرض هرتزل بشأن فلسطين، وهو ما حمل هرتزل على كتابة تعليقه الشهير “اليهود لن يستطيعوا دخول الأراضي الموعودة ما دام السلطان عبد الحميد قائماً في الحكم”.
قدر دموي
اعتلى عبد الحميد الثاني منصب السلطان في مشاهد دموية كانت توحي بصعوبة ما ينتظره من مهمة جسيمة، فقد آل الحكم إلى هذا الرجل شهورا قليلة بعد مقتل عمه السلطان عبد العزيز أواسط العام 1876.
وكان هذا الأخير قد وُجد مضرجا بدمائه بعد أربعة أيام من صدور قرار خلعه من الحكم ضمن تفاعلات الضغوط والتدخلات الخارجية القوية وما يرتبط بها من خيوط داخلية.
تتحدث بعض الكتابات عن اغتيال سياسي نفّذته طبقة جديدة ترتبط بالثقافة الأوروبية موزعة بين المدنيين والعسكريين؛ استعجلت رحيل السلطان عبد العزيز الممانع أمام مطالب هذه الفئة من أجل تسريع تنفيذ المطالب الأوروبية[8].
وجرت البيعة لأخي عبد الحميد وهو السلطان مراد الخامس، لكن سرعان ما تم خلعه بدعوى اكتشاف إصابته بالجنون. ونُصّب عبد الحميد تك في إطار مخطط لتغيير شبه شامل لوجه الدولة العثمانية، حيث تم إصدار أول دستور للإمبراطورية بعد فترة قصيرة من تنصيب عبد الحميد.
خطوات الإنقاذ
رغم توليه الحكم عن عمر 34 سنة ومعاصرته الطويلة للسلطة مجسدة في والده السلطان عبد المجيد الأول وعمه عبد العزيز، فإن عبد الحميد كان خاضعا لشبه وصاية الصدر الأعظم مدحت باشا في شهور حكمه الأولى، حملته على إصدار القانون الأساسي للدولة نزولا عند رغبة الطامحين إلى “إصلاحات” على شاكلة الأنظمة الدستورية الأوروبية.
اعتبرت هذه الخطوة أيضا محاولة لوقف نزيف الخسائر في منطقة البلقان، حيث كانت الشعوب المحلية تثور مطالبة بالمساواة في الحقوق مع باقي رعايا الإمبراطورية، مما يفتح الباب أمام كل من روسيا والنمسا لقضم أجزاء من الأراضي العثمانية هناك[9].
وعمد عبد الحميد إلى إجراءات إصلاحية سريعة، خفض بموجبها نفقات قصره، وجعل دفع الديون الخارجية في صدارة أولوياته، وتجسّد ذلك في اتفاق مع القوى الأوروبية عام 1881، أحدثت بموجبه “إدارة الدين العام العثماني”، وذلك لجعل أداء الديون محكم التنظيم.
لم تكن نهاية الحرب العثمانية الروسية في الحقيقة سوى إيذان ببدء مرحلة جديدة من استهداف الإمبراطورية العثمانية، حيث جرى تحريك أوراق أخرى، فتمكّنت فرنسا من فرض حمايتها على تونس، وتمكنت بريطانيا من وضع يدها على مصر، فيما دفعت الحركة المهدية في السودان إلى التمرد على الحكم العثماني والاستفراد بالحكم[10].
مؤامرات الشرق والغرب
التطورات الدولية المرتبطة بمصير الإمبراطورية كانت أسرع مما يمكن أن يُقدِم عليه سلطان حديث العهد بالحكم، فقد وَجد عبد الحميد نفسه في مواجهة حرب غير مسبوقة من نوعها مع روسيا التي لم تتقبل الامتيازات الجديدة التي منحها عبد الحميد للرعايا المسيحيين لدى العثمانيين. فقامت روسيا وبتواطؤ من القوى الأوروبية بشن هجوم كاسح سرعان ما أسفر عن هزيمة مدوية للجيش العثماني أدت إلى انفصال بلغاريا وتأسيسها دولة جديدة خارج سلطة الباب العالي[11].
حملت هذه الهزيمة عبد الحميد على التحرّك والأخذ بزمام المبادرة، حيث أوقف العمل بالدستور وجمّد مجلس “المبعوثان” أي البرلمان، وهي التجربة الدستورية القصيرة التي توقفت في فبراير/شباط 1878، أعقبها توقيع العثمانيين لمعاهدة “سان ستيفانو” التي أنهت الحرب مع روسيا وفقا لمعاهدة لاحقة وُقعت في ألمانيا، مع ما يعنيه ذلك من انفصال بلغاريا ودفع تعويضات مالية كبيرة أثقلت كاهل العثمانيين.
وفي يونيو/حزيران من السنة نفسها، اضطر عبد الحميد إلى توقيع معاهدة جديدة تسلمت بموجبها بريطانيا إدارة قبرص بشكل “مؤقت”. هنا كانت الانعطافة “الاستبدادية” للسلطان عبد الحميد، والتي يراها المدافعون عن سياساته ضرورية لمنع الانهيار السريع للدولة؛ انعطافة كرّسها عبد الحميد بتأسيسه جهازا أمنيا استخباراتيا هو الأول من نوعه يُعرف تاريخيا باسم “جهاز بلدز للاستخبارات”.
سلاح المسيحية
التطور العام للأحداث السياسية الدولية كان يتخذ منحى الصعود القوي للدول الأوروبية وروسيا على حساب الإمبراطورية العثمانية، وهو ما استخدم فيه خصوم الخلافة الإسلامية ورقة الشعوب المسيحية الموجودة تحت الحكم العثماني، حيث تم الاعتماد على هذه الشعوب في إضعاف العثمانيين بواسطة حركات سياسية وتنظيمات تدعو إلى الإصلاح والإقرار بالتعددية والعلمانية.
اعتمد عبد الحميد نهجا يقوم على اللعب على تناقضات الخصوم، فقد تجنّب الدخول في معاهدات دائمة مع أي طرف، مفضلا الجمع بين جميع الخيوط من روسيا إلى بريطانيا مرورا بألمانيا وفرنسا، وذلك بهدف إضعاف صفوف الخصوم وتوظيف بعضهم ضد البعض الآخر.
ورغم ما يوصف به عهده من استبداد، فإن الكتابات التاريخية تسجّل التطور الذي عرفته مجالات الصحافة والنشر وفتح مدارس تابعة للبعثات الأجنبية وبناء حواضر كبيرة على النمط الأوروبي، بل وترتبط بأوروبا بخطوط نقل بحري نشيطة.
هذه المدن تحوّلت إلى بوابات كبرى مشرعة في وجه الشركات ورؤوس الأموال الأوروبية، حيث فتح عبد الحميد باب التنافس بين الأوروبيين لبناء خطوط سكك الحديد والتلغراف، وهنا برز الحضور الكبير لألمانيا الذي حاول عبد الحميد استعماله لتحقيق التوازن مع فرنسا وبريطانيا، وبهذا حصلت ألمانيا على حق بناء خطط سكك الحديد نحو بغداد[12].
المقاومة بسياسة إسلامية
في مقابل الورقة المسيحية التي لعبها الأوروبيون، عمد السلطان عبد الحميد إلى تغيير الخلفية الفكرية للدولة بجعلها أكثر “إسلامية”، على اعتبار أن المسلمين كانوا يشكلون أغلبية رعايا الإمبراطورية، كما أن الدين الإسلامي يعتبر القاسم المشترك بين أكثر المناطق حساسية واستهدافا من جانب الخصوم، وهي المنطقة العربية، خاصة أن بريطانيا كانت تجرّب واحدة من محاولات الاختراق ودق إسفين بين العرب والعثمانيين عبر تشجيع خديوي مصر على التطلّع نحو لقب الخليفة، على اعتبار أن العرب أكثر أهلية لهذا المنصب من “العجم”.
وفيما يعتبره المؤرخون الأوروبيون سببا في نكوص الدولة العثمانية عن مشروع الإصلاح والتحول إلى دولة تعددية منفتحة، يسجّل آخرون أن هذا السلطان سعى إلى بناء هوية إسلامية آسيوية للإمبراطورية بهدف ضمان بقاء الدولة بعد خسارتها لأراضيها الأوروبية. هذا التراجع لم يكن يهم الأرض فقط، بل كان يغيّر من التركيبة الديمغرافية للدولة العثمانية، حيث فقدت خلال هذه الفترة خُمس سكانها، أي نحو خمسة ملايين ونصف مليون نسمة. وفي الوقت الذي كان فيه المسلمون يمثلون 68% من رعايا العثمانيين قبل 1878، ارتفعت هذه النسبة في عهد عبد الحميد إلى 76%[13].
النزوع الاستبدادي الذي أبداه السلطان عبد الحميد، يفسّره البعض بالسعي إلى تحقيق اندماج جديد داخل الإمبراطورية يحدّ من فرص التسلل الخارجي وتحريك الأوراق القومية والعرقية والدينية لإضعاف الإمبراطورية.
ويؤرخ المختصون لحظة الانعطافة الاستبدادية الإسلامية في نهج عبد الحميد في خسارته لشبه جزيرة القرم لصالح روسيا في 1792، حيث بات السلطان يعتبر “أسلمة” شاملة ومطلقة لشبه جزيرة الأناضول السبيل الوحيد لبقاء الدولة، وهو الهدف الذي خدمته نسبيا عمليات التهجير الجماعي التي قام بها خصوم الإمبراطورية في الأراضي التي سيطروا عليها في أوروبا[14].
عودة الخلافة
السياسة “الإسلامية” للسلطان عبد الحميد تُرجمت سياسيا بعودة قوية لمفهوم الخلافة على حساب السلطنة، وتميّز عبد الحميد في ذلك بتقديمه صورة مختلفة عن السلاطين العثمانيين، مظهرا قدرا كبيرا من التقوى والزهد والحرص على التعاليم الدينية.
وبغض النظر عن صدق ذلك من كذبه، فإنه شكّل أداة دعاية فعالة في الأوساط الإسلامية وخاصة العربية، كما أضعفت هذه السياسة الإسلامية إمكانية تحريك ورقة الأقليات العرقية مثل الأكراد والألبان، لكن ذلك أدى في المقابل إلى تأجيج المشاعر القومية لدى الأرمن المقيمين في شبه جزيرة الأناضول، حيث كانت بعض مناطق إقامتهم تشهد هجمات دموية تنفذها مجموعات مسلحة من الأرمن ضد المسلمين، مما أدى إلى رد فعل عثماني صارم وتشجيع لمبادرة “أفواج الخيّالة الحميدية” التي شكلها الأكراد المسلمون لحماية أنفسهم، ويفتح الباب بالتالي أمام الانتقادات الأوروبية والاتهامات بممارسة الإبادة[15].
رفع عبد الحميد شعار “الجماعة الإسلامية”، وراح يستأنف “الفتوحات” بطرق سلمية عبر ربط صلات جديدة مع مسلمي كل من الصين والهند وأقصى جنوب أفريقيا، داعيا إلى توحيد صفوف المسلمين عبر العالم.
كان هذا السلطان العثماني يحاول استباق وصول المخططات الأوروبية إلى قلب العالم الإسلامي وعمل على تحديث أدوات قوة الدولة، فمد آلاف الكيلومترات من خطوط البرق والهاتف، وبنى غواصة وحاول تحديث سلاح الجيش العثماني.
في واحدة من أبرز مشاريع تقوية الجبهة الداخلية، أطلق عبد الحميد مشروع خط سكك الحجاز الذي انطلق تشييده في بداية القرن العشرين ليصل إلى المدينة المنورة عام 1908، مختصرا بذلك رحلة الحج الشهيرة تاريخيا من الشام إلى الحجاز من 40 يوما إلى 4 أيام فقط[16].
شكّل العرب حجر الزاوية في السياسة الإسلامية للسلطان عبد الحميد، حيث قام بتعريب تدريجي للدولة، كما دمج بعض مظاهر الحضارة العربية الإسلامية، واستقطب عددا من قادة العشائر العربية وقرّبهم ليقيموا في إسطنبول رفقة أبنائهم لتطعيم نخبة حكمه بمكون عربي جديد، كما استبدل المناهج الغربية في التعليم بنظيرتها العربية الإسلامية في القرآن والفقه والتفسير..[17].
الفخ الأرمني
كل من الورقتين الأرمنية والعربية شكلتا رأس الحربة في المخططات الغربية لإضعاف وتفكيك الإمبراطورية العثمانية، وذلك من خلال استقطاب بعض النخب وتأسيس الجمعيات السرية واحتضان تنظيمات معارضة، خاصة في باريس وبرلين، وتشجيعها على رفع المطالب السياسية الممهدة للانفصال.
استثمر الأوروبيون أساسا في طلبة المدارس الحربية المتأثرين بالأفكار الغربية، وخاصة منهم المنتمين إلى محافل الماسونية من اليهود المتظاهرين بالإسلام. “وبكل أسفٍ كان على خُبز العدو شيء من السّمن، فلم يستطع بعض الشباب العُثماني المُثقف أن يُفرق بين التطبيق السهل والحُكم الدستوري في بلاد لا تتمتع بوحدة قومية، وبين تعذر هذا الحُكم في الدول التي لا تتمتع بوحدة قومية”، كما يقول عبد الحميد في مذكراته[18].
وفي ذكرى مئوية الثورة الفرنسية عام 1889، تأسست في باريس جمعية سرية تحت مسمى “الاتحاد والترقي”، جعلت على رأس أهدافها عزل عبد الحميد والقضاء على الخلافة وتكريس الحكم العلماني على الطريقة الفرنسية[19].
المؤامرة الكبرى.. السلطان يتنحى
في مطلع القرن الـ20 كانت جبهات أخرى تنضج للتحرك ضد الحكم العثماني بعدما فشلت محاولة اغتيال عبد الحميد سنة 1905. فبعدما ظل منعزلا داخل قصره، قرر السلطان عبد الحميد في أحد أيام صيف 1905 الخروج لأداء صلاة الجمعة في أحد مساجد يلدز، مما أدى إلى احتشاد كبير للراغبين في رؤية السلطان وموكبه. لكن ومباشرة بعد نهاية الصلاة، كان أحد المندسين يفجّر قنبلة قرب طريق السلطان، لكن السلطان نجا في واقعة شهدها جمال الدين الأفغاني، والذي ينسب إليه البعض تولي نشر فكرة النهضة الإسلامية الجديدة تحت راية العثمانيين من خلال توحيد السنة والشيعة[20].
في سياق الاضطراب تحرّكت النمسا بذريعة الثورات الشعبية في البلقان لتبسط سيطرتها على البوسنة والهرسك في أكتوبر/تشرين الأول 1908، وبشكل شبه متزامن أعلنت بلغاريا استقلالها التام والتحق الجزء المتبقي من اليونان بمن سبقه إلى الثورة.
هذا التمرد شبه الشامل وصل إلى عاصمة العثمانيين، حيث عمد بعض الضباط وشباب بعض المنظمات السياسية على التظاهر والمطالبة بالإصلاحات، وهو ما تفاعل معه عبد الحميد بإعادة العمل بالدستور المعلّق، وذلك في يوليو/تموز 1908، لكن الأحداث تطورت في بداية 1909 لتصبح عصيانا شاملا تخللته أعمال عنف دموية، أججها دخول قسم من الجيش على الخط واقتحامه لإسطنبول، ليعمد البرلمان الذي أحياه عبد الحميد لتكليف كل من اليهودي إيمانويل قراصو، والأرمني ارام افندي، والألباني أسد توبيتاني، والخائن العثماني عارف حكمت، لإبلاغ السلطان بقرار العزل، يوم أن دخلوا عليه و قالوا له: “لقد عزلتك الامة”، فرد عليهم قولته الشهيرة: “أنا خليفه المسلمين وسلطانهم وإن كان يجب ان يخلعني أحد فهم المسلمون، أما أحدكم فيهودي، والآخر أرمني وثالثكم ناكر للجميل”.
و حين تم خلعه اجبارا و تهديدا بقتل شعبه قال: “عملتُ 33 عاما من أجل دولتي وشعبي.. الله سيحاسبني، ورسول الله ﷺ هو من يحق له أن يحاكمني.. سلَّمتُ هذه المملكة كما استلمتها.. لم أبِـع شبرًا من الأرض، وماذا أفعل إذا كان أعدائي قد أرادوا تشويه كل خدماتي، وقد نجحوا في ذلك؟”.
كان ذلك في 27 أبريل/نيسان 1909 مستعينا بفتوى للشيخ محمد ضياء الدين، وقد نفي السلطان وأسرته إلى منطقة “سلانيك” القبرصية معقل الماسونية العثمانية واليهود اليونانيين.
هناك مكث عبد الحميد بضع سنوات مشتغلا بحرفة النجارة التي كان يتقنها إلى جانب الحدادة، لكن وصول القوات اليونانية المتمردة إلى “سلانيك” أدى إلى نقل السلطان المخلوع إلى إسطنبول من جديد في نوفمبر/تشرين الثاني 1912، حيث أقام في قصر “بيلار بايي” متفرجا على استكمال مخططات تفكيك الإمبراطورية، إلى غاية وفاته في فبراير/شباط 1918، أي قبل تسعة أشهر من انتهاء الحرب العالمية الأولى، ودفن في مقبرة السلطان محمود الثاني بمراسم جنازة سلطانية.
المصادر:
[1] https://www.turkpress.co/node/46439
[2] https://www.youtube.com/watch?v=tA2U52ZVGQ0
[3]shorturl.at/PRXY4
[4] shorturl.at/npyT3
[5] shorturl.at/iOX27
[6] shorturl.at/fR467
[7] https://www.sasapost.com/story-of-sultan-abdul-hamid-ii-mt/
[8] https://www.lesclesdumoyenorient.com/Abdulhamid-II-sultan-ottoman-1876-1909.html
[9] https://www.lesclesdumoyenorient.com/Abdulhamid-II-sultan-ottoman-1876-1909.html
[10] shorturl.at/eGNP6
[11] shorturl.at/hQ679
[12] https://www.lesclesdumoyenorient.com/Abdulhamid-II-sultan-ottoman-1876-1909.html
[13] https://www.lesclesdumoyenorient.com/Abdulhamid-II-sultan-ottoman-1876-1909.html
[14] https://www.lesclesdumoyenorient.com/Abdulhamid-II-sultan-ottoman-1876-1909.html
[15] https://archive.islamonline.net/?p=9082
[16] https://archive.islamonline.net/?p=9082
[17] https://www.sasapost.com/story-of-sultan-abdul-hamid-ii-mt
[18] https://www.sasapost.com/story-of-sultan-abdul-hamid-ii-mt
[19] shorturl.at/inuAE
[20] https://www.sasapost.com/story-of-sultan-abdul-hamid-ii-mt/